اسم الله: اللطيف
إذا أراد اللطيف أن يصرف عنك السوء جعلك لا ترى السوء، أو جعل السوء لا يعرف لك طريقًا، أو جعلكما تلتقيان وينصرف كل منكما عن الآخر وما مسَّكَ منه شيء!
الحمد لله العلي الأعلى، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، كان كثير الثناء على ربه، عظيم التمجيد لمولاه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى صَحْبه والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
اتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن ربنا عزَّ وجلَّ هو الخالق البارئ المصور، المُحيي المميت، أهل الثناء والمجد، وأعظم ما يُثنى عليه ويُمجَّد به أسماؤهُ الحسنى، وصفاتهُ العلى، وربنا سبحانه سَمَّى ذاته العلية بأسماء حوت معاني عظيمة، وأسرارًا جليلة، العلم بها وتدبرها من أجَلِّ الأعمال، وأنفع المقاصد؛ لأنها طريقٌ لمعرفة الله عزَّ وجلَّ التي هي أصل العلوم، وأساس الإيمان، وأول الواجبات، فإذا عرف الناس ربَّهم عَبَدُوه ووحَّدوه، قال قوام السنة الأصفهاني: (ينبغي للمسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها؛ فيعظمون الله حق تعظيمه، ولو أراد رجل أن يعامل رجلًا: طلب أن يعرف اسمه وكنيته، واسم أبيه وجده، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا، ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطه أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها)[1]؛ انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
عباد الله، إن من أسماء الله الحسنى التي حوت أسرارًا عجيبة ومعاني خفية اسمَ الله: اللطيف؛ يقول الله عزَّ وجل: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19]، ويقول سبحانه: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، واللطف في اللغة: الرفق، وأصله خفاء المسلك، ودِقَّة المذهب، ومعنى اسم الله اللطيف هو البر بعباده، المحسن إلى خلقه بإيصال المنافع إليهم برفق وخفاء من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون[2].
فهو ذو لطف وخفاء ودقة في إكرامه وإحسانه، وفي عصمته وهدايته، وفي تقاديره وتصاريفه.
تأتي بلطفه عظائم المقادير التي تستبعد أكثر العقول خيالًا وقوعها، فيجعلها كائنةً حاضرةً، كل خيط من ذلك المقدر يمسك به قدر من لطفه، فلا تنتبه إلا -وبقريب من المعجزات- قد بات بساحتك! لا تعلم كيف أمكنه أن يحدث، وتتيقَّن أن حولك وقوَّتك أقل من أن تحدثه، فتنظر إلى السماء وتقول:{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100].
أيها المبارك، إذا أراد اللطيف أن ينصرك أمر ما لا يكون سببًا في العادة فكان أعظم الأسباب! فعندما أراد اللطيف أن ينصر رسوله عليه الصلاة والسلام ويُخرِجه ومن معه من عذابات شِعْب بني هاشم لم يرسل صيحة تزلزل ظلمة قريش، فقط أرسل الأرَضة تأكل أطراف وثيقة الظلم وعبارات الحِلْف الجائر! فيصبحون وقد تكسَّرت من الظلم العُرى بحشرة لا تكاد ترى!
إذا أراد اللطيف أن يصرف عنك السوء جعلك لا ترى السوء، أو جعل السوء لا يعرف لك طريقًا، أو جعلكما تلتقيان وينصرف كل منكما عن الآخر وما مسَّكَ منه شيء!
فلما شاء اللطيف أن يعيد موسى عليه السلام إلى أُمِّهِ لم يجعل حربًا تقوم بين بني إسرائيل وقوم فرعون، لا بل جعل فم موسى لا يستسيغ حليب المرضعات! بهذا الأمر الخفي يعود موسى إلى أمِّهِ بعد أن صار فؤادُها فارغًا!
إذا أراد اللطيف أن يُفرِّج هَمَّك، وينفِّس كربك، هَيَّأ الأسباب وجعل ما لا يرد لك على خاطر هو فرجك وخلاصك، فلما شاء اللطيف أن يُخرِج الصدِّيق يُوسف عليه السلام من السجن، لم يدكَّ جدران السجن، ولم يأمر ملك الموت أن ينزع الحياة من أجساد الظالمين، ولم يأذن بصاعقة من السماء أن تقتلع الأقفال الحديدية، فقط جعل الملِكَ يرى رؤيا في المنام تكون سببًا خفيًّا لطيفًا يستنقذ به يُوسف الصدِّيق من أصفاد الظلم![3].
عباد الله، كم نحن بحاجة في أوقات الفتن والمدلهمات، وعند نزول المحن والابتلاءات إلى تلمُّس ألطاف اللطيف في حياتنا.
ينتشر الوباء، وتقفل الحدود، ويضطر الناس إلى لزوم البيوت، ويتجرَّعون مرارةَ هذا الاضطرار الذي امتُحِنَ صبرُهم في دقائقه الأولى فنَفِدَ أو كاد، ثم تأتي ألطاف الله بعباده الموفقين فتنقلب هذه المحنة إلى منحة، فيحفظون من القرآن ما لو بقوا سنين عددًا ما حفظوه، ويتدارسون من العلم ما لو اشتروا الأوقات بالأثمان ما أدركوه.
شاهدنا في وسائل الإعلام سائرًا في طريقٍ على الأقدام ثم فجأة يتوقف ليتأكد من محفظة نقوده، وبعد ثوانٍ تمُرُّ من أمامه سيارة مسرعة متهورة لو لم يقف لجعلته أشلاءً متفرقة! فيكمل سيره سالمًا، فهل يعلم أن اللطيف أوقفه وأنقذه؟!
حدثني أحدهم أن صديقه طلب مساعدته، فقد أصرَّت زوجته على السفر مع أولاده إلى بلدها، لكن الحدود مقفلة، والرحلات معطلة، والجهات الحكومية اعتذرت، يقول فقلت له: لعل في الأمر خيرًا، ثم بعد أيام يقع تفجير كارثي دَمَّر ثلث مدينتها، اللطيف حفظ له زوجته وأولاده.
عباد الله، إن الإيمان بلطف الله يُطمئن القلوب، ويُسكِن النفوس، ويبعث الفأل، ويُقوِّي الرجاء، فمهما ضاقت الأمور فإن فرج اللطيف قريب، ومهما اشتدَّ المرض فإن شفاء الكريمِ غيرُ بعيد، ومهما بعُدَتْ الآمال يأتي بها اللطيف الخبير، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
اللهم الطُفْ بنا، والطُفْ لنا، واجعلنا ممن يبتهل إليك بأحب أسمائك إليك، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا يا لطيف يا خبير.
[1] ينظر: الحجة في بيان المحجة: (1 /122).
[2] ينظر: تفسير أسماء الله الحسنى، لأبي إسحاق الزجاج، ص44، بتصرف.
[3] مستفاد من كتاب (لأنك الله) للأستاذ علي بن جابر الفيفي.
__________________________________________________________
الكاتب: الشيخ سليمان بن إبراهيم الفعيم
- التصنيف: