خطبة عيد الأضحى 1444 هـ (أعيادنا الإسلامية عقيدة وعبادة)

منذ 2023-06-27

أفلا تعيد هذه الشعائر وهذا الاجتماع، إلى ذاكرتنا أمجاد أمتنا الرشيدة، فنستلهم مِن ماضينا المشرق؛ ما يتصل بحاضرنا وغدنا، فأمتنا أمة تمتد جذورها الأصيلة في أعماق التاريخ، كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء...

أيها المسلمون والمسلمات، إننا في يوم عظيمٍ، وعيدٍ كريم، أعظمِ أيام الدنيا عند الله تبارك وتعالى، حل ضيفًا على أمة الإسلام في أصقاع الأرض، شرقِها وغربها، شمالها وجنوبها، وفي المدن والقرى، وفي الصحاري والسهول والجبال، وفي المحيطات والبحار، وعلى السواحل وضفاف الأنهار، اختصنا به ربنا تبارك وتعالى من بين سائر الأمم، وفي الحديث: «إنَّ أعظمَ الأيامِ عند الله تبارك وتعالى يوم النحرِ ثم يومُ القَرِّ» »؛ (رواه أبوداود وغيره وصححه الألباني) ،

عن عبدالله بن قُرْط رضي الله عنه، ويوم القَرِّ هو يومُ الحادي عشر مِن ذي الحجة، أولُ أيام التشريق الثلاثة، وسمي بذلك لأن الحجيج يقِرُّون فيه بمنى، بعد تعب الأيام الثلاثة السابقة.

 

يومنا هذا يا عباد الله هو يوم الحج الأكبر؛ ففيه يؤدي حُجاجُ بيت الله الحرام، أعظمَ مناسك الحج: مِن رمي ونحرٍ وحلق وطواف وسعي، جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم يومَ النحر بين الجمراتِ، في الحجَّةِ التي حجَّ، فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يومُ النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر »؛ (أخرجه أبوداود وغيره وصححه الألباني).

 

وفيه تكون أفضلُ أعمال حجاج بيت الله الحرام، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: «العَجُّ والثَّجُّ» »؛ (أخرجه الترمذي وابن ماجه وغيرهما وصححه الألباني) ، والعج: أن يجهر الـمُلبِّي بالتّلبية، ويرفع بها صوته، والثج: هو ذبح الأضاحي والهَدْيِ تقربًا إلى الله تعالى وإراقة دمائها وسيلانها.

 

يومنا هذا خاتمةُ الأيام المعلومات: أيامُ عشرِ ذي الحجة، قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ﴾ [الحج: 28].

 

يومنا هذا يومٌ عظيم للعبادة والتقرب إلى الله والطاعة، فهو يومٌ لذبح الأضاحي ابتغاء مرضاة الله تعالى، وهو يومٌ لكثرة ذكر الله عز وجل بالتكبير والتهليل والتحميد، يومٌ لمد يد السخاء بالعطاء للأقارب والمحتاجين والأصدقاء، قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36].

 

يومنا هذا يوم لشكر الله تبارك وتعالى على نعمه الدينيةِ والدنيوية، التي نتقلبُ بها ليلا ونهارا، وخاصةً في يومنا هذا وعيدنا هذا، وما من به فيه علينا، قال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].

 

يومنا هذا يومُ عيد سعيد، يفرحُ فيه المؤمنون بفضل الله، لإتيانه على إثر أداءِ الركنِ الخامس من أركان الإسلام لمن وفقه الله لحج بيته الحرام، كما أتى عيد الفطر بعد أداء الركن الرابع وهو صيام رمضان.

 

يومنا هذا يومٌ لإظهار السعادة والبهجة، والتوسعةِ على النفس والأهل والولدان، والأقارب والمساكين والأرحام، ولكنّ هذا السرورَ يجب أن يكون في حدود ما أباح الله، فلا يخرجُ إلى معصية الله، والاعتداءِ على حقوق الآخرين وإيذائهم، ففي أعيادنا لا إسرافَ ولا غرور، ولا اعتداءَ، ولا تعري، ولا إزعاج.

 

أيها المسلمون والمسلمات؛ ما أجمل أن نبدأ عيدنا هذا بفتحِ صفحةٍ جديدة، مع أنفسنا ومع مَن حولنا، فهل هناك أحسن مِن أن يكون يومنا هذا، منطلقا للصفاء والنقاء، والمحبة والإخاء، والألفة والاتقاء، بين المسلم وقريبه، وجاره وإخوانه، فلا قطيعة ولا هجر، ولا عَبُوس ولا بغضاء، ولا تنافر ولا شحناء.

 

ما أجمل أن نجعله عيدًا للاتحاد والتآلف، والتضامنِ والتكاتف، والتراحم والتواد والتعاطف، فكل ما حولنا مِن مشاهد اجتماع الأمة الإسلامية في أنحاء المعمورة، ليذكرنا ويقذفُ في القلوب هيبةً وعَبْرَة ودمعة، أفلا يذيب اجتماع الأمة اليوم تلك الأحقادَ التي طحنتها وفرقتها، ومزقتها وشتتها!

 

إنه ينبغي أن نستلهم مِن اجتماع الأمة على ما نراه اليوم أن عزَّها وقوتها، ومجدها وكرامتها؛ يكون بتمسك أفرادها بالدين، وأن نستلهم أن تماسكها واجتماعها وقوتها وعزتها؛ بتمسكها بكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وبسيرة سلفها الصالح.

 

أفلا تعيد هذه الشعائر وهذا الاجتماع، إلى ذاكرتنا أمجاد أمتنا الرشيدة، فنستلهم مِن ماضينا المشرق؛ ما يتصل بحاضرنا وغدنا، فأمتنا أمة تمتد جذورها الأصيلة في أعماق التاريخ، كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فبذلك وحده، تعود أمتنا إلى طريق النهوض والصعود، وتصحح مسارها بين الأمم المتصارعة مِن حولها، فتضع، نفسها في المسار الصحيح، الذي يقود -بإذن الله- لحاضر مبهج، حتى يطلع عليها فجرها المنشود، الذي تتراءى أنواره في الآفاق مبشرةً، بغد يسامق ماضيه، إشراقًا وعزتا وقوة وتقدمًا، بعد أن اعوج سيرها، وضلت طريقها.

 

عباد الله؛ ها قد اتحدت الأمة اليوم، على اختلاف الأمصار والأعصار، والألوان واللغات؛ شعائِرُها، فلماذا لا تتحد اليوم في مشاعِرِها، وهمومها واحدة وتحدياتها واحدة ومصيرها واحد!!

 

فالأمة فرد في تماسكها، وأفرادها أمة بها، بحمل مبادئها وهمومها وتطلعاتها، فتُحقق بذلك أمتَنا أسباب السعادة، بتعاون أبنائها على اختلاف طبقاتهم، فلا يتكبر الغني على الفقير، ولا يبغي القوي على الضعيف، ولا يأكل أحدٌ حق أحدٍ، فلا حقدَ ولا حسد، ولا صراعاتٍ طبقية، ولا تنازعاتٍ حزبية، ولا اختلافاتٍ جاهلية.

 

فأمتنا وهي تلبس في أعيادها جديدَها، وتتعطر بشذي طيبها؛ تعلم أن لباس التقوى ذلك خير، وأن طيبها بحسن أخلاقها وسيرتها، وسمعتها وكلماتها.

 

أيها المسلمون والمسلمات: إن أعيادنا الإسلامية عقيدة وعبادة، خلق ومعاملة، شكر وسرور وفرحة.

 

أعيادنا عقيدة بتحقيق توحيد ربنا تبارك وتعالى، وإخلاصنا له في العبادة، فلا عبادة تصرف إلا لله وحده، فلا يعبد مع الله أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح، أعيادنا عقيدة بالتميز والمفارقة عن أهل العقائد الباطلة، والملل المحرفة، والمذاهب الفاسدة، والعادات الجاهلية، والطرق البدعية.

 

أعيادنا عبادة بذكر الله وإقامة الصلوات، وذبح الأضاحي وإظهار الشعائر، والالتزام بالشرائع، عبادة بذكر الله وتعظيمه وتكبيره، وتهليله وتحميده، والإقرار والاعتراف بأفضاله ومشاهدة مننه وآلائه.

 

أعيادنا أخلاق ومعاملة، بالمودة والمحبة، والتآلف والتعاون والرحمة، أعيادنا تهنئة وتصافح، تزاور وصلة وتسامح، تفقد وإحسان وبر وتصالح، أعيادنا عفو وإخاء، صلة ولقاء، بذل وعطاء.

 

أعيادنا شكر وسرور وفرحة، وأمل وإشراق، وتفاؤل وارتقاء، محبة وإهداء، يتبادل المسلمون في الأعياد التهاني ويتصالحون، وعلى المحبة والتراحم والمودة يجلسون ويجتمعون، فيا لله ما أجملها من أيام.

 

في أعيادنا تتجدد العلاقات الإنسانية، وتتلاحم الصلات الرحيمة، وتتقوى الروابط الاجتماعية، وتنمو القيم الأخلاقية، وتترسخ المبادئ الدينية.

 

في أعيادنا تعلو القيم الحسنة النبيلة، وتسقط الأخلاقيات السافلة الرذيلة.

 

في أعيادنا تذوب المصالح الشخصية، والمآربُ المؤقتة الآنية، وحظوظُ النفوس البشرية، رغبة وطمعا في الأجور الأخروية: {وما عند الله خير للأبرار} {وما عند الله خير وأبقى}، فيا لله ما أجملها من أيام.

 

عباد الله؛ وكما تظهر اليوم الألبسة الحسنة، والروائح الطيبة العطرة، تظهر الأخلاق الجميلة الحسنة التي يفوح عبيرها منتشرًا على جميع مَن حولها، وتظهر كذلك الألبسة الجديدة، ألا نتأمل في عيدنا هذا، أفلا تعد أعيادنا مظهرًا من مظاهر التجديد في حياتنا.

 

إنه تجديد للإيمان والعقيدة، ومحافظةٌ على فطرة الإسلام وعقيدة التوحيد، لتزكوا النفوس وتطيب الحياة، وتسعد عند لقاء الله، ألم يقصد حجاج بيت الله الحرام مكة توحيدا لله، واستجابة لنداء إبراهيم خليل الله -عليه السلام- عندما أذن في الناس بالحج بأمر الله، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]؟

 

ألم يقف حجاج بيت الله الحرام في عرفة، لله يدعون ويتضرعون، ويصمِ المسلمون هذا اليوم في بلدانهم متذكرين جميعًا الميثاق القديم، الذي أخذه عليهم رب العالمين، فصاموا وحجوا، وكبروا ولبوا، وفاءا بعهدهم وميثاقهم، ففي الحديث: إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بــــ نعمانَ -اسم وادٍ بمكة- يومَ عرفة، وأخرج من صلبه كلَّ ذريةٍ ذراها فنثرَهم بين يديه كالذَّرِّ، ثم كلمهم قُبُلا، قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173]»؛ أخرجه أحمد والنسائي في الكبرى والحاكم عن ابن عباس وصححه الألباني.

 

ألا ينحر المسلمون اليوم أضحياتهم ذاكرين اسم الله عليها ومكبرين، شعارهم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، إنه تجديد واضح للتوحيد والعقيدة.

 

وإنه تجديد للنفوس التي أفسدتها الذنوب، وأثقلتها العيوب، ولوثتها المعاصي، وأوبقتها المحقَّرات، فحجاج بيت الله الحرام يعودون وقد طهُرت ذنوبهم، وغُفرت سيئاتهم، فعادوا كيوم ولدتهم أمهاتهم، ففي الحديث: «مَن حَجّ فَلَم يَرفُث ولَم يَفسُق رَجَع كَيَومِ ولَدَتهُ أُمُّهُ»؛ (أخرجه البخاري).

 

والصائمون مِن غير الحجاج يومَ عرفة، كفرت عنهم ذنوب سنتين، سنةٍ ماضية وسنة مقبلة، وهكذا صيام يوم عرفة يكفر سنتين، كما في صحيح الإمام مسلم.

 

وإنه تجديد للنفوس، التي أفسدها الشح والطمع، والبخل والجشع، وحب الدينار والدرهم، فركنت النفوس إلى الدنيا، وركضت وراء اللذات والشهوات، فقست القلوب، وعندما تأتي هذه الأيام بما تحمله من نفحات، فيجتمع المسلمون على ذكر الله تكبيرا وتحميدا، وتهليلا وتبجيلا، في العشر من ذي الحجة وأيام التشريق، تلين القلوب بذكر الله علام الغيوب، وتزداد إيمانًا، فتطهر النفوس، وتطمئن القلوب، وتنشرح الصدور، وتسعد المجتمعات، فكم عانت الأمة وتعاني من آثار قسوة القلوب، عندما أنساهم الشيطان ذكر الله، يقول تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ويقول: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] ويقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].

 

إنه -يا عباد الله- تجديد للسلوك، ففي أعيادنا نرى مشاهد النظافة والجمال، والطهارة والكمال، دون رياء وفخر، ولا إسراف وكبر، وهكذا ديننا دين النظافة والطهارة والجمال في الظاهر والباطن، فالمسلم يعيش نظيف الباطن والظاهر جميلا نزيها في لبسه وأخلاقه طول حياته، وفي الحديث: «إن الله جميل يحب الجمال»؛ (أخرجه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه).

 

إنه تجديد لمعاملة المسلم مع الآخرين، ففي أعيادنا يظهر المجتمع المسلم وكأنه قد تحلى بثوب جديد، فنرى مشاهد بر الوالدين، وصلة الأرحام، وزيارة الأقارب، والإحسان إلى الجيران، وعيادة المرضى وتفقد الإخوان، نرى تصحيح الأخطاء، وإعادة العلاقات، وتجديد الصداقات، نرى التكافل والتضامن، وقضاء الحاجات والتعاون، نرى التغافر والتسامح، والتصافح والتصالح، في الحديث: «إذا تصافح المسلمان لم تُفرَّقْ أكُفُّهُما حتى يُغفر لهما» »؛ (أخرجه الطبراني عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وصححه الألباني).

 

وفي آخر: «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يَفْتَرِقَا» »؛ (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وصححه الألباني).

 

إنه تجديد للمشاعر الأخوية الإيمانية، حينما يشعر المسلم بإخوانه المسلمين في بقاع الأرض، يشاركونه الفرحة والسعادة، والشعائر والعبادة، فيدركُ حقيقة تلك الرابطة العظيمة، والصلة المتينة، التي أكدها ديننا بأساليب عديدة، ويدرك أنها سبب للتمكين والقوة، والنصر والعزة، فيسعى للقيام بواجباته نحو أمته وإخوانه، فيتذوق حلاوة الإيمان، التي فقدتها كثير من القلوب، في الحديث: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»؛ (أخرجاه في الصحيحين).

 

إنها طريق الجنان وسبيل المؤمنين لرضى الرحمن، في الحديث: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» (أخرجه مسلم).

 

وإن العجيب حقا يا عباد الله بعد هذا، أن تزداد أمتنا تفرقا يوما بعد آخر، وعوامل اتفاقها كثيرة، ويزداد أعداؤها اجتماعا واتحادا وعوامل افتراقهم عديدة.

 

فلماذا نرى من يفتح على المجتمعات والأمة نوافذ الشقاق، والتقاطع والافتراق؛ ولديه أبواب مشرعة ميسرة للإخاء والالتقاء، والاجتماع والبناء؟

كيف لحلاوة الإيمان أن تمتلئ بها القلوب، وقد ظهرت بين المسلمين الخصومات والأحقاد، والحسد والفساد، ألم يتجرأ المسلم على إخوانه فسفك دمائهم، وأكل أموالهم، واستطال في أعراضهم بغير حق.

 

ألم يتفرق المسلمون إلى دولٍ وجماعات، ومذاهبِ ورايات، وأحزابٍ وعصبيات، حتى جعلوها بديلًا عن رابطة الإيمان، فظهرت الصراعات، وفسدت الأخلاق، واستبدلت الشريعة بالآراء والأهواء، فحل الشقاء، وعظم البلاء.

 

إن هذا لم يظهر في الأمة إلا بسبب ضعف التدين، وعدم الفهم الصحيح لشريعة رب العالمين، وعدم أخذنا لديننا لنبني به حياة نعيشها من جميع جوانبها.

 

ففي أعيادنا تجدد لهذه الحقيقة ساطعة، عندما نرى حجاج بيت الله الحرام، وقد تخلى كل واحد منهم عن زيه المعتاد، وفارق الأهل والأحباب، ليلبس الجميع ملابس واحدة، ذات لون واحد، ويجتمعون في صعيد واحد، ويلهجون بذكر واحد، ويعبدون الإله الواحد، فاجتمعت القلوب والأبدان، فنتذكر عند ذلك: أن المسلم أخو المسلم وأنه لا فضل لعربي على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى، وأن المصير المحتوم بعد هذه الدار هو لقاء الواحد القهار، العزيز الغفار، وأن هناك حساب وعقاب، وأجر وثواب، وجنة ونار.

 

أيها الإخوة والأخوات؛ فلتكن الأخوة الإيمانية، رابطة كل مسلم مع إخوانه، وليجعلْ ذلك سلوكًا عمليًا في حياته، يرضي به ربه، ويقوي به صفه، ويحفظ به أمته ومجتمعه ووطنه، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أمة وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وقال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].

 

أيها المضحون، قوموا فضحوا تقبل الله أضاحيكم، فاليوم يوم إنهار الدماء؛ تعظيما لله، وعبودية وخضوعا، وحبا وذلا، ولا تنسوا أن لكم عند الله بها أجرا عظيما، واللهَ اللهَ في إخوانكم؛ أطعموا البائس والفقير والمحروم، تفقدوا أحوال مَن حولكم مِن ضعفاءَ ومساكينَ وأيتامٍ، ادخلوا على قلوبهم السرور، ووسعوا عليهم، فإن ذلك من أفضل الأعمال في ختام عشركم، ويوم عيدكم.

 

ويا مَن لم يضحِ لضيق العيش والحاجة، وقلة ذات اليد، لا تبتئس ولا تحزن، فقد ضحى عنك وعن غيرك من المسلمين رسول -صلى الله عليه وسلم- قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان.. كما في الحديث الصحيح.

 

أيتها الأخوات المسلمات، والأخوات الفاضلات، والأمهات الغاليات، والمربيات الماجدات، اتقين الله تعالى في أنفسكن، وفي أزواجكن وفي أولادكن وبناتكن، حافظن على الصلوات المكتوبات، وأخرجن الزكوات المفروضات، واحفظن ألسنتكن وتصدقن، وعليكن بالحجاب والعفة، والاحتشام والسترة، واحذرن مكائد الأعداء، ومصائد الشيطان، فما يدبر لكن عظيم، وما يراد منكن أعظم، فإنكنّ نواة المجتمعات، ومن أعمدة صلاحها وسعادتها، فإنه لا يفسد مجتمع إلا بنسائه، بجهلهن وضعف إيمانهن، وبتبرجهن وسفورهن، وباختلاطهن بالرجال، وفتنهم بهن، كما في الحديث: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء».

 

فإياكن أن تكن مطية للأعداء ومعولا لهدم الإسلام والقيم والأخلاق، وفتنةً للأمة باسم تحرير المرأة وانتزاع حقوقها المسلوبة من الرجل، فوالله يا أمة الله إنهم لا يريدون إلا إخراجكن من عبودية الله إلى عبودية الشهوات المحرمة، والملذات المنحرفة، وإخراجكن من بيوتكن العامرة إلى خرابها ودمارها، ومن أسرتكن الصغيرة السعيدة إلى تفريقها وإفسادها وإتعاسها.

 

إنكن يا إماء الله، بحشمتكن وحيائكن، وطهارتكن وعفتكن؛ أغظتن أعداء الإسلام، بتمسككن بدينكن، فكم بذلوا من جهود، وأنفقوا من أموال في سبيل إفسادكن؛ فلم يتحقق ما أرادوا كما أرادوا، فلله دركن، وعلى الله أجركن، فكن حصونا للصلاح والفضيلة، ولا تكن جسورا للفساد والرذيلة، تحصن بالإيمان، وتترسن بالدعاء وصالح الأعمال، ولتكن أمهات المؤمنين لكن قدوة، وبنات النبي لكن أسوة، وفي الصحابيات الماجدات نماذجُ خَلّدَ التاريخ لكن ذكرها، فسرن على طريقهن، تثبتن أمام كبريات الفتن، وتسعدن في دنياكن وآخرتكن.

 

أيها المسلمون ولا تنسوا في يومكم هذا صلة أرحامكم، وزيارة أقاربكم، وتفقد جيرانكم، وأكثروا من ذكر الله تعالى كما هداكم، واشكروه على ما رزقكم وأعطاكم؛ وجددوا على الدوام إيمانكم، وحسنوا في كل حال أخلاقكم، واحفظوا أيديكم من دماءكم، واجتنبوا الفتن تفوزوا برضا ربكم، وصلوا أرحامكم تحل البركة في أعماركم وأموالكم، وتدوم لكم الأيام عيدا، وتمتلئ حياتكم بهجة وسرورا.

 

أدام الله علينا وعليكم أيام الفرح والبهجة، وكشف الغمة عن الأمة، ورفع عنها الشدة والفتنة.

 

اللهم أسعد قلوبنا واغفر ذنوبنا، واكشف غمومنا، وفرج همومنا، واشف مرضانا وارحم موتانا، وأصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان، وارفع الغلاء والوباء، ووفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وآمنا أوطاننا وديارنا، واجعلها عامرة بالسعادة والأمان، والسلامة والإسلام.

  • 5
  • 0
  • 3,351

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً