الثورة السودانية التي دمرت نفسها
كيف انساقت الجماهير وراء سراب اسمه دولة مدنية وهم يرون ما يسمى المكون المدني ومعظم أعضائه يعمل لصالح دوائر خارجية ودول إقليمية؟
ينتظر السودان تحديات أشد من الحرب الدائرة الآن بين الجيش وقوات الدعم السريع التي يعاني منها السودانيون، بسبب الاتفاقات التي أبرمت تحت ضغط الحشود في الشوارع التي انساقت بلا وعي وراء حفنة من السياسيين الانتهازيين الذين رفعوا شعار الدولة المدنية ولكنهم أسسوا لنظام مليشياوي برأس مدني يعمل على تفكيك الدولة وتقسيمها.
في الوقت الذي يدعو فيه الاتفاق الإطاري الأخير إلى تفكيك الجيش والمخابرات والشرطة، تحت عنوان الإصلاح العسكري والأمني والتخلص من أي وجود لعناصر النظام القديم؛ تم الإبقاء على قوات الدعم السريع كما هي بشكلها القبلي مع إعطاء المشروعية لها، وتقنين وجودها لتكون جهازا نظاميا، ونقل تبعيتها من الجيش إلى رئيس الوزراء!
ولتأكيد الطابع المليشياوي للنظام الجديد تم ضم 6 من قادة الحركات المسلحة إلى مجلس الأمن والدفاع الذي يرأسه رئيس الوزراء المدني، ودمج قوات المليشيا الانفصالية في الجيش وفقا لنظام الحصص الوارد في “اتفاق جوبا” الذي هندسه ووقع عليه رئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك، والذي بمقتضاه سيتسلم قادة المليشيا حكم الولايات السودانية بدون انتخابات!
بالتأكيد كان فشل نظام البشير والانهيار الاقتصادي من الأسباب التي أدت إلى الثورة، فالجوع ليس بعده شيء يدعو الناس إلى الصبر، لكن الطبيعي أن يبحث السودانيون عن حقهم في اختيار من يحكمهم وألا يترك الشعب الثائر زمام المبادرة لحفنة من أدعياء الديمقراطية الذين شاركوا في الانقلاب على الثورة.
كيف انساقت الجماهير وراء سراب اسمه دولة مدنية وهم يرون ما يسمى المكون المدني ومعظم أعضائه يعمل لصالح دوائر خارجية ودول إقليمية؟ ولماذا تقبلت الأقلية المحترمة في المكون المدني أن تكون غطاء لعملية التضليل والخداع؟ ولماذا لم يدافعوا عن ثورتهم ويطالبوا بأن يكون الصندوق الانتخابي هو الوسيلة لتأسيس النظام الجديد؟
يبدو أن محترفي السياسة في العالم العربي يتشابهون في الكثير من الصفات، فهم يخافون من الانتخابات لأنها ستكشف ضعفهم وقلة أنصارهم؛ لذا نراهم يهربون من صندوق الانتخابات فرارهم من الأسود الغاضبة، ورغم خلافاتهم وصراعاتهم فهم يتفقون على الخوف من اختيار الشعب للسياسيين الذين يتمسكون بالهوية الإسلامية.
ولأن السياسيين الانتهازيين ضعفاء فهم يطلبون من الجيش أن يسلمهم السلطة وعند ما رفض هاجموه وبحثوا عن البديل فكان هو حميدتي قائد قوات الدعم السريع، ولأنه أضعف منهم تحالفوا مع الدوائر الخارجية التي تجمع كل الطامعين، فأصبحوا مجرد أدوات في أجندة التفكيك والتقسيم المدروسة والموضوعة مسبقا، وبعد أن يؤدوا المهمة سيتم الخلاص منهم وتوظيف آخرين غيرهم يكملون اللعبة.
لا يمكن تبرئة قادة الجيش الذين لم يعوا أنهم أضعف اللاعبين على الأرض، فكل الأطراف كانت ضدهم، ولكن بسبب الطمع في الحكم تهربوا هم أيضا من إجراء الانتخابات فدخلوا في المتاهة ووقعوا تحت الضغط والابتزاز، بدلا من أن يحموا الثورة ويحموا أنفسهم مما ينتظرهم من تفكيك ومطاردة، فاختاروا طريق الغواية ولم يحتموا بالشعب الأقوى من كل الأطراف الداخلية والخارجية.
العداء للإسلام والهوية
القاصي والداني يعلم أن مصدر قوة السودان ووحدته في الاعتصام بالإسلام، ولكن ما تم خلال السنوات الأربع الماضية كان انقلابا على كل الثوابت، والمجاهرة بالعداء للانتماء العربي والإسلامي، والدعوة إلى دولة بلا هوية، رغم أن أغلبية الشعب من المسلمين خاصة بعد انفصال الجنوب.
كل الوثائق الدستورية والاتفاقات الإطارية تتحدث عن اختراع هوية جديدة بديلة عن الهوية الإسلامية، والدعوة إلى إبعاد الدين عن الدولة، وإلغاء اللغة العربية، والدعوة إلى إحياء اللغات الأخرى وجعلها أساسية في مناهج التعليم، بل وصلت المطالب إلى ما لم يكن مفهوما غير أنه من باب المكايدة مثل “إعادة كتابة تاريخ السودان”.
هل كراهيتهم لنظام البشير الذي سقط وانتهى تبرر لهم تقسيم السودان وتفكيكه باسم الفدرالية في دولة قبلية مترامية الأطراف؟ وهل سيكون هناك سودان بعد تفكيك الجيش السوداني آخر ما تبقى من عناصر الوحدة بعد تنفيذ الاتفاق الإطاري؟ وماذا سيكون لهؤلاء الموقعين بعد أن يسلموا بلدهم إلى الدوائر المتربصة التي فصلت جنوب السودان وقطعت شوطا في عزل دارفور ووضعت الشرق والشمال والوسط على خريطة التقسيم في اتفاق المكون المدني مع الحركات المسلحة في اتفاق جوبا الكارثي الذي نص الاتفاق الإطاري على تنفيذه؟!
خرائط التقسيم
ما لم تحدث معجزة تصحح ما يجري في السودان فسيكون العالم أمام أكبر عملية تفكيك لدولة، سيصل زلزال انهيارها إلى الدول المجاورة، وأول المضارين مصر، فالطبيعة القبلية للسودان وانتشار السلاح يزيدان من سرعة حدوث الصدام، خاصة إذا نجحت خطط تفكيك الجيش السوداني وتسليم الخرطوم للحركات المسلحة.
خطط التقسيم وإعادة رسم الخرائط في الشرق الأوسط ليست نظريات سرية في سراديب أجهزة المخابرات، وليست مجرد أفكار خيالية في الكتب، وليست أوهاما ومؤامرات كما يدعي واضعو خطط التضليل، وإنما أصبحت واقعا يتم تنفيذه؛ ففي العراق واليمن وليبيا يتم التقسيم بشكل كامل، وفي سوريا يجري بجيوش غربية وإقليمية، وللأسف يجري التقسيم في السودان بمشاركة بعض أهله.
كل خرائط التقسيم المنشورة في الإعلام الغربي، أساسها الخطة الإسرائيلية التي نشرت في المجلة الصهيونية كيفونيم في فبراير 1982، وقد أعدها الصحفي أوديد إينون، وتدعو إلى تفتيت الدول العربية والإسلامية الكبيرة، لأنها تشكل خطرا مستقبليا على “إسرائيل”، من المغرب وحتى باكستان ومن تركيا حتى السودان، وقد تبنى الأمريكيون الخطة وبدؤوا تنفيذها في عهد جورج بوش، وقد تسربت الخرائط التى شارك في إعدادها المفكر اليهودي المعادي للإسلام برنارد لويس لتكون جزءا من السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
وقد دفعت أمريكا والدول الغربية ثمنا باهظا في احتلال العراق وفرض التقسيم بالقوة المسلحة؛ لذلك أصبح الاعتماد على طوائف وأعراق محلية بديلا مفضلا أقل كلفة، كما يجري في سوريا واليمن، وهنا تأتي خطورة مشاركة قوى سودانية داخلية -بوعي وبدون وعي- في مخطط التقسيم وتحقيق أهداف الدوائر الخارجية.
***
رب ضارة نافعة، فقد يكون ما يجري في السودان بداية لاستيعاب حقيقة ما يجري، وسببا لزيادة وعي الشعب وتعديل اتجاه الحركة بشكل صحيح، فليس كل المدنيين ملائكة كما أنه ليس كل العسكريين شياطين، فمعيار التقييم للمدني والعسكري هو الموقف من التحرر والاستقلال والخلاص من التبعية للهيمنة الخارجية، وقبل كل ذلك احترام الإسلام عقيدة الشعب.
المصدر : الجزيرة مباشر
- التصنيف: