الذوق حياة
ما أحلى هذا الصباح، وما أجمل هذه النسمات العليلة، سبحان الذي أقْسَمَ فقال: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}
ما أحلى هذا الصباح، وما أجمل هذه النسمات العليلة، سبحان الذي أقْسَمَ فقال: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18]؛ تنفُّسٌ يأخذك من دنيا الناس إلى عالمه الخاص، يضفي عليك من السكينة والهدوء وراحة البال ما يخفِّف من وطأة الحياة وهمومها...هذا ما تشعر به حينما تكسب أنفاس الصباح الأولى، خصوصًا إن كنتَ قد اخترتَ لك قَالَبًا مناسبًا تستقبل فيها تلك اللحظات؛ مسجدًا ترتِّل فيه بعض الآيات، أو حديقةَ تخالط فيها بعض الشجيرات، أو تفعل كما فعلتُ أنا؛ إذ اخترتُ ساحل البحر، أسمع هدير الأمواج وهي بيْن بيْن، وتهب عليَّ نسمات الهواء من الجانبين، فسبحان من خلقَ وبرأ وصبغَ وأنشأ.
في ذلك العالَم كنتُ أمشي، مسلِّمًا نفسي بالكُلِّية، يتملَّكُني ذاك الشعور الذي وصفتُ بعضه، وما خفي منه في كياني أكبر وأكثر، وبينما أنا على ذلك البساط السحري؛ إذا بطفيليٍّ يتدخَّل بلا خجل، فينتهكُ الشعور، ويستهدف المشاعر، ويلوِّثُ الجو، ويقطع عليَّ تلك اللحظات الجميلة، ويرمي بدائه تلك النسمَات العليلة...كل ذلك يفعله بأنفاسِه التي قلبتْ كل الأنفاس، وبدَّل بذوقه وإحساسه ذلك الإحساس، فهل – بالله عليكم- يجوز له أن يفعل؟ هل هذا الكائن يملك إحساسًا يشارك فيه الناس إحساسهم! أم أن له جوه الخاص الذي به يلغي كل جو، ويحطم به كل ذوق!
اضطررتُ لسدِّ أنفي، وحثيتُ الخُطا؛ أحاول بذلك تجاوز مصدر الإزعاج ومُخرجاته بأقل الخسائر، وحسبتُ ستَّ خطواتٍ خارجةً من اللوحة الصباحية الناصعة... يا لله؛ كيف يجرؤ هؤلاء على انتهاك أعراض الأذواق الجميلة، والأحاسيس الفضيلة!
لا أخفيكم أني – وأنا في هذه الحال - أفرغتُ غضبي، وقلتُ – ولكن في نفسي-: عجيبٌ أمر هؤلاء القوم! هل يملكون ذوقًا أو إحساسًا؟ وإذا كانوا يملكون؛ فهل لتلك الأذواق مقدار؟ أم أنهم قد دفنوها في مشاعرهم بلحظات (خَرْمَة)، وبها لم يرعَوا للآخرين ذوقًا ولا حُرْمة! لا لا، لن أبالغ إذا ما قلتُ إنه نُزع منهم جزءًا مهمًا من الحياء، ألم يرِدْ في الحديث: «إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت» ؟ وها هو هذا قد صنع ما شاء في أي مكانٍ يشاء بلا رادعٍ من ذوق، أو زاجرٍ من عقل!
لستُ متطرفًا بكلامي هذا، أو بمشاعري تلك، فديننا الحنيف؛ دين الفطرة، والسمو، والمعاملة، والأخلاق، إلى درجة أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربنَّ مسجدنا...»، وذلك حتى لا يؤذي الناس وبيت الله وملائكة الله، مع أن هذا طعامٌ حلالٌ زلالٌ، فما بالك بدخَّان كُلُّهُ سُمٌ ناقِع، وشرٌ فاقِع!
يا هذا؛ إن كنت قد ابتُليتَ فاستتِرْ ولك الشكر، وإن كنتَ لا تصبر على (كيْفِكَ) و(خَرْمتِك) فلا تخالط الناس في أماكنهم العامة، أو مُتنزَّهاتهم، أو مواصلاتهم، وإن كان لك من ذلك بُدٌّ؛ فاذهب حينها إلى مكانٍ بعيدٍ مُنعزل، كما تذهب ما لو أردتَ قضاء حاجة، وعلى ذِكْر هذه الإشارة؛ أقول:
أرأيتَ لو أنكَ أحدثتَ حَدثًا عند قومٍ؛ فكيف سيكون ردَّة فعلك وفعلهم؟ ألا ترى أن هذا يُعد عيْبًا؟ مع أنه أمرٌ نافعٌ لك، وغير مضرٍ بمن حولك، بعكس مُخرجات تلك السيجارة التي تتفضل بروائحها الممزوجة مع أنفاسك، وتبقى تنفث دخانها يسرةً ويمنة، تعكر مزاج الآخرين وأجواءهم، وفيهم المريض والصغير والمرأة، وفيهم من لا يطيق ولا يحب ولا يحبِّذ!
هذا مثَالٌ ضربته لك، وبه ذكَّرتُك؛ فأعْمِلَ فِكْرك، واستخدم عقلك، وكُف عن الناس شرَّك، هذا إن لم يكن لك في نفسِك حاجة، ورأيتَ أن أهلك وأطفالك بلا أهمية.
وخلاصة القول لأصحاب تلك العادة السيئة، وخصوصًا حينما يفعلونها بين الناس وفي الأماكن العامة والجميلة: يا هذا؛ لقد كرَّمكَ الله، وجعل أعلاك محَلًا للكلام والجمال، فلا تقلِبه بتلك العادة إلى أن يكون مّحلًا لدخول السيء وخروج الأسوأ، وأَعْمِلِ الحياء الذي لديك، قبل أن تفقده كليًّا من بين يديك.
عسى أن يكون لكلامي أثرًا جميلًا، وأن يُحمَل على السلامة في القصد، وحب وصول الخير، ونشر الفضيلة، ولسوف أعتذر لجميع من يطَّلِع على هذا المقامِ والمقال، وخصوصًا من ابتُلي بهذه الآفة، لئلَّا يُساء فهم بعض ما ورد فيه، وليعلم كل شخصٍ أن أجمل ما فيه هو ما يخرج مِن فيه.
والسلام.
_____________________________________________________
الكاتب: د. محمد علي السبأ
- التصنيف: