صغيري يسامح أم يقتص؟
الأسرة هي المهد الأول والأساس للطفل، فعلي الآباء أن يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم بتعويدهم الحلم والعفو والتسامح، فذلك من شأنه أن يقلل الحقد والغيرة، وعليها أن يفرقوا بين الأمور العادية وبين الأمور التي تؤدي إلي ضياع الحقوق...
- التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة - تربية الأبناء في الإسلام -
اتجاهان تربويان تنقسم حولهما الأسر.. فهناك آباء وأمهات يربون أبناءهم علي ألا يتركوا حقهم وأن يردوا الصاع صاعين لمن يسئ إليهم قولا وفعلا، بينما آخرون يفضلون التسامح والتغاضي وغلق باب الشجار..
لكل فريق مبرراته.. فالأسر التي تربي أبناءها علي المعاملة بالمثل تعلل ذلك بضرورة أن يشب الأبناء أقوياء مهابين لايستطيع أحد أن يضحك عليهم، بينما يلخص المتسامحون أسبابهم في جملة واحدة الطيب أحسن !
التسامح أم القصاص ؟
سؤال مهم يواجه كل أبوين.. يخرج طفلهما من وسط الأسرة المحدود إلي الحضانة أو المدرسة، حيث مجتمع الصغار ومشكلاته ومشاحناته، مما يجعل الطفل يعود كل يوم بشكوي.. فلان ضربني..فلانة دفعتني علي الأرض.. فلان خطف مني طعامي.
ويظل السؤال معلقا.. كيف نربي صغارنا ؟ وهل إن علمناهم القصاص نشأوا عدوانيين؟ وإن ربيناهم علي التسامح صاروا ضعفاء لايخشاهم أحد؟
السطور القادمة محاولة للإجابة
واختلف الآباء:
- نموذج (1):
هناك أمور لا فصال فيها " ومنها أن يتعلم الطفل كيف يأخذ حقه، نحن في زمن القوة والمتسامح علي طول الخط يساء فهمه، ويعامل على أنه أبله ويتعرض للابتزاز والخداع، وقد ربيت أولادي علي ألا يتسامحوا إلا مختارين، بمعني أن يكونوا قادرين علي الثأر لأنفسهم، ولكنهم يتسامحون لوجه الله دون ضعف أو مذلة ".
- نموذج (2):
ذقت الأمرين حين أردت أن أعلم ابني أن يأخذ حقه، فقد صار لايفرق بين شقيقه وزملائه، وبيني وبين هؤلاء الزملاء، يأخذ حقه من الجميع يرفع يده علي إن عنفته ويرد لأخته الإساءة بأكثر منها، وأرجو ألا يكون الأوان قد فات علي تصحيح هذا الخطأ، فقد نسيت وأنا أقول له: خذ حقك أن أوضح له أيضا : يأخذه ممن؟
- نموذج (3):
المشكلة ليست في أن يتسامح الطفل أو يقتص، ولكن في متي يفعل هذا أو ذاك؟
فلا تسامح مثلا إذا سبه أحد في دينه أو أخلاقه.. ولا قصاص إن كان المخطئ بلا حول ولا قوة.
فالمسألة ليست قواعد ثابتة، ولابد أن يتعلم الطفل التفرقة بين المواقف المختلفة وكيفية التصرف في كل منها بما يتناسب معه.
- نموذج (4):
عودني والدي منذ الصغر علي التسامح والعفو عمن أساء إلي، وقد كنت أطبق هذه القاعدة وأنا صغير فأقول لمن يضايقني الله يسامحك، لكنني عندما كبرت بدأت أشعر بأنني لابد أن آخذ حقي بطريقة مقبولة، فمثلا إذا تشاجر معي أحد زملائي في المدرسة فإنني أتوجه إلي الأخصائية الاجتماعية، وأشكو لها فتتخذ اللازم فإذا عاد إلي التشاجر معي مرة أخري فإنني أتوجه إلي الأستاذ -- رائد الفصل - الذي يستطيع أن يؤدب التلميذ المخالف بدرجات السلوك والانتظام، أما إذا حدثت مشكلة بيني وبين أحد أصدقائي في الشارع، وكنت أنا المخطئ أعتذر وإن كان هو المخطئ فإنني أتسامح معه مرة واثنتين ثم بعد ذلك أشكوه لوالده فإن لم يأخذ لي حقي منه أتصرف بنفسي وآخذ حقي بيدي.
ماما قالت لي لا تضرب أحدا وقل : الله يسامحك حتي تدخل الجنة، ولكنني أحب أن آخذ حقي ممن ضربني إلا إذا كان أخي أو صديقي فأنا أحبهما وأسامحهما
- نموذج (5) دعابة أم جد؟
أما محمد (11سنة) في الصف الأول الإعدادي فيقول: عندما ألعب أنا وزملائي في بعض الأحيان يضربني أحدهم علي سبيل الدعابة، فإذا أحسست أنها دعابة فإني أردها بمثلها بمعني أنني قد أضربه برفق كما ضربني خصوصا لأنني أعلم أنه صاحبي ولا يمكن أن يضربني بجد، ولكن هناك من يضايقني في المدرسة أو الشارع ولا أعرفه، فإذا حدث هذا لا أسكت وأضطر أن أرد له الإهانة حتي لايشعر أنني ضعيف وحتي لا يتمادي في مضايقتي دون سبب.
- نموذج (6) تسامح البنات:
وننتقل إلي البنات لنعرف هل يتسامحن في سنهن الصغيرة أم أن العنف والقصاص انتقل إليهن وطغي علي رقتهن وهدوئهن؟.
بنت (6سنوات) تقول: لا يمكن أن أسكت علي من تأخذ حاجتي أو تضربني، فلابد أن أسترد حاجتي منها، وأضربها أيضا، وقد جربت أن أذهب إلي مدرسة الفصل وأشتكي لها ولكنها لم ترد لي حقي في أية مرة، فماذا أفعل؟
وأخرى (5سنوات) فهي عكس أختها تمامًا فلا تلجأ إلي ضرب زميلة لها، ولكن تلجأ دائما إلي مدرسة الفصل حتي تعيد لها حاجتها أو تؤنب زميلتها إذا ضربتها، وتضيف آية: لماذ أضرب من تضربني مادامت أبلة تأخذ لي حقي؟
تسامح النبي صلى الله عليه وسلم:
والتسامح كما يقول د. أحمد الشحات موسي - أستاذ علوم القرآن بجامعة الأزهر: هو خلق كريم من أخلاق المسلمين وأدب رفيع من آداب المؤمنين أمر به ديننا الحنيف ورغب فيه ودعا إليه، وهو خلق أصيل من أخلاق الرسول (صلي الله عليه وسلم) ولقد كان لرسولنا الكريم فيه أطول باع وأوفي نصيب، امتثالا لقول الله تعالي: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وقوله جل شأنه: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}، وكذلك قوله عز من قائل: {فاصفح الصفح الجميل}، ومن هنا كان (صلي الله عليه وسلم) سمحا كريما يدفع السيئة بالحسنة فيعطي من حرمه ويصل من قطعه ويحسن إلي من أساء إليه، فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم من حديث أنس (رضي الله عنه) قال: كنت أمشي مع رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلي صفحة عاتق النبي (صلي الله عليه وسلم) وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يامحمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء وهذا أبلغ دليل علي رحمته (صلي الله عليه وسلم) بأمته، ورفقه بها، وحنوه عليها، وحلمه معها وعفوه عمن تجاوز حد اللياقة منها!.
ويضيف أن سماحته (صلي الله عليه وسلم) مع هذا الأعرابي لا يكبرها ولا يفوقها إلا موقفه يوم ذهب إلي الطائف يعرض نفسه علي أهلها لقبول دعوته، فما كان منهم إلا أن أغروا به سفهاءهم فطاردوه بالحجارة حتي أدموه، فناداه ملك الجبال ليكون طوع أمره فيطبق عليهم الجبلين، فما كان منه (صلي الله عليه وسلم) إلا أن أجابه بقوله: «بل أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لايشرك به شيئا».
لقد كان النبي (صلي الله عليه وسلم) سمحا في كل مواقفه حتي مع من كانوا يناصبونه العداوة، والبغضاء، ويضمرون له الكراهية والشحناء، وما موقفه من أهل مكة يوم أن فتحها إلا دليلا علي نبل خلقه وكرم طبعه وسلامة صدره وسماحة قلبه، فقد وقفوا بين يديه صاغرين، وقد صاروا في قبضة يده يأمر فيهم بما شاء، ولكنه قال لهم كما قال يوسف لإخوته: «لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين».
قدوة حسنة:
الغلبة علي حب التشفي والانتقام نتيجة الغضب الذي يشتعل في جوف ابن آدم لموقف من المواقف مما يكون له أسوأ الأثر في تقطع العلاقات وتدمير الصلات بعكس التسامح الذي يبني ولايهدم ويعمر ولا يخرب، والذي به تسود الألفة بين أفراد المجتمع فيصيرون نسيجا واحدا وشائجه المحبة وسداه المودة.
في حدود:
ومن الناحية التربوية توضح لنا د. سامية خضر - أستاذة التربية بكلية الآداب جامعة عين شمس - مفهوم التسامح حيث تقول: إن موضوع التسامح أو الاقتصاص موضوع مهم وخطير جدا حيث إننا في حاجة لتقليل العنف في المجتمع، وكي يتسني لنا ذلك لابد من نشر التسامح بين جميع أفراد المجتمع والتسامح ليس معناه التخاذل والضعف كما يفهم بعض الناس ولكنه عفو الإنسان وحلمه مع من يجهل عليه ويسيئ معاملته، وتلك من صفات الأقوياء.
وهنا لابد أن نفرق بين التسامح مع الآخرين إذا جهلوا علينا في أمور عادية كبعض المضايقات التي تحدث في الزحام أو عند ركوب المواصلات فهذه أمور بسيطة لابد ألا تستدعي غضبنا وضيقنا بشكل سريع، لكن أن يعتدي علي شخص بضرب أو إهانة دون أي سبب فهنا لابد من وقفه عند حده حتي لا يتمادى في مثل هذا السلوك، فالتسامح يكون في حدود معينة وبضوابط محددة بحيث لا يؤدي إلى إهانة المرء وضياع كرامته.
دور الأسرة:
أما عن دور الأسرة في ترسيخ قيمة التسامح في الطفل منذ صغره فتوضح د. سامية أن الأبوين قدوة لأبنائهما في كل شئ، والأسرة هي المهد الأول والأساس للطفل، فعلي الآباء أن يكونوا قدوة حسنة لأبنائهم بتعويدهم الحلم والعفو والتسامح، فذلك من شأنه أن يقلل الحقد والغيرة ويلغي أي مشاكل قد توجد بينهم وبين الآخرين، ولكن الأم عليها أن تفرق بين الأمور العادية البسيطة التي من الممكن التسامح فيها وبين غيرها من الأمور التي تؤدي إلي ضياع الحقوق، والطفل المتسامح يكون أصح تربويا ونفسيا من الطفل الذي اعتاد القصاص من الآخرين لأي موقف يتعرض له؛ لأن المتسامح تكون نفسه صافية دائما لا يحمل كرها للغير ولا يشحن نفسه دائما بالرغبة في الثأر لنفسه من أي شخص يشعر أنه أهانه.
البحث عن السبب:
- ويري د. أحمد علي بديوي - بكلية التربية جامعة حلوان - أن علي المربين أن يعلموا الطفل كيف يعفو ويصفح عمن أساء إليه فلا يواجه العدوان وإنما يحسن مقابل الإساءة.. ويعفو مقابل الغيظ ويتفهم قوله تعالي: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}.
ويؤكد بديوي في كتابه " طفلك ومشكلاته النفسية " أن ميل الطفل للقصاص والعدوان ليس فطريا، وإنما يكتسبه سواء بالقدوة أو كرد فعل لمواقف بعينها كأن يستفزه أحد فيدافع عن نفسه، وإذا لاحظ الأبوان أن الطفل كثير الإغاظة والأذي لأقرانه أو تنتابه نوبات من الغضب والرغبة في الانتقام، فلابد أن يبحثا عن السبب الذي قد يكون محاكاة من هم في مثل سنهم أو لفت نظر الأبوين أو كثرة التعرض لأفلام العنف أو الحرمان سواء المعنوي أو المادي