عرفة إكمال وإتمام ووداع

منذ 2023-06-27

جب على المسلم أن يستثمر هذه الأوقات في طاعة الله ورضوانه، كيف لا، وهو يوم إكمال الدين، وإتمام النعمة، وبلوغ القمة، ووداع الأمة؟

إن النفوس تتطلع إلى العشر الأُوَل من ذي الحجة؛ حيث تكفيرُ الذنوب، وستر العيوب، وتهوين الخطوب.

 

تشتاق القلوب إلى عرفات الله؛ حيث رقيُّ الدرجات، وتضاعف الحسنات، وقبول القُرُبات، حيث أفضل العبادات، ووقفة عرفات، وخير الدعوات.

 

تهوى الأفئدة إلى مناسك الحج؛ حيث أفضل الأيام، ومنبع السلام، ونور الإسلام.

 

عباد الله: تبتسم القلوب لرحمة الله التي ينزلها على عباده في يوم عرفة، إنه يوم تسمو فيه الأرواح، وتزكو فيه النفوس، وتطيب فيه القلوب، وتخشع فيه الأبدان، فإذا أقبل يوم عرفة، فإن قلوب الصالحين تُضاء بنور ربها، وتنشد الحق في دربها، وتتطهر من كل ذنوبها، وتغتنم الفرصة التي سنحت لها.

 

أيها المسلمون: يوم عرفة اليوم الذي ينشر الله فيه رحمته على عباده، ويبسط كرمه على حُجَّاج بيته، يوم ترتقي فيه النفوس، وتصفو فيه القلوب، وترتفع فيه الدرجات، وتتضاعف فيه الحسنات.

 

إنه يوم الوقوف بعرفة؛ حيث التتويج لإعلان العبودية لله لا لأحد سواه.

 

إخوة الإسلام: الوقت هو رأس المال، والأيام خزائن الأعمال، والصلاح أحسن الأحوال، والسعيد من وُفِّق لاغتنامها حتى ينجو يوم القيامة من الأهوال؛ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]؛ لذلك يجب على المسلم أن يستثمر هذه الأوقات في طاعة الله ورضوانه، كيف لا، وهو يوم إكمال الدين، وإتمام النعمة، وبلوغ القمة، ووداع الأمة؟ ففي الصحيحين، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا - معشرَ اليهود - نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}  [المائدة: 3]، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة، يوم الجمعة)).

 

كيف لا، وهو يوم الوداع؛ حيث صيانة الأعراض، وحرمة الدماء؟ ففي حجة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمِد الله، وأثنى عليه، وذكَّر ووعظ، ثم قال: «أي يوم أعظم حرمة» ؟ قالوا: يومنا هذا، قال: «أي بلد أعظم حرمة» ؟ قالوا: بلدنا هذا، قال: «فأي شهر أعظم حرمة» ؟ قالوا: شهرنا هذا، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألَا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده» .

 

كيف لا، وهو يوم دعم الأخوة وبيان حقوقها؟ قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «ألَا إن المسلم أخو المسلم، فليس يحل لمسلم من أخيه شيء، إلا ما أحل من نفسه» .

 

كيف لا، وهو يوم الخلاص من الربا ووضع الدماء؟  «ألا وإن كل ربًا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون، ولا تُظلَمون، غير ربا العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله، ألا وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأول دم أضع من دماء الجاهلية دم الحارث بن عبدالمطلب، كان مسترضعًا في بني ليث، فقتلته هذيل» .

 

كيف لا، وهو يوم إظهار حقوق النساء؟ أوصى نبينا بالنساء خيرًا؛ فقال: «ألَا فاستوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنما هنَّ عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعْنَكم، فلا تبغوا عليهن سبيلًا، ألَا إن لكم على نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقًّا، فأما حقكم على نسائكم، فلا يوطئن فُرُشكم مَن تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألَا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» .

 

كيف لا، وهو يوم يأس الشيطان وصَغاره، يوم إذلاله واحتقاره؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ألَا وإن الشيطان - وهو إبليس الخسيس- قد أيس أن يُطاع...»؛ قيل: معناه أن الشيطان أيس أن يعود أحد من المؤمنين إلى عبادته، ويحتمل معنى آخر؛ وهو أنه أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن المصلين من أمتي لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان، كما فعلته اليهود والنصارى.

 

كيف لا، وهو عيد لأهل عرفة، عيد لأهل الموقف؟ قال صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب»؛ (رواه أهل السنن).

 

وقد رُوِيَ عن عمر بن الخطاب أنه قال: ((نزلت – أي: آية  {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ}  [المائدة: 3] – في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد)).

 

إنه اليوم المشهود: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3].

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة»؛ (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

 

كيف لا، وهو الوَتر الذي أقسم الله تعالى به في قوله: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3]؟ قال ابن عباس: "الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة"، وهو قول عكرمة والضحاك.

 

كيف لا، وهو ركن من أركان الحج، بل هو ركن الحج الأعظم؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»؛ (متفق عليه).

 

كيف لا، وصيامه يكفِّر سنتين؛ فقد ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة، فقال: «يكفِّر السنة الماضية، والسنة القابلة»؛ (رواه مسلم)، وهذا إنما يُستحَب لغير الحاج، أما الحاج فلا يُسَنُّ له صيام يوم عرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صومه، ورُويَ عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.

 

كيف لا، وهو يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف؟ ففي صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء» ؟، وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة، بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتَوني شعثًا غبرًا»؛ (رواه أحمد، وصححه الألباني).

 

كيف لا، وهو يوم خير الدعاء؟ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»؛ (رواه الترمذي).

 

قال ابن عبدالبر رحمه الله: "وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره".

 

كيف لا، وهو يوم الحج الأكبر؟ فإن شعائر يوم عرفة وأعماله تبدأ من اللقاء بالصلاة جماعةً في مسجد الزقاق، ثم صلاة الجمعة في مسجد الحي، ثم صلاة العيد في مصلَّى المدينة، أنت تجد العالم كله يلتقي في عرفات، هناك يحتشد ملايين الناس بلباس واحد، وتوجُّه واحد، وحال واحد، وتهليل واحد، وتكبير واحد، وتلبية واحدة، وذلك كله أمام رب واحد لا شريك له، يعاهدون ربهم عهد الإيمان، ويعاهدون نبيهم عهد الإسلام، ويراجعون أنفسهم على السير وفق منهج الله ودستوره، وشريعته التي شرعها لهم وهداهم إليها.

 

هناك في عرفات، تنتهي الحدود، وتُرفَع السدود، وتتجدد العهود، وتتلاشى الفوارق بين البشر، فتزول الدرجات، وتموت المسافات، فلا تفاضل هنا إلا بالتقوى والعمل الصالح.

 

الغني جوار الفقير، والخفير جنب الوزير، والصغير ملاصق للكبير، يهتفون كلهم بشعار الإسلام الخالد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.

 

هو عهد دائم، يتجدد في كل خطوة، ويتحدد في كل مرحلة: سيتحقق الهدف بإعلاء كلمة الله رب الأرباب، وسيزول كل طواغيت الأرض، وستتحرر النفوس والناس جميعًا من كل ظلم واستبداد وفساد.

 

أيها المسلمون: اغتنموا هذه الأوقات، وانتهزوا هذه الليالي، واستيقظوا في هذه الأيام؛ {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]، فقد يختار إنسان الغناء الهابط، ثم يموت وتبقى أغانيه تُذاع إلى يوم القيامة، وقد يختار إنسان القرآن الكريم ثم يموت، وتبقى تلاوته تُذاع إلى يوم القيامة: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20].

 

هناك من يبني مسجدًا، ومن يبني ملهًى، والإنسان مخيَّر، فاختر ما شئت، وافعل ما شئت، لكن كل شيء له حسابه، سَعَةُ بيوتنا بزيادة مساحة الأرض، لكن سعة قبورنا بزيادة مساحة العمل الصالح؛ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

 

عباد الله: من فضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنْ جعل لهم مواسمَ للطاعات تتضاعف فيها الحسنات، وتُرفع فيها الدرجات، ويُغفر فيها كثير من المعاصي والسيئات، فالسعيد من اغتنم هذه الأوقات، وتعرَّض لهذه النفحات؛ لهذا حثَّنا النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام هذه النفحات؛ حيث قال: «اطلبوا الخيرَ دهرَكم، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، فاسألوا الله أن يسترَ عَوْرَاتكم، ويؤمِّن رَوْعَاتكم»؛ (أخرجه ابن أبي الدنيا والطبراني).

 

سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أيهما أفضل: عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟ فأجاب: "أيام العشر من ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة"، فاغتنموا هذه الأيام، تصالحوا، وتسامحوا، وتصافحوا، وتعاونوا على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان.

 

اللهم إن هذه أحب الأيام إليك، فاجعلنا من أحب عبادك إليك.

 

اللهم ارزقنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.

_______________________________________________________
الكاتب: خميس النقيب

  • 0
  • 0
  • 980

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً