نجاة أهل العصر في سورة العصر
يجب على الإنسان أن يراعي زمانه ولا يفرط فيه، فيغتنم أوقاته ويعمرها بعمل الصالحات، حتى لا يعير بها يوم القيامة، ويندم على ضياعها أشد الندم، فالوقت نعمة عظيمة
أيها الإخوة المؤمنون:
قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].
ولنا عدة وقفات مع تلك السورة الكريمة:
أما الوقفة الأولى:
فقد بدأ سبحانه وتعالى هذه السورة بالقسم، وربنا سبحانه يقسم بما شاء على ما شاء، ونحن لا نقسم إلا بالله سبحانه، وإذا أقسم الله بشيء فهذا دليل بيِّن على عظمة المقسم به، والمقسم عليه به هو "العصر"، والمقصود به على القول المختار: الدهر؛ أي الزمن كله؛ قال الإمام الطبري رحمه الله: "والصواب من القول في ذلك: أن يُقال: إن ربنا أقسم بالعصر والعصر اسم للدهر، وهو العشي والليل والنهار، ولم يخصص مما شمله هذا الاسم معنى دون معنى، فكل ما لزمه هذا الاسم؛ فداخل فيما أقسم به جل ثناؤه"[1]، فهذا دليل على عظمة الزمن وأنه يجب على الإنسان أن يراعي زمانه ولا يفرط فيه، فيغتنم أوقاته ويعمرها بعمل الصالحات، حتى لا يعير بها يوم القيامة، ويندم على ضياعها أشد الندم، فالوقت نعمة عظيمة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» [2]، فقد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرغًا للعبادة لاشتغاله بأسباب المعاش، وقد يكون متفرغًا من الأشغال ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا للعبد ثم غلب عليه الكسل عن نيل الفضائل فذاك الغبن، كيف والدنيا سوق الرباح، والعمر أقصر، والعوائق أكثر؟[3]
وأما الوقفة الثانية:
فقد بين ربنا جل جلاله أن كل الناس في خسران وهلاك إلا المؤمنون، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]؛ والمعنى: أن كل إنسان في المتاجر والمساعي وصرف الأعمار في أعمال الدنيا لفي نقص وضلال عن الحق حتى يموت، وهذا المعنى أولى من غيره؛ لِما في لفظ الإنسان من العموم ولدلالة الاستثناء عليه[4].
ثم استثنى ربنا سبحانه من الخسران والهلاك المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح، فإنهم في ربح لا في خسر؛ لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها.
وهذا الخبر مراد به الحصول في المستقبل بقرينة مقام الإنذار والوعيد؛ أي لفي خسر في الحياة الأبدية الآخرة، فلا التفات إلى أحوال الناس في الحياة الدنيا؛ قال تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197][5].
الوقفة الثالثة: بيان صفات عباد الله الناجين من الهلاك:
أولًا: الإيمان بالله تعالى:
والإيمان هو تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، وأركانه ستة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» [6]، فلا ينجو أحد من الناس حتى يؤمن ويصدق بوجود الله، ويقر بربوبيته وإلهيته، وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ويؤمن بالملائكة؛ يؤمن بوجودهم وبما أخبرنا الله ورسوله عنهم من صفاتهم وأعمالهم، ويؤمن كذلك بأن الله أنزل كتبًا على رسله فيها بيان شريعته سبحانه وبيان أوامره ونواهيه لعباده، ويؤمن بجميع رسل الله عليهم السلام، وأن الله أرسلهم ليدعوا الناس إلى توحيد الله وإفراده وحده بالعبادة دون ما سواه من المعبودات الباطلة، ويؤمن بأن هناك يومًا آخر، يجمع الله فيه الخلائق للحكم فيهم والفصل بينهم، ويؤمن بقضاء الله وقدره وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فمن آمن بهذا نجا، ومن كفر بشيء منه هلك؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة» [7].
ثانيًا: عمل الصالحات:
وعمل الصالحات هو الدليل على وجود الإيمان في قلب الإنسان، قال ربنا جل جلاله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125].
فبيَّن أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، بل ما وقر في القلب وصدقه العمل، وأنه لا أحد أحسن دينًا ممن أسلم؛ أي: انقاد وأطاع بلا حرج ولا منازعة وهذه هي ملة إبراهيم، التي لا يقبل الله دينًا غيرها مهما كثرت الأماني والدعاوى، فالتصديق لا يصح إلا بالعمل؛ وقال الحسن البصري رحمه الله: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، من قال حسنًا وعمل غير صالح، ردَّ الله عليه قوله، ومن قال حسنًا وعمل صالحًا، رفعه العمل؛ ذلك بأن الله يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10].
عباد الله، ولا يكون العمل صالحًا إلا إذا توفر عليه شرطان: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما؛ أي: يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متبعًا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد، فمن فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراؤون الناس، ومن فقد المتابعة كان ضالًّا جاهلًا، ومتى جمعهما، فهو عمل المؤمنين[8].
ثالثًا: التواصي بالحق:
والتواصي بالحق هو أن يوصي بعضهم بعضًا بأداء الطاعات، وترك المحرمات، وفي هذا بيان وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن الإنسان لا ينجو إذا كان صالحًا في نفسه فقط، بل لا بد أن يكون ساعيًا في إصلاح غيره، فيأمر الناس بالحق ويدعوهم إليه، وينهاهم عن الشر ويحذرهم منه، وإلا فالإنسان يأثم إن لم يَدْعُ غيره إلى الخير وينهَهُ عن الشر، ويهلك الجميع، فنحن في سفينة واحدة، يجب أن نتواصى بالحق؛ حتى لا نهلك جميعًا؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا» [9]، ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[10]، فالفلاح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال ربنا تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وفي الحديث عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه، فلا يُستجاب لكم» [11].
رابعًا: التواصي بالصبر:
فالأمر بالصبر أمر جليل، وقد جاء عقب التواصي بالحق والله أعلم؛ لأن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لا بد أن يتعرض للأذى؛ فلذلك أُمر بالصبر؛ كما في قوله جل جلاله عن لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، ويشمل التواصي بالصبر كذلك الصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة، فمن صبر على كل ذلك واحتسب، فأجره على الله، وقد وعد الله أن يوفيَه أجره بغير حساب؛ فقد قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
والصبر هو: حبس النفس وكفُّها عما تكره؛ فهو ثلاثة أقسام: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها، وعن معصية الله حتى تتركها، وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها، فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر، فلا سبيل لغير الصابر أن يدرك مطلوبه، خصوصًا الطاعات الشاقة المستمرة؛ فإنها مفتقرة أشد الافتقار إلى تحمُّل الصبر، وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر، فاز بالنجاح، وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها، لم يدرك شيئًا وحصل على الحرمان، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد، فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم، وكفٍّ لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى، واستعانة بالله على العصمة منها، فإنها من الفتن الكبار، وكذلك البلاء الشاق، خصوصًا إن استمر، فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسدية، ويوجد مقتضاها، وهو التسخط، إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله، والتوكل عليه، واللجأ إليه، والافتقار على الدوام، فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد، بل مضطر إليه في كل حالة من أحواله، فلهذا أمر الله تعالى به[12].
وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:
إذا المرء لم يترك طعامًا يحبـه ** ولم يَنْهَ قلبًا غاويًا حيث يمَّما
فيوشك أن تلقى له الدهر سُبَّة ** إذا ذكرت أمثالها تملأ الفمــــا
وفي الأمر بالصبر مع الأمر بالحق دليل على عظيم مكانة الصبر وشرف أهله؛ يقول العلامة الشوكاني رحمه الله: "وفي جعل التواصي بالصبر قرينًا للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره وفخامة شرفه، ومزيد ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه"[13]، ولمَ لا والله تعالى يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].
عباد الله:
فكما ذكرنا أن نجاة أهل العصر في سورة العصر، فمن اتصف بهذه الصفات الأربع التي ذكرناها، نجا وأفلح، فبالصفتين الأُوليين يكمل الإنسان نفسه، وبالصفتين الأخريين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم.
وهذه السورة سورة عظيمة، حريٌّ بالعبد أن يتدبرها ويعمل بما فيها؛ فقد جمعت خيري الدنيا والآخرة؛ ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"، وقال أيضًا: "الناس في غفلة عن هذه السورة".
ولعظمة تلك السورة كان الصحابة يذكِّرون بها بعضهم كلما تقابلوا؛ فقد روى الإمام الطبراني رحمه الله في معجمه الأوسط من حديث عن أبي مدينة الدارمي، واسمه عبدالله بن حصن رضي الله عنه، وكانت له صحبة، قال: ((كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1، 2] إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر))[14].
فنسأل الله أن يعيننا على العمل بما فيها، وأن يرزقنا التوفيق والسداد في الأمر كله، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
[1] جامع البيان 24/ 589.
[2] صحيح البخاري، ح 6412.
[3] كشف المشكل، ابن الجوزي، 2 /438.
[4] فتح القدير 5/ 600.
[5] التحرير والتنوير 30/ 532.
[6] صحيح مسلم، ح 8.
[7] سنن الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[8] تفسير القرآن العظيم 2/ 422
[9] صحيح البخاري ح 2493.
[10] شرح صحيح البخاري لابن بطال 7/ 13.
[11] سنن الترمذي، وقال: هذا حديث حسن.
[12] تفسير السعدي، ص 74.
[13] فتح القدير 5/ 601.
[14] المعجم الأوسط ح 5124، انظر الصحيحة: 2648.
___________________________________________________
الكاتب: جمال علي يوسف فياض
- التصنيف: