وأعوذ بك منك !

ما أعظم هذا الدعاء النبوي وأجله لمن تأمله ، وغاص في معانيه الدقيقة ، ولهج به حالا ومقالا .
فما من شيء يفر منه الإنسان ويخافه ويحذره ويستعيذ منه إلا وناصيته بيد الله .
فالله سبحانه هو الذى ينجى من قضائه بقضائه، وهو الذى يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذى يدفع ما منه بما منه، فالأَمر كله له والحكم كله له، وما شاءَ كان وما لم يشأْ لم يكن.
فلا يأتي بالحسنات إِلا هو، ولا يذهب بالسيئات إِلا هو، ولا يهدى لأَحسن الأَعمال والأَخلاق إِلا هو، ولا يصرف سيئها إِلا هو: {{وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ}}
وتزداد حاجة العبد إلى هذا الدعاء إذا ألم به الشيطان ، ودعته نفسه للمعصية وصرعه هواه ، فحينئذ يصرخ مستغيثا بربه " «أَعوذ بك منك» "
يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك ، يا مصرف القلوب صرف قلبى على طاعتك"،
فيلتجئ لربه التجاءَ أَسير قد أسره عدوه ، وهو يعلم أَنه لا خلاص له من أَسره إِلا بأَن يفكُّه سيده من الأَسر، ففكاكه في يد سيده ليس في يده منه شيء البتة، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فهو في أَسر العدو ، ناظر إِلى سيده ، وهو قادر على تخليصه ، قد اشتدت ضرورته إِليه، وصار اعتماده كله عليه.
فسبحان من لا يوصل إِليه إِلا به.
ولا يطاع إِلا بمشيئته.
ولا ينال ما عنده من الكرامة إِلا بطاعته .
ولا سبيل إِلى طاعته إِلا بتوفيقه ومعونته .
فعاد الأَمر كله إِليه كما ابتدأَ الأَمر كله منه، فهو الأَول والآخر وأن إِلى ربك المنتهى.
( بتصرف من كلام ابن القيم في طريق الهجرتين )