الحج عرفة

الحمد لله أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، أحمده سبحانه وأشكره رضي الإسلام لنا ديناً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ البلاغ المبين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله تعالى، فإن تقواه سبحانه هي خير زاد؛ يقول الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}  [البقرة: 197].

عباد الله، يوم عرفةَ يومٌ عظيم عند الله جلَّ ذكره، وعند المؤمنين، يومٌ يجمع الله فيه من اختارهم لبساط ملكه، وحضرة قدسه، وحرَمه الآمن، ومشاعره العظام، ليبثُّوا إليه الشَّكوى، ويرفعوا إليه النَّجوى، وينادونه بلسان الذُّل ودموع الخشية، يدعونه رغَباً ورَهَبا، وهم من خشيته مشفقون، إنه اليوم الذي أقسم الله تعالى به بقوله: {وشاهدٍ ومشهود}، وهو يوم الجمعة ويوم عرفة، هذا الموقف العظيم الذي تسكب فيه العبرات، وتقال فيه العثرات، والذي يتجلى فيه ربُّنا سبحانه على أهل الموقف، فلا يبرحون حتى يقول لهم الرب سبحانه؛ انصرفوا فقد غفرتُ لكم قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثًا غبرا» (رواه أحمدُ وابنُ خزيمة وصححه الألباني).

هذا هو يوم التجلي الإلهي على عباده المؤمنين، من كان منهم في ذلك المشهد العظيم، ومن تعرَّض لنفحاته وهو في داره ومصره، فإن فضل هذا اليوم يدركه ويناله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير». (رواه مالك والترمذي)، قال ابنُ عبد البر: وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره... وفي الحديث أيضًا دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب، وفيه أيضًا أن أفضل الذكر: لا إله إلا الله؛ فمن اشتغل فيه بذكر الله وشكره وحسن عبادته، مسألةً أو ثناءً أو استغفاراً أو تلاوةً أو تهليلاً وحمداً وتكبيراً، فإنه يدرك ذلكم الفضل العظيم.

هذا اليوم التاسع من ذي الحجة، فيه ركن الحج الأعظم؛ قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «الحجُّ عرفة» (متفق عليه)، فيفوت الحج بفواته، ويدرك بإدراكه، ولم يجمع العلماء على أمرٍ يفوت الحج بفواته سوى الوقوف بعرفة.

هذا اليوم المبارك الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم موقفه العظيم، وأكمل الله تعالى فيه الدين، وأتم به النعمة على هذه الأمة، فلا يحتاجون إلى دين غيره، وجعله خاتمة الأديان، فلا يقبل من أحد دينًا سواه؛ فعن عمرَ رضي الله عنه أن رجلًا من اليهود قال: يا أميرَ المؤمنين، آيةٌ في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آيةٍ؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، قال عمرُ: عرَفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم الجمعة؛ (رواه البخاري ومسلم).

هذا اليوم الذي خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم خطبته العظيمة، والتي بين فيها أصول الدين في التوحيد والعبادات، والدنيا في حقوق الأفراد والجماعات، وأصول الحكم والسياسات، اليوم الذي ودَّع فيه النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه بعد أن تركهم على محجة بيضاء ليلها كنهارها، فلا يزيغ عنها إلا هالك، اليوم الذي أشهد فيه النبي عليه الصلاة والسلام أمَّته ورَبَّه على البلاغ، وحثهم فيه على ألا يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، اليوم الذي وضع فيه ربا الجاهلية الذي يفتك بالمجتمعات، اليوم الذي جعل فيه الناس سواسية في الحقوق والواجبات لا تفاوت بينهم إلا بالتقوى، اليوم الذي وضع فيه نخوة الجاهلية وفخرها بالأحساب واستبدلها بعز الإسلام وأخوة الدين، اليوم الذي عظَّم فيه شأن الدماء والأموال والأعراض حتى تبقى مصونة، فيستتب الأمن المجتمعي، وتقوم العدالة الربانية بين العباد، اليوم الذي قرر فيه الإسلام حقوق المرأة مالها وما عليها من حقوق وواجبات، كل هذه المعاني وغيرها تجلَّت وبرزت بأبهى صُوره، وبقي ذلكم الجلال والجمال كلما عاد موسم الحج والأضحى على هذه الأمة المرحومة، وهي تستلهم عبرها وترتوي من نميرها العذب.

هذا هو يوم عرفة الذي تعارفت فيه القلوب، وتعلقت بعلام الغيوب، تسأله فيه المحبوب المرغوب، وتستعيذ فيه من المرهوب، فمن كان كذلك فإن له من فضل الله ما هو موعود.

ها اليوم الفضيل الذي رُتب على صيامه الفضل العظيم، فقد سُئلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة، فقال: «يُكفِّر السنة الماضية والسنة القابلة»؛ (رواه مسلم)، وإنما يُستحب صيامه لغير الحاج، وأما الحاج ففطره أفضل تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

هذا اليوم الذي يشرع في صبيحته التكبير المقيد الذي يكون عقب الصلوات المفروضة، ويبدأ من فجر يوم عرفة؛ إلى آخر أيام منى، أما الحاج فيبدأ من حين يرمي جمرة العقبة، مع استمرار المسلم في التكبير المطلق الذي يكون في عموم الأوقات، ويبدأ من أول ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق؛ حيث كان الصحابيان الجليلان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنها يخرجان إلى السوق، يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، فالمسلم يكبر ويذكِّر غيره بهذه السنة بين الناس في يوم عرفة، ويوم النحر، وسائر أيام التشريق.

فدونكم عباد الله هذه الفضائلَ والأعمال، فاغتنموها، وإياكم والكسل، وبادروا بالتوبة قبل حلول الأجل، وعليكم بإحسان العمل.

الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد فاتقوا الله عباد الله حقَّ التقوى، وفي يوم عرفة وعلى صعيد عرفات يحصل ذاك الاجتماع الكبير اجتماعٌ اختلفت فيه الألوان، وتعدَدت الأجناس، وتنوَعت الألسنة، ولكن توحَدت فيه القلوب والمقاصد، فكل يرجو رحمة الله، ويطلب رضاه، ويسأله من فضله العظيم.

فبادروا عباد الله إلى اغتنام هذه الأيام الفاضلة المباركة بالأعمال الصالحة، وكثرة الذكر، والتقرب بذبح الأضاحي؛ فالحرص على العمل الصالح في هذه الأيام المباركة هو في الحقيقة مسارعةٌ إلى الخير، ودليل على التقوى؛ قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}  [الحج: 32].

اللهم سلِّم الحجاج والمعتمرين، وأعنهم على أداء مناسكهم، واحفظهم من شر كل ذي شر، اللهم ردَّهم إلى ديارهم سالمين غانمين بالأجر والثواب موفورين.