الدين والسياسة.. أيهما التابع وأيهما المتبوع؟
لدين والسياسة.. أيهما التابع وأيهما المتبوع؟
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتعتبر مسألة العلاقة بين الدين والسياسة هي أبرز نقاط الخلاف بين الإسلام والعالمانية.
وعلى خلاف ما يشيع العالمانيون.. فإنهم يتلقون في العالم الإسلامي هزيمة تلو الأخرى تجبرهم على التراجع خطوة بعد خطوة، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن العلمانية في الغرب اضطرت إلى التراجع عدة خطوات لإفساح المجال لوجود الدين بجوارها؛ حتى لا يظهر الغرب في ثوب اللا دينية المحضة في مواجهة دين حيوي كالإسلام.
يظهر هذا بوضوح إذا تتبعنا طموحات العالمانية في بدايتها وواقعها؛ فقد كانت العالمانية التي يطلقون عليها بأنها: "ضد الدين" هي الأكثر شيوعًا وانتشارًا، وهي: العلمانية التي أرادت القضاء على الدين، وأطلقت عليه وصف: "أفيون الشعوب"!
وبعد فترة وجيزة خفت صوت هذه العلمانية الإلحادية حتى في أبرز معاقلها: "الاتحاد السوفيتي"، لصالح العلمانية اللا دينية التي تنادي بـ"فصل الدين عن الحياة"!
ومع هذا.. فقد اضطرت هذه العلمانية إلى التجمل اللفظي -على الأقل- بتحوير شعارها إلى: "فصل الدين عن السياسة"، على اعتبار أن كلمة سياسة لا تحمل في طياتها عند السامع معانٍ شريفة تجعله ينفر من تصور عيش الإنسان فيها بعيدًا عن دينه.
بل إن هذا التحوير اللفظي كان له دلالته في التطبيق العملي حيث أقرت النظم العلمانية بإمكان اعتبار الدين في العلاقات الاجتماعية ذات الاعتبار الخاص في الدين، وهو أمر الزواج وتكوين الأسرة، أو ما يسمونه: بـ"الأحوال الشخصية".
ومع هذا.. اضطرت العلمانية إلى إفساح المجال أكثر أمام الدين؛ لاستثمار جانبه الوعظي، ووعده ووعيده الأخروي في الوصول إلى درجة التزام أكبر ببعض السياسات التي يمكن أن تلقى قبولاً في دين الأفراد.
وهذه هي النقطة التي يناضل العالمانيون عليها -لاسيما في بلادنا- وهي: "عدم محاربة الدين"، بل استثماره وإخضاعه للسياسة ، وهذا التراجع من قِبَل العلمانيين ربما يكون قد جاوز سقف طموحات رجال الدين في أوروبا.
ولكن العجيب أن يعتبره بعض المنتسبين إلى الدين أو الدعوة من المسلمين فتحًا مبينًا، ويتحركوا في اتجاه العالمانيين؛ ليلتقوا عند منطقة وسط بمحاولة إفساح المجال للتجارب البشرية في مسائل التشريعات العامة تحت دعوى الاجتهاد، أو التجديد، أو السعة والمرونة، أو غيرها.. بل ربما تعدى الأمر أبواب التشريع إلى أبواب الاعتقاد بمحاولة تقليل كم القضايا الاعتقادية الغيبية التي تثير حفيظة العالمانيين.
بيد أن العالمانيين بحكم الانتهازية السياسية -التي تكاد تكون قاسمًا مشتركًا بين كل العالمانيين تقريبًا- يسيسون الدين بأقصى درجة متى احتاجوا إلى ذلك، وليس أدل على ذلك من "دولة إسرائيل"؛ التي تمارس حربًا دينية ضروسًا مع المسلمين؛ بينما تدير شئونها الداخلية بنظام عالماني يكاد يصنف ضمن العالمانيات المتطرفة!
كما أن الدول الغربية التي خرجت العالمانية مِن عندها لا تستحي أن تصف حربها مع الإسلام بأنها: "حرب صليبية جديدة"، وتخالف مقتضيات العالمانية من الحرية الشخصية ونحوها في حربها لمظاهر وجود إسلام في بلادهم: كالمآذن والحجاب. وتفضـَّل "أوباما" علينا بأنه ليس ضد الحجاب؛ شريطة أن تختاره المرأة بعد أن تنال حظها من العلم! حتى اعتبر البعض هذا التصريح فتحًا -مع أنه من أخبث ما يكون-! فإنه لا يسمح لنا بحجاب نسائنا حتى نعلمهن، وبالطبع هو لا يعني أن نعلمهن الكتاب والسنة، وأدلة فرضية الحجاب، وإنما يعني أن نعلمهن التعليم المدني الذي يُعلي مبادئ العالمانية!
وعلى أي فإن العالمانيين لا يكفون عن تسييس الدين وتوظيفه في الوقت الذي يستنكفون فيه عن اتباعه والانقياد له.
وليس العجب من هؤلاء الذين يعرفون أن دينهم المحرف سوف يجعلهم يتركون أسباب التداوي؛ ليحصلوا بدلاً منها على بركات الأحبار والرهبان، وينخلعوا من أموالهم؛ لأنه لا يمكن أن يدخل غني الجنة مهما بلغ صلاحه إلا بالانخلاع من جميع ماله إلى غير ذلك مما لا يطبقه أحد من البشر، ولا حتى رجال الدين الذين حرَّموا على أنفسهم الزواج المباح في دينهم، واستعاضوا عنه بانتهاكات تتصاعد فضائحها حينًا بعد حين، وتدفع لها التعويضات بالملايين!
ولكن العجب من العالمانيين المنتسبين إلى الإسلام بتشريعاته الكاملة الشاملة الذين يصرون -أيضًا- على رفع شعار: "لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين"؛ حتى يهربوا من الالتزام بالأحكام الشرعية فيما يسوسون الناس به؛ بينما يمارسون أقصى درجات توظيف الدين أو تسييسه!
فعندما أرادت الأمم المتحدة أن تحارب التدخين في سِن الطفولة؛ أصدرت القوانين لمنع بيع السجائر لمن هم اقل من 18 سنة على اعتبار أن التدخين ضرر وحرام، وهذا حسن، ولكن ديننا يحرم على الفرد أن يضر نفسه صغيرًا كان أو كبيرًا، ويلزم المجتمع أن يغير المنكر حتى وإن فعله صاحبه اختيارًا.
ومِن وسائل تغيير المنكر: التغيير باليد، وأولى من يقوم بذلك السلطات الحاكمة أي أصحاب السياسات، فضلاً أن سن البلوغ عندنا ببلوغ الحلم وليس ببلوغ ثمانية عشر عامًا.
ومع هذا وجدنا فتاوى تحرم التدخين عند السن الذي رأى أهل السياسة -وهي هنا السياسة الدولية- أن يجرموه، ونسبت هذا إلى الإسلام، وامتنعت عن الكلام عما امتنع أهل السياسة عن الكلام فيه، وهي صورة فجة من تسييس الدين أو إخضاعه للسياسة واستدعائه عند الحاجة.
وربما استدعي بعضهم الدين؛ لكي يبرر ما ينافيه، والأمثلة على ذلك كثيرة: كإصدار الفتاوى المبيحة لتعاملات البنوك، أو إطلاق يد غير المسلمين في إقامة معابدهم في بلاد الإسلام؛ فضلاً عن تبرع المسلم لها!
والنماذج لا تُحصى كثرة لهذا "التسييس" المجحف للدين رغم إعلانهم المستمر رفض تسييس الدين.
ونحن معهم نرفض "تسييس الدين" بمعنى: استخدامه تابعًا للسياسة، وخادمًا لأغراضها سواء كانت سياسة دولة أو حزب أو فرد ،ولكن لا ننادي مثلهم: "بفصل الدين عن السياسة"، وإنما ننادي: بـ"إخضاع السياسة للدين"؛ بدلاً مما يجري الآن في كل وادٍ من إخضاع الدين للسياسة.
وهذه القضية تعتبر كغيرها من القضايا التي يستورد العالمانيون فيها مشكلات وحلول من عند غيرنا، ثم يريدون أن يفرضوها علينا، وإن كنا في غنى عنها فإذا اضطر مريض ما إلى بتر عضو من أعضائه، وكان هذا علاجًا يمثل "أحسن الحلول السيئة"؛ فلا يعني هذا أن يقلده الأصحاء.
والعالمانية -ومِن فروعها "الديمقراطية"- تمثل -باعتراف أصحابها- أحسن الحلول السيئة للأزمات التشريعية التي عانت منها أوروبا التي انتقلت من القانون الروماني القاصر إلى القانون الكنسي الجائر، ثم إلى القانون العالماني الفاسد الذي هو عندهم أحسن الحلول السيئة، وهم مشغولون عن الحل الحسن "التشريع الإسلامي" بعداوة الإسلام أو بجهله، مع أن الأمر لا يخلو من أصوات تطالب بتطبيق التشريعات الإسلامية في جوانب تشريعية عديدة، ومِن أمثلة ذلك: الأصوات التي طالبت بتطبيق التشريعات الاقتصادية الإسلامية بعد الأزمة العالمية الأخير.
ثم إننا نسأل أصحاب مقولة: "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين": من أي مصدر قد استقوها؟!
فإن قالوا: مِن السياسة. قلنا لهم: إذن لا يجوز لكم أن تنسبوها إلى الدين -أي دين- إلا بعد التأكد من أنها توافقه ويوافقها. فهل فعلوا هذا مع الإسلام؟ أم أرادوا أن يكرهوا المسلمين على اعتناق مقولتهم السياسية دون اعتبار للدين؟!
وإن قالوا: استقوها من الدين. قلنا لهم: أي دين تعنون؟! فإن الأديان كثيرة، ومنها ما لا يوجد فيها أي تشريعات، ومِن ثمَّ فلم يدخل في السياسة، ولا يمانع من أن يستعمله السياسيون أو أن يهجروه.
ومِن الأديان ما مر بعدة أطوار يتوافق بعضها مع السياسة كدين النصارى الذي نشرته الدولة الرومانية في أكثر صور توظيف الدين وتسييسه فجاجة في التاريخ عندما هجنت النصرانية بالوثنية؛ ليكون دينًا موحدًا للإمبراطورية الرومانية، ويُفرض على جميع الأتباع بقرار من الإمبراطور(2)، وفي هذه الحقبة التي دُونت فيها كتب هذا الدين وضع فيها: "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، وفُسرت بالخضوع التام للسلطات الحاكمة مهما كان حكمها!
نعم. انقلب الأمر بعد ذلك إلى طغيان كنسي، ولكنه لم يكن مستندًا إلى نص مكتوب في كتبهم أو كان مستندًا إلى نصوص عامة تعطي رجال الدين سلطات واسعة امتدت إلى الآخرة، فضلاً عن الدنيا؛ مما تسبب في نشوء العالمانية، والتي مرت بالمراحل المشار إليها آنفًا لتنتهي العلاقة في النهاية بين الكنيسة والسياسة في أوروبا إلى رضا الدين بأن يكون حاضرًا حضورًا فعالًا في خلفية السياسة العلمانية الحاكمة.
إن قبول دين ما لفصله عن الحياة العامة أو السياسة لا يعني قبول كل دين لهذه القضية، وإن كانت معظم الأديان تستنكف أن يُقال بفصلها عن الحياة، ولكن ترضى أن يقال بفصلها عن السياسة.
ويتضح هذا بتأمل معنى كلمة دين، ومعنى كلمة سياسة ، فكلمة دين في لغة العرب مشتقة من مادة "دان"، وهي تعني: الذل والخضوع والانقياد، وهذه تنطبق تمام الانطباق على دين الإسلام، وهي بنفس المعنى أو قريب منه في بقية اللغات، وفسر البعض هذا الاشتقاق بأن القضية المحورية في الدين هي مسألة "وجود الخالق" الذي ينبغي أن يخضع له العباد، ثم التعرف عليه من خلال العقل كما عند الفلاسفة أو من خلال الرسل كما عند مَن يؤمن بالرسل، ومعظم الأديان تحتوي بعد ذلك على مظاهر خضوع تعبدية لهذا الخالق كما يحتوي بعضها على تشريعات منسوبة لهذا الخالق.
ومِن ثمَّ ففصل الدين عن الحياة تعتبر كلمة مرفوضة في كل الأديان عدا دين الملاحدة المنكرين لوجود الخالق، وأما فصل الدين عن السياسة فأمر مقبول في كثير من الأديان كما يأتي بيانه -إن شاء الله-؛ بيد أنها مرفوضة تمامًا في الإسلام الذي جاء بتشريع كامل شامل.
وإنما يخفف من وقعها على المسلمين غموض كلمة سياسة أو اشتباهها بالمسالك السياسية المعاصرة، لاسيما التي الأصل فيها الذم والتلون، ولكن كلمة السياسة تعني بإيجاز شديد: نظم الحكم، أو بصورة أوسع: نظم المجتمع، فهي تشمل السياسات، أي: طرق تنظيم وإدارة الاقتصاد، والاجتماع، والتعليم، والإعلام، والسلم، والحرب، وغيرها من المجالات، وعند تأمل هذا المعنى يتضح بجلاء مخالفة هذا المبدأ للإسلام بداهة.
إذن.. فإذا كان مَن يدينون بغير دين الإسلام لم يجدوا غضاضة في أن يقولوا: "لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين"؛ فإنا نسأل مَن يردد هذه الكلمة من المسلمين: هل تستطيع وأنت مسلم أن تعيد صياغتها بوضوح فتقول: "لا إسلام في السياسة، ولا سياسة في الإسلام"؟!
ثم هل تستطيع أن تعيد ترجمتها بوضوح أكثر وتقول: لا أخلاق ولا مبادئ -بل الكذب والتلون والخداع- في السياسة، أي: إدارة الشئون العامة، ولا سياسة -أي: تنظيم الاقتصاد والاجتماع والتربية والإعلام- في الإسلام؟!
أظن أن القضية بعد إعادة تحديد الدين الذي نتحدث عنه بحكم كوننا مسلمين وهو "الإسلام"، وتحديد معنى السياسة، وهي: إدارة شئون المجتمع ونظمه؛ يصعب على مسلم النطق به فضلاً عن اعتقاده، فضلاً أن يفصل الدين عن السياسة إذا أراد أن يشرع بهواه أو بهوى الغرب، ويوظف الدين للدفاع عما يمكن الدفاع عنه من هذه التشريعات، ويعزله عن غيرها، كما يوظفه في تلميع نفسه وترويجها على العامة، في الوقت الذي لا يلتزم فيه بأحكامه.
فيا معشر العالمانيين: أنتم لا تفصلون الدين عن السياسة، وإنما تخضعون الدين للسياسة، ونحن نناديكم.. أن تُخضِعوا السياسة للدين؛ استجابة لأمر الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} [لأحزاب:36]. وعملًا بقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
والإسلام سمي بهذا الاسم؛ لدلالته على التسليم والاستسلام.
نسأل الله أن يجعلنا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن. اللهم آمين.
www.salafvoice.com
موقع صوت السلف
عبد المنعم الشحات
أحد المشايخ البارزين بمسجد أولياء الرحمن بالاسكندرية للدعوة السلفية و منهجه منهج أهل السنة و الجماعه و سلف الأمة من الصحابة و التابعين لهم باحسان
- التصنيف:
- المصدر:
عماد حسن
منذ