عرفات مهبط الرحمات
نحن على موعد مع استقبال يوم عظيم من أيام الله عز وجل، يومٍ تُسكب فيه العَبَرات، وتُقضى فيه الحاجات، وتتحقق فيه الأمنيات، يوم يتجلى فيه رب الأرض والسماوات، ويتنزل إلى السماء الدنيا ليُغْدِقَ على عباده العطايا والهِبات
- التصنيفات: العشر من ذي الحجة -
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحقُّ المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه كما عبد ربَّه ووحَّده ودعا إليه؛ أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى؛ قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون: فضَّل الله بعض الأيام على بعض، والأيام الفاضلة هي مواسم لنفحات الله وعطاياه لعباده، يغفر فيها الذنوب، ويرفع فيها الدرجات، ومن تلك الأيام الفاضلة يومُ عرفةَ؛ فنحن على موعد مع استقبال يوم عظيم من أيام الله عز وجل، يومٍ تُسكب فيه العَبَرات، وتُقضى فيه الحاجات، وتتحقق فيه الأمنيات، يوم يتجلى فيه رب الأرض والسماوات، ويتنزل إلى السماء الدنيا ليُغْدِقَ على عباده العطايا والهِبات، ويغفر لهم الذنوب والزلَّات، يوم تُستجاب فيه الدعوات؛ فقد أخرج الترمذي في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»؛ قال الإمام أبو الوليد الباجي رحمه الله: "قوله: «أفضل الدعاء يوم عرفة» يعني: أكثر الذكر بركة، وأعظمه ثوابًا، وأقربه إجابة، ويحتمل أن يريد به الحاج خاصة؛ لأن معنى دعاء يوم عرفة في حقِّه يصح، وبه يختص، وإنْ وَصَفَ اليوم في الجملة بيوم عرفة، فإنه يُوصَف بفعل الحاج فيه، والله أعلم"؛ [المنتقى شرح الموطأ (1/ 358)].
يوم عرفه يومٌ أكْمَلَ الله فيه الدين؛ ففي صحيح مسلم (3017)، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا - معشرَ اليهود - نزلت، لاتَّخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة))، فأكمل الله الدين في يوم عرفه بنزول هذه الآية؛ لأن المسلمين لم يكونوا حجُّوا حِجَّة الإسلام بعد فرض الحج قبل ذلك، وإنما يكمل الحج بالوقوف بعرفة؛ لأن الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»؛ قال الشعبي: "نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة، حين وقف موقف إبراهيم عليه السلام، واضمحلَّ الشرك، وهُدِّمت منار الجاهلية، ولم يطُف بالبيت عريان"، وقال أبو بكر بن عياش: "أكمل الله الدين بنزول هذه الآية بعرفة؛ لأنه لم ينزل بعدها تحليل ولا تحريم".
يوم عرفة يذكِّر العباد بيوم المعاد؛ فالجميع قد تجرَّد من بَهْرَجِ الدنيا وزينتها، ولبِس ثوبين أبيضين، كأنها قطعتا الكفن، فكأن القوم قد خرجوا من قبورهم لملاقاة ربهم، فالأعناق مُشْرَئِبَّة إلى السماء، والأصوات تَضِجُّ بالدعاء وبالبكاء، فالحاج يغادر أوطانه التي ألِفها ونشأ في ربوعها، وكذا الميت إذا انقضى أجَلُه، غادر هذه الدنيا، والميت يُجرَّد من ثيابه، وكذا الحاج يتجرد من المخيط؛ طاعة لله تعالى، والميت يُغسَّل بعد وفاته، وكذا الحاج يتنظف ويغتسل عند ميقاته، والميت يكفَّن في لفائف بيضاءَ هي لِباسه في دار البرزخ، والحاج يلبس رداءً وإزارًا أبيضين لمناسكه، وفي صعيد عرفات والمشعر الحرام يجتمع الحجيج، وفي يوم القيامة يُبعَث الناس ويساقون إلى الموقف، والفارق أن يوم عرفة هناك إجابة للدعاء ومغفرة ورحمة، بينما في يوم الحشر قد أُغْلِقت الكتب، كل بما فيه، الحاج في يوم عرفة يبحث عن خيمة أو شمسية يستظل بها من حرارة الشمس، ولكن في يوم القيامة لا ظلَّ إلا كنف الرحمن تبارك وتعالى، وفي عرفات نرى حُجَّاج بيت الله الحرام يقفون هناك على عرفات، في مشهد رائع من مشاهد العبودية، يستمطرون رحمةَ الله، ويستجلبون عفوَه ومغفرته، ويسألونه من فضله، ويتوجهون إليه بالذكر والدعاء، والاستغفار والمناجاة، معترفين بالذل والعجز، والفقر والمسكنة؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: ((كنت جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد مِنًى، فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فسلَّما، ثم قالا: يا رسول الله، جئنا نسألك، فقال: «إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه، فعلت، وإن شئتما أن أُمْسِكَ وتسألاني، فعلتُ»، فقالا: أخبرنا يا رسول الله، فقال الثقفي للأنصاري: سَلْ، فقال: أخبرني يا رسول الله، فقال: «جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤُمُّ البيت الحرام وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك فيه، وعن نحرك وما لك فيه مع الإفاضة»، فقال: والذي بعثك بالحق، لَعَنْ هذا جئت أسألك، قال: «فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفًّا، ولا ترفعه، إلا كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل عليه السلام، وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة، يقول: عبادي جاؤوني شُعْثًا من كل فج عميق، يرجون جنتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزَبَدِ البحر، لَغفرتُها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار، فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمدخور لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك، فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، ويُمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي مَلَكٌ حتى يضع يديه بين كتفيك، فيقول: اعمل فيما تستقبل؛ فقد غُفِر لك ما مضى»؛ (رواه الطبراني في الكبير، والبزار، واللفظ له، وقال: وقد رُوي هذا الحديث من وجوه ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق، قال المنذري: وهي طريق لا بأس بها، رواتها كلهم موثقون، ورواه ابن حبان في صحيحه، وذكره الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه (صحيح الترغيب والترهيب)، الجزء الثاني، رقم: (1112)، وقال: حسن لغيره) ].
وروى ابن المبارك عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك، قال: ((وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفاتٍ وقد كادت الشمس أن تؤوب، فقال: «يا بلال، أنصِتْ لي الناسَ»، فقام بلال، فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس، فقال: «معشرَ الناس، أتاني جبرائيل عليه السلام آنفًا، فأقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمِن عنهم التَّبِعات»، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، هذا لنا خاصة؟ قال: «هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة»، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كثُر خيرُ الله وطاب))؛ (قال الشيخ الألباني: صحيح، صحيح الترغيب والترهيب: (١١٥٢)).
وفي صحيح مسلم (1348) عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه لَيدنو ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء»؟؛ أي: أي شيء أراد هؤلاء؛ حيث تركوا أهلهم وأوطانهم، وصرفوا أموالهم، وأتعبوا أبدانهم؟ والجواب محذوف، تقديره: ما أرادوا إلا المغفرة والرضا، وهذا يدل على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب إلا من بعد التوبة والغفران.
وقد رُوِيَ عن سالم بن عبدالله بن عمر أنه رأى سائلًا يسأل يوم عرفة، فقال: "يا عاجز، في هذا اليوم تسأل غير الله"، وخطب عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه بعرفة، فقال: "إنكم قد جئتم من القريب والبعيد، وأنضيتم الظَّهْر - أي: أتعبتم رواحلكم - وأخْلَقْتُم الثياب - أي: أبليتُم ثيابكم - وليس السابق اليوم من سبقت دابته وراحلته، وإنما السابق اليوم من غُفِر له"، وكان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة، ومعه مائة بَدَنَة مقلدة، ومائة رقبة، فيعتق رقيقه، فيضِج الناس بالبكاء والدعاء، ويقولون: "ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده، ونحن عبيدك فأعتقنا"، فلله تلك المواقف المشرفة، والبقاع المطهرة، والأزمنة المباركة! كم فيها اليوم من ضارع منكسر! كم فيها من حزين أسِيف! كم فيها من نائح على ذنوبه، باكٍ على عيوبه! كم فيها من رجل بادر الله بالتوبة فبادره بالغفران، وخطَّ بدموعه كتابَ رجوعه، فحطَّ عنه وزر العصيان! ليت شعري، كم ينصرف من هذا الموقف من رجال ما عليهم من الأوزار مثقال ذرة، قد ملأت قلوبهم الأفراح، وعَلَت وجوههم المسرَّة!
رفعوا الأكف وأرسلوا الدعــوات ** وتجردوا لله في عرفــــــــــاتِ
شعثًا تُجللهم سحائبُ رحمــــــةٍ ** غُبرًا يفيض النور في القسماتِ
وكأن أجنحة الملائك عانقـــــت ** أرواحهم بالبر والطاعــــــــــاتِ
هذه ضيوفك يا إلهي تبتغــــــي ** عفوًا وترجو سابغ البركـــــــاتِ
تركوا وراء ظهورهم دنيا الـورى ** وأتَوك في شوق وفي إخبـــاتِ
وَفَدوا إلى أبواب جودك خُشَّعًـا ** وتزاحموا في مهبط الرحــمـاتِ
فاقبل إله العرش كل ضراعــــة ** وامْحُ الذنوب وكفِّر الــــــــزلَّاتِ
ولقد حكمت وما لحكمك رجعة ** أن الذنوب تذوب في عرفــــاتِ
فصيام يوم عرفة يغفر الله فيه ذنوبَ سنتين؛ ففي صحيح مسلم (1162)، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده»، وفي يوم عرفة تتجلى وحدة الأمة الإسلامية التي غفلت عنها، وما تنبهت لها، هذه الوحدة تتجلى يوم أن ترى الناس على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وبُلدانهم، لباسهم واحد، ونداؤهم واحد، وسلوكهم واحد، وربهم واحد، فيا من رأى هذه الجموع وقد استدبرت دنياها، واستقبلت أُخراها، واستوحشت من الأرض وحريقها، وطمِعت في الجنان ورحيقها، جعلت بكاءها طريقًا إلى نجاتها، مئات الآلاف تَجْأَرُ إلى الله بمختلِف اللغات، والله سبحانه السميع البصير لا تختلف عليه الألسنة، ولا يشغله سؤال عن سؤال، رددوا جميعًا نداءهم الخالد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك)، فاللهم لا تحرمنا من حج بيتك الحرام عامًا، من عمرة وحجة دوامًا، وتقبل يا ربنا منا صيام يوم عرفة، واغفر لنا فيه الذنوب والآثام، هذا، وصلى الله على محمد وعلى آل محمد.
_____________________________________________________
الكاتب: أبو زيد السيد عبد السلام رزق