الأسير العليل
عصى البخيل ربه، وحرم نفسه، وأضاع عمره، وسرق نفسه، فهل رأيت في حياتك أحمقَ مِن سارق نفسه؟
لقد تملَّكه الدرهم والدينار؛ فصار له أسيرًا، وبعشقه عليلًا.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
محمد ونيس - مصر
قال تعالى في الحديث القدسي: (( «يا عبادي، لو أن أوَّلَكم وآخركم، وإنسَكم وجِنَّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسان مَسألتَه - ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص الْمِخْيَطُ إذا أُدخل البحر» ))؛ [صحيح مسلم].
أيها الحبيب، ماذا لو جلستَ لحظةَ تأمل وتفكرتَ في خزائن الله؟ هل سألت نفسك يومًا: ما هي خزائن الله؟ وما حدودها؟ هل هي كل الأرض بكنوزها وخيراتها؟ هل هي كل السماوات بما فيها؟ قال تعالى: ﴿ {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } {} ﴾ [المنافقون: 7]، فهل خزائنه هي كل ما في السماوات والأرض؟ هل هي محصورة في ذلك؟ هل خزائنه هي كل ما في الكون؟ آسف يا عزيزي، لا أستطيع أن أجيبك، ولكن يجيبك النبي صلى الله عليه وسلم قائلًا: (( «إن يمينَ الله مَلْأى، لا يَغِيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يَغِضْ مما في يمينه» ))؛ [صحيح الجامع].
الله جل جلاله ينفق منذ خلق السماوات والأرض، ولم ينقص ذلك من خزائنه شيئًا، أتدري لماذا؟ لأن خزائن الملك سبحانه في قوله: {﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾} [البقرة: 117]، فإذا صدر أمره تعالى "كن"، فمتى يتحقق؟ {﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾} [القمر: 50]، فإن كان الأمر كذلك، فهل تنقص خزائن الله أو تنفد؟ ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [النحل: 96].
عزيزي القارئ، أريدك أن تسرح بخيالك معي، لنتخيل معًا أن الله خلق إنسانًا وملَّكه خزائنه، أتدري ماذا يحدث رغم أن خزائن الله ملأى لا تنفد ولا يحدها حدود؟ {﴿ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ ﴾} [الإسراء: 100]، يا ألله! يبخل الإنسان بالنفقة رغم أن خزائن الله لا تنفد، فما أشد بُخْلَك أيها الإنسان!
أخي، لا يهولَنَّك الأمر، وتفكَّر كم يبلغ ملك الله عز وجل، ثم تخيل معي أن الحق سبحانه أعطى جزءًا من ملكه لهذا الإنسان، وجعل أرزاق الناس بيديه، فماذا يحدث؟ {﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ﴾ } [النساء: 53]؛ لا يعطون الناسَ الشيءَ الحقير؛ وذلك لشدة بخل الإنسان وشحِّه؛ {﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ﴾} [الإسراء: 100]؛ فالشحُّ غريزة في نفسه، وأصل في فطرته؛ قال تعالى: {﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾} [النساء: 128]، وكأنَّ الشحَّ صفة حاضرة وملازِمة للنفس لا تنفك عنها.
ومن هنا؛ كان الابتلاء الشديد للإنسان: حبه الفطري الشديد للمال، وبخله الفطري الشديد بالمال.
ولأن الحق سبحانه هو خالق الإنسان، وعالم بمكنونات نفسه، ومدى حبه للمال وبخله به؛ جعل المال اختبارًا وابتلاءً له، فأمره بإنفاق المال في وجوه الخير: {﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ [البقرة: 267]، ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ﴾} [إبراهيم: 31].
ولأن الإنسان شديدُ التعلق بالمال، وليس من اليسير عليه أن ينفق المال دون عِوَضٍ، فقد وَعَدَهُ الله بالعِوض؛ فقال تعالى في الحديث القدسي: «((يا بن آدم، أَنْفِقْ؛ أُنْفِقْ عليك))» ؛ [صحيح مسلم]، ووعده بالخَلَفِ له في ماله: {﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾} [سبأ: 39]، وقد وكَّل اللهُ مَلَكًا يدعو له بالخَلَفِ؛ «((اللهم أعْطِ منفقًا خَلَفًا))» ؛ [صحيح البخاري]، وطمْأنَ قلوب المنفقين، ووعدهم الجنةَ والأجر العظيم؛ فقال تعالى: {﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾} [البقرة: 274]، فهل يجوز للإنسان بعد ذلك أن يمتنع عن الإنفاق في وجوه الخير؟ إن المال ليس مُلْكًا لك، ولكنه ملك الله تعالى؛ فالمال مال الله: {﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾} [النور: 33]؛ فالمالك الحقيقيُّ للمال هو الله، ونحن مُستخلَفون فيه؛ قال تعالى: {﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾} [الحديد: 7]؛ فالمرء حارسٌ على مال الله، الذي أنعم الله به عليه، وكأن الإنسان حارسٌ يعمل على بستان فيه من الخيرات الكثيرُ، ثم جاءه سائل يسأله شيئًا من هذا البستان، فهل يجوز له أن يعطيه دون علمه برضا صاحب البستان؟ وإن كان صاحب البستان هو الذي أرسل السائل، فهل يجوز للحارس أن يمنع عن السائل العطاءَ؟ فكذلك الإنسان لا ينفق المال إلا في مرضاة الله، ولا يمنع المال عن شيء فيه رضا الله، ولا يبخل به عن وجوه الخير، ولكن الناس مع المال انقسموا إلى فريقين:
• فريق جاهدوا أنفسهم، وانتصروا على شحِّها وبُخْلِها، وألزموها أمرَ الله بالإنفاق؛ {﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ } [الحشر: 9]، وهؤلاء هم الكرماء، ولكن دعونا نسأل أحد الكرماء طلحة بن عبيدالله: يا طلحة، كيف انتصرت على شحِّ نفسك وبخلها؟ يقول طلحة: "إنا لَنجد ما يجد البخلاء، ولكننا نصبر".
• أما الفريق الثاني الذين تركوا لأنفسهم العِنان، وعشقوا عينَ المال؛ وهم البخلاء، وعلى رأسهم قارون صاحب الأموال والكنوز؛ الذي قال له قومه: {﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ } [القصص: 77]، فتكبَّر وطغى واستغنى واستعلى؛ {﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾} [العلق: 6، 7]، فأخذه الكِبْرُ والغرور، وشمخ بأنفه بفرح وسرور؛ وقال: {﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾} [القصص: 78]، وهذا حالُ كلِّ عاصٍ لله بخيل، لئيم حقير، منع حق المسكين والفقير، فالبخيل: كل مَن منع الواجب في ماله، سواء كان واجبًا بالشرع كالزكاة وغيرها، أو واجبًا بالمروءة كترك المضايقة والاستقصاء في المحقرات، كحال هذا البخيل الموسِر مع الحمَّال؛ فقد اشترى هذا البخيل الموسر أحمالًا، وأراد من الحمَّال أن يحملها له إلى المنزل، فقال البخيل للحمَّال: بكم تحمل هذه الأحمال؟ قال الحمَّال: بحبَّة، فقال البخيل: هذا كثير، انقص، قال الحمَّال: لا شيء أقل من الحبة، ولا أدري ما أقول، قال البخيل: نشتري بالحبة جزرًا، ثم نجلس فنأكله معًا، ويُحكَى أن الْحُطيئة، وكان من أشهر بخلاء العرب، كان جالسًا أمام بيته وهو يحمل عصًا في يده، فمرَّ به رجل فقال له: أنا ضيف، فأشار الحطيئة إلى العصا، وقال: إنما هي للضيوف.
ومن البخلاء من يمنع النفقة الواجبة عليه، وأكثر من يكتوي بنار البخيل زوجتُه وأولاده، وأكبر دليل على ذلك حكاية صاحب الدَّين الكبير؛ ففي إحدى قرى مصر كان يعيش مع زوجته وولَدِيه في فقرٍ مُدْقِع؛ فقد أحاط الفقرُ بالأُسرة كسِوارٍ حول مِعصم، سافر الرجل إلى إحدى دول الخليج للعمل، فكم تمنى أن يقتل فقره! مكث في سفره ثلاثين عامًا، ثم عاد ليستقر في قريته، ولكنه عاد كما ذهب؛ فالحال لم يتغير، ولا زال الفقر مقيمًا في داره لا يبرحه، عاش الرجل وأسرته على الكَفاف، ينتظرون صدقاتِ المحسنين، وتبرعات أهل الخير، وكان الرجل دائمَ الحديث أنَّ عليه دَينًا كبيرًا ولا يستطيع سداده، وعلى غير موعد خرج الرجل مسافرًا، ولكن ليس إلى دولة خليجية، بل خرج مسافرًا إلى الدار الآخرة، مات الرجل، فلقد عاش فقيرًا، ومات فقيرًا، لم يمضِ على موت الرجل سوى شهر حتى كان ساعي البريد يدق الباب، وسلم الأُسرة خطابًا يحمل اسم الرجل وانصرف، دارت الأرض بهم، وتاهت بهم الظنون، وتذكَّروا الدَّين الذي كان دائم الحديث عنه، وقالوا: لعله اقترض من البنك دَينًا كبيرًا، وباتوا بشرِّ ليلة، فكيف يسددون هذا الدين؟ في الصباح الباكر انطلق الابن إلى البنك؛ ليستطلع الأمر، تقدم إلى الموظف ونبضات قلبه تتسارع، ثم سأله: ما الأمر؟ قال الموظف: أين أبوك؟ طأطأ الولد رأسه، وتساقطت الدموع من عينيه، وقال: مات أبي، فقال الموظف: إن أباك يمتلك ٢٢ مليون جنيه وديعة بالبنك، وهي حقٌّ لكم الآن، فعجبًا والله:
قد يجمع المالَ غيرُ آكلِهِ
ويأكل المال غيرُ مَن جَمَعَهْ
ويقطع الثوب غير لابسه
ويلبس الثوبَ غيرُ مَن قَطَعَه
فلا أدري ما الذي صنعه هذا البخيل؟ أهو سفه من السفاهات، أو درب من دروب الجنون؟ يأبى العقل أن يتقبل ما صنعه هذا البخيل؛ إنه عاش عَيشَ الفقراء، وسيُحاسب حساب الأغنياء، فلا هو فرَّ من الفقر الذي منه هرب، ولا أدرك السَّعَة ورحابة العيش التي إياها طلب؛ فلقد مات بين هربه وطلبه، وعاش حياته كَجَمَلٍ عطشان يسير في الصحراء والماء على ظهرِه محمول، أو كحمار يحمل فوق ظهرِه الذهبَ ولا يأكل إلا التِّبن؛ لقد عاش محرومًا، ومات محرومًا، فلا أدري كيف يفكر هؤلاء البخلاء؟ وأيُّ عقول يحملونها؟ وإليك - عزيزي - قصة هذه المرأة العجيبة؛ هيتي غرين، الساحرة الشريرة، هكذا لقَّبوها.
وُلِدت غرين في أسرة مسيحية ثرية جدًّا، وبالرغم من هذا الثراء العظيم، كانت الأسرة تقدِّس المال تقديسًا عظيمًا، ماتت أمُّها عندما كانت غرين في الثانية من عمرها؛ فانتقلت للعَيش مع جَدِّها، الذي زرع في قلبها حبَّ المال واحترامه، كانت تقرأ لجدِّها أخبار المال من الجرائد وتقارير البورصة، وكانت تحضر اجتماعاته التجارية، عشِقت غرين المال بجنون.
عندما وصلت سن العشرين، اشترى لها والدها خزانة ملابس فاخرة؛ لترتدي الملابس الأنيقة؛ حتى تحصل على زوج مناسب، لكن غرين باعت تلك الملابس، واستثمرت ثمنها في البورصة.
مات والدها؛ فورِثت عنه سبعة ملايين ونصف مليون دولار، ثم تُوفِّيت عمتها؛ فورثت عنها مليوني دولار، ظلت غرين تجتهد في تجارتها؛ حتى صارت سيدة أعمال مشهورة؛ فصارت في زمانها أغنى امرأة في العالم.
رغم هذا الثراء الفاحش، كانت غرين لا ترتدي سوى فستان أسود اللون واحد، وقبعة من النوع الرخيص، وتحمل حقيبة يد نسائية واحدة، كانت تسكن شقةً متواضعةً لا تصلح إلا لفقير مُعدِم، رغم امتلاكها لمجموعة من العقارات، كانت تذهب كل يوم إلى مكتبها وسط شوارع نيويورك المزدحمة سيرًا على الأقدام، أمضت نصف الليل؛ بحثًا عن طابع فقدَتْهُ، ثمنه سِنتان، كانت وجبتها الشوفان التي تسخنه على الْمِدفأة، وأحيانًا تظل اليوم لا تأكل سوى فطيرة تكلفتها سِنتان فقط، لم تكن تستخدم المياه الساخنة، ولا تغسل ثوبها كله، بل الجزء المتسخ فقط، رفضت الزواج خوفًا من طمع الرجال في مالها، ولم تتزوج إلا في سن الثالثة والثلاثين، واشترطت على زوجها أن يتنازل عن ميراثه فيها عند موتها، كان ولداها لا يرتديان إلا الملابس القديمة المستعملة، إذا مرِضَ أحد أفراد الأُسرة كانت تبحث عن العلاج المجاني، وقد قِيل: إن ابنها كُسرت ساقه، فبحثت عن علاج بالمجان، حتى أُصيبت ساقه بالغرغرينة ثم بُتِرت، وصلت ثروتها عند موتها أكثر من مائة مليون دولار، استطاعت غرين أن تكون أغنى امرأة في العالم، وحفرت اسمها في موسوعة جينيس العالمية، ولكن لم تحفرها في باب الأغنياء، بل حفرتها في باب البخلاء، فحصلت على لقب أبخل امرأة في العالم، فالعجب كل العجب من أمر هؤلاء البخلاء؛ يجمعون المال، ويحرمون أنفسهم من أبسط نفقات الحياة، فلماذا يجمعون المال إذًا؟ ما فائدة المال إذا مرِضتُ ولم أتداوَ؟ وما فائدة المال إذا لم ترتدِ به ثيابًا نظيفة، أو تأكل به طعامًا شهيًّا، أو تتصدق به صدقة خفية؟
إن من البخلاء مَن يمرض فلا يتداوى، ويشتهي من الطعام الشهوة، فلا يمنعه إلا البخل بالثمن، ولو وجدها مجانًا لأكلها.
إنهم عشِقوا المال وعبدوه، حتى صار أحدهم لا يستطيع أن ينفق المال، فكلما وضع يده على الدينار لينفقه، يشعر كأن تيارًا كهربائيًّا يسري في يده، بل يعترف أحدهم أنه لا يستطيع إنفاق المال بيديه، فيلجأ إلى التعامل بالبطاقات الذكية وكروت الائتمان.
رأى أحد البخلاء ابنته جائعة، وترتدي ملابس بالية، فرقَّ لحالها، وأراد أن يشتري لها طعامًا وملابسَ جديدة، ولكن من شدة شحِّه وبخله، كان قلبه لا يطاوعه في إنفاق المال، فأذِن لوكيله أن يختلس من ماله جزءًا دون علمه، ولا يجعله ينتبه لذلك؛ حتى تشتري ابنته طعامًا وملابسَ.
يقول أحدهم: عرفت إنسانًا مصابًا بالبخل، وتحدث معي بصراحة بأنه إذا دفع مالًا في علاج أو شراء سلعة، يُصاب بحالة من التوعُّك والكآبة تلازمه عدة أيام، حتى ينسى ذلك الموقف، ولو أخرج من جيبه ريالًا يرتفع ضغطه، وخفقان قلبه، ويُصاب برِعشة وتعرُّق؛ ولهذا يبحث عن العلاج بالمجان، وكل ما هو بلا ثمن يُسعده ويُفرحه، رغم أنه ميسور الحال، وأخبرني أنه لا يعرف التصدق، ولو لبِس ثوبًا جديدًا يمرَض، حاولت معالجته من مرض البخل؛ بإعطائه بعض الصدقات لتوزيعها على بعض الفقراء، ولكنه أخبرني أنه عندما كان يوزع تلك الصدقات، كان يشعر بحالة غريبة تصيبه؛ لأنه يعتقد أن تلك الصدقات من ماله، ولا يتخلص من ذلك الشعور إلا بعد أن يتذكر أنها مقدَّمة من أُناس آخرين.
أحبَّ البخلاء المالَ لذاتِهِ، فتمكَّن من قلوبهم، فإذا انتبهت لحالهم، وجدتهم لا يملكون المال بل المال يملكهم، فصاروا للمال كالأسرى لا يستطيعون منه فِكاكًا؛ حتى صار أحدهم يخاطب الدينار قائلًا:
أنت عقلي وديني، وصلاتي وصيامي، وجامع شملي، وقرة عيني، وأنسي وقوتي، وعُدَّتي وعمادي.
أهلًا وسهلًا بك من زائر، كنتُ إلى وجهك مشتاقًا، يا نور عيني، وحبيب قلبي، قد صرت إلى من يصونك، ويعرف قدرك، ويعظِّم حقَّك، ويرعى قديمك، ويشفق عليك، ثم يُغلِق عليه كيسه.
يغلق البخيل على المال كيسه، ويبخل على نفسه، حتى تأتي منيَّتُه، فيرحل ويترك المال كله، ويُحاسب عليه كله: (( «من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه» ؟))؛ [صحيح الترمذي]، عصى البخيل ربه، وحرم نفسه، وأضاع عمره، وسرق نفسه، فهل رأيت في حياتك أحمقَ مِن سارق نفسه؟
لقد تملَّكه الدرهم والدينار؛ فصار له أسيرًا، وبعشقه عليلًا.