وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) }
{{وَقَالُواْ}} أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد، والضمير في: وقالوا، عائد على اليهود الذين يكتبون الكتاب. جمعوا إلى تبديل كتاب الله وتحريفه، وأخذهم به المال الحرام، وكذبهم على أنه من عند الله تعالى.. الإخبار بالكذب البحت عن مدة إقامتهم في النار.
{{لَن تَمَسَّنَا}} تصيبنا {{النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}} قلائل يحصرها العدّ. والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعا للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصودا هنا.
روي عنهم أنهم يعذبون سبعة أيام، عدد أيام الدنيا، سبعة آلاف لكل ألف يوم، ثم ينقطع العذاب.
وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوماً، عدد عبادتهم العجل، وقيل: أربعين يوماً تحلة القسم.
وقيل: أربعين ليلة، ثم ينادي: "اخرجوا كل مختون من بني إسرائيل"، فنزلت هذه الآية تدحض قولهم.
وقد دل هذا القول على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدموا على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياما معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياما عن كل ألف سنة من العالم يوم وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم، فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك.
{{قُلْ}} جوابا لكلامهم {{أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً}} أي وعدا مؤكدا، فمثل هذا الإخبار بالجزم لا يكون إلا ممن اتخذ عند الله عهداً بذلك، وأنتم لم تتخذوا به عهداً، فهو كذب وافتراء.
فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين وليس إنكاري لوجود المعادل وهو {أم تقولون} لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له.
وذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد، و {{عند} } لزيادة التأكيد.
{ {فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ}} والتقدير فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم لأن الله لا يخلف عهده.
وفيه أن الله سبحانه وتعالى لن يخلف وعده؛ وكونه لا يخلف الوعد يتضمن صفتين عظيمتين هما: الصدق، والقدرة، لأن إخلاف الوعد إما لكَذِب، وإما لعجز؛ فكون الله -جلَّ وعلا- لا يخلف الميعاد يقتضي كمال صدقه، وكمال قدرته.
{{أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}} هذه الجملة جواب الاستفهام الذي ضمن معنى الشرط، وأخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير، وإن كان قد علم وقوع أحدهما، وهو قولهم على الله ما لا يعلمون، ونظيره: {{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} } [سبأ:24] وقد علم أيهما على هدى وأيهما هو في ضلال.
وفيه حسن مجادلة القرآن؛ لأنه حصر هذه الدعوى في واحد من أمرين، وكلاهما منتفٍ.
{{بَلَى} } أبطال لقولهم، فهي حرف جواب يثبت به ما بعد النفي، فإذا قلت: ما قام زيد، فقلت: نعم، كان تصديقاً في نفي قيام زيد. وإذا قلت: بلى، كان نقضاً لذلك النفي، فلما قالوا: {لن تمسنا النار}، أجيبوا بقوله: بلى، ومعناها: تمسكم النار. والمعنى على التأبيد، وبين ذلك بالخلود.
{مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} هي الكفر والشرك، قاله ابن عباس ومجاهد. فالسيئة هنا السيئة العظيمة وهي «الكفر» بدليل العطف عليها بقوله: { {وَأَحَاطَتْ}} "الإحاطة" في اللغة: الشمول؛ أي صارت كالحائط عليه، وكالسور. أي اكتنفته من كل جانب {بِهِ خَطِيـئَتُهُ} الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم من خطى إذا أساء، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء، لأن ما يحيط بالمرء لا يترك له منفذا للإقبال على غير ذلك، قال تعالى: {{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ}} [يونس:22] وإحاطة الخطيئات هي حالة «الكفر» لأنها تجرئ على جميع الخطايا ولا يعتبر مع الكفر عمل صالح. قال أبو وائل: الخطيئة: صفة للشرك.
وقيل: هي الكبائر التي يموت وهو مصر عليها دون توبة، قال عكرمة: مات ولم يتب منها. وقال قتادة: الكبيرة الموجبة لأهلها النار.
قال أبو علي: إما أن يكون المعنى: أحاطت بحسناته خطيئته، أي: أحبطتها، من حيث أن المحيط أكثر من المحاط به، فيكون كقوله تعالى: {{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}} [التوبة:49] وقوله {{أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}} [ الكهف:29] أي سورها أو يكون معنى أحاطت به أهلكته، كقوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [ يوسف:66] .
{{فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}} الذين هم أهلها حقيقة، لا من دخلها ثم خرج منها، فسموا أصحاباً لها لملازمتهم إياها {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} إشارة إلى أن المراد: الكفار.
فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات بل هو لا يخلو من عمل صالح وحسبك من ذلك سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة.
والآية سند لما تضمنته {بلى} من إبطال قولهم: أي ما أنتم إلا ممن كسب سيئة إلخ ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار.
{{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}} أي عملوا الأعمال الصالحات؛ والعمل يصدق على القول والفعل؛ وليس العمل مقابل القول؛ بل الذي يقابل القول: الفعل؛ وإلا فالقول، والفعل كلاهما عمل؛ لأن القول عمل اللسان، والفعل عمل الجوارح.
{{أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}} تذييل لتعقيب النذارة بالبشارة على عادة القرآن.
وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه مثاني. أي تُثَنَّى فيه المعاني، والأحوال، فقال –جل ذكره-: {{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} } [الزمر:23].. فقلّ ما ذكر في القرآن آية في الوعيد، إلا وذكرت آية في الوعد. وفائدة ذلك ظهور عدله تعالى، واعتدال رجاء المؤمن وخوفه، وكمال رحمته بوعده وحكمته بوعيده.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: