دفاعًا عن مفهوم الحريّة

منذ 2011-10-08

كانت العرب قديمًا تعرف للفضيلة قدرها، وللمروءة مكانتها، وللعرض حرمته، وجاء الإسلام ليعزّز من هذه القيم الفطرية النبيلة في نفوس أبنائه، ويمدّها بقبس من نور الحق وقدسيّة الوحي الإلهي، وكان القدماء يقولون: تموت الحرّة ولا تأكل بثدييها، لتعظيم قيمة الحريّة الحقيقيّة ومعناها في ضمير المجتمع، وروت لنا كتب السنة المشرفة أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عندما أخذ البيعة من النساء على: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قامت هند بنت عتبة وقالت: "يا رسول الله، أو تزني الحرة؟" أي أنها ترى أن هذا الفعل هو مما تأباه النفوس الحرة عند النساء، ولا تقع فيه إلاّ نفس غير حرة، كنفوس الإماء والعبيد، أما الأحرار فهم أصلاً يأنفون فطريًّا من هذا الدنس، ومن الأسف أننا في هذه الأيام نجد أن الأمور قد انقلبت عند بعض المتنفذين في ساحة الإعلام العربي، وأصبحنا نرى من يروّج للحرية على أنها هي هذه المنكرات، وأن الحرة هي تلك التي تتبجح بالفسوق في فعلها وسلوكها، وأن من معالم الحرية أن تشيع في المجتمع روح السقوط والفجور، والأحرار هم من يقبلون بذلك، وأما من يدعون للفضيلة والاحتشام وصيانة الأعراض فهم غير أحرار وهم متخلفون وهم رجعيّون أيضًا، والمصيبة أن التقارير الدولية وحتى المحلية للمنظمات المهتمة بالحرية وحقوق الإنسان تمنح بلاد العرب سنويًّا جوائز الصدارة في إهدار الحريات العامة وحقوق الإنسان، ولكن الحرية الوحيدة المزعومة التي تتقدم في بلاد العرب عامًا بعد عام، هي هذا السقوط الأخلاقي والبجاحة والصفاقة التي يعزّ وجودها في عالم الإنسان، صحيح أن هذه التوجّهات تمثل قلة في الإعلام العربي هذه الأيام، ولكنها -مع الأسف- قلة متفشية في مراكز تأثير واضحة، وتملك أدوات ودعمًا سخيًّا يمكنها من إثارة أكبر قدر من الإرباك في المجتمع العربي المسلم.

أذكر أن إحدى القنوات الفضائية العربية ضاقت بها هموم العرب ومشكلاتهم الكبرى، فلم تجد إلاّ مشكلة "العادة السرية" عند الرجال والنساء لكي تطرحها قضية للنقاش أمام الملايين من المشاهدين، وعلى الهواء مباشرة، إيمانًا منها بالحريّة والشفافيّة! ورتّبت اتصالات هاتفية مع بعض المشبوهات المجهولات، لكي تضيف المزيد من "الإثارة" على الحلقة، ولك أن تتصور مستوى الكلام البذيء الذي تفشّى في مثل هذه البرامج وغيرها، مما أصبح مادة للتندّر على شبكات الإنترنت هذه الأيام، وهو كلام شديد الانحطاط والوقاحة يصعب جدًا ذكره في هذه الصفحة تنزيهًا لها وللقارئ الكريم، والمثير للدهشة في الموضوع أن الناس عندما ضجّت بالشكوى من هذا المجون العلني، والخوف من أن يؤدي بنا إلى أن تفرض الساقطات والمستهترات قاموسهن وقضاياهن على الإعلام العربي، عندما ضجّ الناس هبّ للدفاع عن هذه الموبقات الإعلامية صحف تدّعي الاستنارة والتمدّن وحماية صورة العرب في الإعلام الدولي، وحاولت تقديم أصحاب تلك البرامج بوصفهم شهداء لحرية التعبير والإبداع! وتحويلهم إلى رموز للنضال من أجل الاستنارة والجرأة الخلاّقة! وهاجموا بضراوة من توجّعت ضمائرهم من هذا السقوط وتلك البذاءات.

وفي ساحة الإعلام تحدث كثيرًا عمليات تبادل مصالح بين نشطاء في دنيا الثقافة أو المنظمات الحقوقية، هذا يلمع ذاك فضائيًّا، وذاك يخدم على توجّهات هذا فكريًّا وقيميًّا، أي أن الأمر تحوّل إلى "مقايضة" كرامة الإنسان وعرضه ومروءته بالظهور الإعلامي أو حتى نصرة موقف هذا أو ذاك، والحقيقة أن ثورات الربيع العربي الجديدة أتت في لحظة تاريخية لإنقاذ مفهوم "الحرية" من التحوّل إلى سبّة وشبهة في خيال المواطن العربي، فالحرية لا تعني الانفلات ولا استباحة أخلاقيّات المجتمع، وإنما هي في جوهرها إحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين، سواء كانت تقتضي تلك المسؤولية دفاعك عن حقوق البشر في الكرامة والأمن والعدالة بكل أبعادها الاجتماعية والسياسية، أو دفاعك عن حق البشر أيضًا في حماية قيم مجتمعاتهم وحماية الضمير العام من التعرض للأذى والاستفزاز بطرح ما يجرح مشاعره، أو يهين مقدّساته أو يسيء إلى ما يؤمن به.

المصدر: جمال سلطان-المختارالإسلامي
  • 1
  • 0
  • 1,800

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً