ما معنى أن تكون عزيز النفس؟

منذ 2023-05-23

إنَّ الحديث عن عزة النفس هو حديثٌ بالأساس عن القيم الإنسانية الراقية، وهو حديث عن قاعدة البناء الأخلاقي المتين التي تمنح الإنسان مناعةً نفسية وإحساسًا بالشرف...

 إنَّ الحديث عن عزة النفس هو حديثٌ بالأساس عن القيم الإنسانية الراقية، وهو حديث عن قاعدة البناء الأخلاقي المتين التي تمنح الإنسان مناعةً نفسية وإحساسًا بالشرف، وهو حديث أيضًا عن تراكُمات إيجابية فعَّالة تنحت شخصية الإنسان عبر مراحل متعدِّدة ومسارات متنوِّعة، وفي عصرنا الحاضر هو حديث عن نوعٍ مِن الممانعة ضد النفعية الذاتية والمقاومة أمام الإغراءات القائمة والإكراهات المجتمعيَّة السائدة، وهو كذلك حديث عن تحصين النفس بدرعٍ واقٍ في ظل مجتمع المصالح الذي يكثُر فيه المدحُ الزائف والعبارات النِّفاقيَّة، مجتمع يؤمن بالمظاهر الخارجية والقوة المادية التي جعلت المعتزَّ بنفسه عُرضةً للتبخيس والإقصاء، في مقابل ذلك نجد التشجيع والاحتواء يُمنحان مَنْ يتخلَّى عن عِزَّة نفسه. 

 

وتُعدُّ عزة النفس أيضًا من القيم التربوية والأخلاقية والتَّنْشِئَوِيَّة التي يتحلَّى بها الإنسان النبيل، والتي ترفعه عن كل ما يُقلِّل مِن قيمة نفسه، ولا يتَّصف بهذه السجيَّة إلَّا العظماء الذين يعيشون بعزَّة وكرامة بين الناس، وينفرون مِن مواضع الوضاعة والمهانة، وعزة النفس في العمق تكون ممزوجةً بالتواضُع والوقار، وليستْ هي التكبُّر والتعالي وإقصاء الآخر وتحطيمه؛ لأنها تكمُن في احترام النفس وإبعادها عن كلِّ شيءٍ لا يليق بها؛ أي: الابتعاد عن كل ما يَشين الفعل الإنساني، والكبر والغرور ونبذ الآخر ممَّا يُفسد السلوك البشَري.

 

والشخص العزيز النفس تعرفه تلقائيًّا من تصرُّفاته الظاهرة التي لا تجد فيها أيَّ وجهٍ مِن أوجه الذِّلَّة والخضوع لغير الله، فلا يسمح لأحد أن يستوطنَ شخصيته؛ نظرًا لقوة شخصيته، وسلامة تصرُّفاته ونقاء طبعه، وهذا ما لا يترك أيَّ مجالٍ لأحدٍ بأن يمسَّ ذاته وكرامته، ولا يعني البتة أن عزيز النفس يرى نفسه دون سواه؛ أي: إنه لا يتكبَّر على أحد، ويحترم الجميع؛ بل يحاول خَلْق نوعٍ مِن الوعي الإدراكي عند الآخرين؛ ليرفعوا مِن قيمة ذواتهم المَبْخُوسة.

 

ومِن أهم الفضائل التي يتميَّز بها عزيز النفس:

• يحسُّ عزيز النفس أن عِزَّة نفسه تجلب له السعادة والشعور بالارتياح؛ أي: إنه يستشعر في ذاته راحة ضميره الذي يُوفِّر له سعادة داخلية تجعل صدره يمتلئ انشراحًا، وبذلك تكون عزة نفسه مصدرًا أساسيًّا لشعوره بالفخر والرضا.

 

• يُدرك عزيز النفس جيدًا أنه المسؤول الوحيد عن أفعاله؛ لذا يحذَر كثيرًا من التصرُّف بسلوكٍ يُسيء له، وإن وقع فيما يحذر منه لا يُحاول خلق مُبرِّرات واهية لما فعَله؛ لأنه لا يرضى أن يضَعَ نفسه في موضع المهانة؛ فهو يحترم نفسه، ويعرف حدوده؛ لذا تجده غير قادر على تجاوُز خطوطه الحمراء، كما أنه لا يسمح لغيره بتجاوُز حدوده معه.

 

• يعتمد عزيز النفس على ذاته بالدرجة الأولى، ولا يستغلُّ مجهودات الآخرين، كما يتجنَّب تحميل أعبائه لغيره؛ أي: إنه لا يرضى أن يكون استغلاليًّا وصاحب مصلحته؛ لأنه ليس طماعًا ولا يحمل جشعًا لكي تهفو نفسه إلى ما ليس مِن حقِّه.

 

• يحرص عزيز النفس على ضبط تصرُّفاته، ولا يمكنه أن يتوسَّل لسوى العلي القدير؛ نظرًا لشخصيته المتَّزنة، ولكونه صاحب ثقةٍ عالية بنفسه، كما أنه قد يحبُّ شيئًا ما، ولكن تعزُّ نفسه أن يناله ما دام أنه لا يستحقُّه عن جدارة؛ لهذا لا يُمكنه أن يتخلَّى عن عزة النفس؛ بالرغم ممَّا يواجهه من مواقف وصعوبات في الحياة؛ لذا فعزة النفس تُعطي لصاحبها الاحترام والوقار.

 

• إن كانت لعزيز النفس حاجة عند الآخرين يطلبها بعزَّة نفسٍ، ولا يُذِلُّ ولا يحتقر نفسَه بغيةَ الحصول على ما يطلبه، فحاجتُه للناس لا تجعله ينسلخ عن القيم النبيلة، وبمجرد أن يحسَّ أن نزاهة عرضه وبقاء عزَّته في خطَرٍ يستغني عن حاجته لهم، فترفعه بذلك نفسُه عن منزلة الواهن الضعيف؛ لأن ضياع حاجته لا يُساوي شيئًا أمام أية دنيَّة لنفسه؛ والنفسُ جوهرة ثمينة، فإذا استبدل الإنسان بها أي شيء آخر، فإنه يُصبح مَغبونًا؛ لذا فالنفسُ عند المعتزِّ بنفسه فوق جميع الأشياء، ولا يوجد شيء أثمن منها عنده.

 

إن امتلاك الشخص لعزَّة النفس يمنعه مِن وضع نفسه في مواقف مسيئة لشخصه أو للآخرين؛ أي: إن تصرُّفاته تُوجِّهها القيم والمبادئ التي يتبنَّاها، ولا يمكنه أن يذل نفسه لأحد أيًّا كان، ولا يقبل الإهانة من أي شخص ولو كان ذاك الشخص عزيزًا عليه، كما أنه لا يتعمَّد إثارة عاطفة أي أحد؛ أي: ليس في حاجة لأن يتسوَّل مِن أحد الاهتمام أو الشفقة، ولا يتعمَّد خداع وأذية الآخرين، وتصرُّفاته تخلو أيضًا من التعالي على الناس، فهو على يقين بأن ما به مِن نعمةٍ فمِن الله، ولا يستطيع أحدٌ أن يمنعَه منها.

 

فعزة النفس تتمثَّل بالأساس في احترام النفس، والنأي بها عن المهانة والذُّل، والحذَر من السقوط في النفاق بالسموِّ والبُعْد عن كلِّ مَن يُقلِّل من قيمة المرء ويحطُّ مِن قدره، فالمعتزُّ بنفسه لا يرضى في قرارة نفسه الداخلية أن يُصيب غيره بسلوكيات وضيعة؛ فلا يحتقر أحدًا.

 

ومما لا شكَّ فيه أنه لا قيمة للأشياء التي لا تنال بعزة نفس؛ لذا تجد عزيز النفس لا يتأنَّق بأي قناع ليكسب أي أحد مهما كان، ولا يمكنه أن يخسر صراحته وعفويته من أجل إرضاء غيره، فهو لا يحتاج لمن يتزلَّف له؛ أي: إنه لا يطلب بطريقة أو بأخرى تملُّق الآخرين له، لكي لا تسقط عنه عزة نفسه؛ لأن الذي يريد أن يأخذ قُوَّتَه من إذلال الآخرين وانبطاحهم له لا يمكن له أن يكون في موقع المعتزِّ بنفسه، فمَن يعتزَّ بذاته يعتزَّ بالآخرين، والإنسان حين يكون في وضعية المعتزِّ بنفسه يرفض رفضًا باتًّا ذلك المتملِّق له؛ بل ربما يبغضه، ولكن إذا كان الإنسان مُحبًّا للتملُّق فإنه سيكون في وضعية أخرى؛ لأنه سيطلب مزيدًا من التزلُّف له، فذلك ربما يُعطيه شعورًا بالقوة الزائفة وبهذيان العظمة؛ لذا تجده يطلب باستمرار ولو بشكل غير مباشر أن يكون الناس خاضعين له.

 

ويمكن أن يتضح أكثر مما سبق ذِكرُه من خلال ذكر ما يمكن أن يفرز عن غياب عزة النفس من انحراف سلوكي وعقدي يبرز كثيرًا فيما يلي:

• طغيان الوساطة والمحسوبية، وعدم تكافؤ الفرص - التزلُّف والتسلُّق بدون وجه حقٍّ - تحقيق المصالح والأهداف من غير استحقاق - التقرُّب إلى أصحاب السلطة والجاه والمال لأخذ مصلحة معينة - استجداء عطف الآخرين في مقابل الحصول على شيء ما - الاعتقاد بأن سقوط عزة النفس تهون أمام الحفاظ على المنصب والمكانة - الانسياق نحو المنفعة المادية - الوُصولية البرغماتية التي تجعل الوصول إلى شيء ما أهم من كيفية الوصول إليه.

 

وتبقى الحياة قصيرة جدًّا، ولا قيمة للعيش فيها بدون عزة نفس، فلا داعي لأن يُذِلَّ الإنسان نفسَه لصغار الأمور وإلى ما تشتهيه نفسه الأمَّارة بالسوء؛ لأنه لا يوجد تبرير واحد مُقنِع يستوجب ترك عزة النفس وإسقاطها، فذاتُك أغلى ما تملك، ولا حاجة لك لأن تقايضها بشيء آخر بغية الحصول على منفعة كيفما كانت؛ لذا على المرء أن يعيش ونفسُه بعيدةٌ كل البُعْد عن الانحطاط الذاتي والاحتقار النفسي لشخصه.

 

ولا تأتي عزة النفس هكذا دون جهدٍ؛ لأنها بمثابة ثمار طيبة لمجموعة مِن القيم المغروسة والمستنبتة، كما أنها تتطلَّب منك أن تكون حامدًا شاكرًا في نفس الوقت، وأن تكونَ صريحًا، وتواجه الحياة بشجاعة وقوة، وهذا لن يتمَّ دون امتلاك القدرة على نقد الذات ومعاوَدة النفس والأفكار وتقييمها بشكل دائم.  

أمين أمكاح

كاتب و باحث إسلامي: كاتب مهتم بالشأن التربوي، وبالمواضيع ذات الصلة بكل ما يتعلق بتطوير الذات والبنية الفكرية. باحث في القيم والتواصل؛ متخصص في دراسة سلوك المراهق.

  • 6
  • 0
  • 1,442

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً