إلقاء السلام على غير المسلمين- دراسة فقهية موجزة
أحمد عبد المجيد مكي
هذه المسألة يحتاجها المسلم في كل زمان، وبالأخص في زماننا هذا، بعد أن أصبح العالم كقرية واحدة، وانتشر المسلمون في كل مكان، واختلطوا مع غيرهم، وفي هذه السطور مناقشة هادئة للمسألة.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
مقدمة
هذه المسألة يحتاجها المسلم في كل زمان، وبالأخص في زماننا هذا، بعد أن أصبح العالم كقرية واحدة، وانتشر المسلمون في كل مكان، واختلطوا مع غيرهم، وفي هذه السطور مناقشة هادئة للمسألة.
اختلاف الفقهاء
اختلف العلماء في إلقاء السلام على غير المسلم، على ثلاثة اقوال:
القول الاول : تحريم الابتداء ووجوب الرد عليه، نسبه النووي الى الشافعي وجمهور أصحابه وأكثر العلماء.
القول الثاني: جواز ابتدائنا لهم بالسلام وكذلك ردنا عليهم، قال النووي : ذهب إليه كثيرون من السلف، وهو مروى عن بعض الصحابة، وهو قول في المذهب الشافعي.
القول الثالث: يجوز الابتداء لمصلحة راجحة من حاجة أو قرابة أو لسبب يقتضي ذلك، وذهب إليه جماعة من العلماء.
أدلة المانعين:
أقوى ما استدل به المانعون حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ««لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق، فاضطروه إلى أضيقه»» [رواه الإمام مسلم في صحيحه] .
ووجه الدلالة منه ظاهره، إذ يدل على تحريم ابتداء المسلم لليهود والنصارى بالسلام، لأن ذلك أصل النهي، كما يقول الإمام النووي.
ويجاب عنه من وجوه ، أهمها:
الوجه الأول : من جهة الاسناد:
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وسهيل هذا متكلم فيه، وقد تفرد بالحديث، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته: صدوق تغير حفظه في آخر حياته. وقال الحافظ الذهبي: كان من كبار الحفاظ، لكنه مرض مرضًا غَيَّرَ مِنْ حِفظه، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال يحيى بن مَعِين: ليس حديثه بحُجة.
ولعل هذا يفسر لنا الاضطراب الوارد في الحديث : ففي رواية «فإذا لقيتم أهلَ الكتاب» وفي أخرى «اليهود» ، وفي أخرى «فإذا لقيتموهم» ولم يُسَمِّ أحداً من المشركين.
الوجه الثاني : سبب ورود الحديث
للحديث سبب ورود رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والبخاري في كتابه الأدب المفرد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لصحابته ««إني راكب غدًا إلى يهود، فلا تبدءوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم»» وهذه الرواية جاءت- عن عدد من الصحابة- بإسناده صحيح.
فهذه الرواية قيدت النهي بحادثة خاصة، وذلك حين نقض يهود بني قريظة عهدهم مع المسلمين، (فتوجه النبي لقتالهم، وأمر ألا يُبدؤوا بالسلام؛ لأنه أمان، وهو قد ذهب لحربهم). وإلى مثل هذا ذهب ابن القيم وشيخه ابن تيمية.
أدلة المجيزين:
أ - عموم النصوص التي تأمر بالبر والاحسان:
منها قول الله عز وجل: {(لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَم يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)} (الممتحنة:8).
وجه الدلالة :
في هذه الآية رخص الله تعالى في صلة الكفرة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم في الدين، لا سيما إن كانوا أقرباء وذوي أرحام، ومعنى: (تبروهم) تحسنوا إليهم. و(تقسطوا) تعاملوهم بالعدل.
قال القرطبي في تفسيره: (قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم، ثم استشهد بالآية، وقال إبراهيم لأبيه: {( سَلَامٌ عَلَيْكَ)} (مريم: 47). والأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة،.. ا.ه ثم ساق القرطبي جملة من الاثار-التي سنذكرها بعد قليل- عن الصحابة والتابعين.
- ومما تجدر الإشارة إليه أن الاية المذكورة أوردها الإمام البخاري في صحيحه في موضعين،
الأول: باب الهدية للمشركين وقول الله تعالى {لا ينهاكم الله} .. الاية.
الثاني : باب صلة الوالد المشرك. ثم ذكر تحته حديث أسماء بنت أبي بكر، قالت: أتتني أمي راغبة، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: آصلها؟ قال: «نعم» قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى فيها: {{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين}} [الممتحنة: 8].
يفهم من هذا أن هذه النصوص العامة- السابقة واللاحقة- على بابها، فإذا جاز الاهداء، جاز السلام.
كما أن الصلة - في حديث اسماء - عامة لم يحدد النص صورها، فإذا كان في الإهداء والصلة حض على مكارم الأخلاق واستئلاف النفوس، كذلك الأمر في السلام.
- مما سبق يتضح لنا عدم دقة قول الإمام النووي - في معرض رده على المجيزين- : واحتج هؤلاء بعموم الأحاديث وبإفشاء السلام وهى حجة باطلة لأنه عام مخصوص بحديث لاتبدأو اليهود ولاالنصارى بالسلام، وقال بعض أصحابنا يكره ابتداؤهم بالسلام ولايحرم، وهذا ضعيف أيضا، لأن النهى للتحريم فالصواب تحريم ابتدائهم. أ.ه شرح صحيح مسلم
ب- عموم النصوص التي تأمر بإفشاء السلام:
- منها قوله تعالى: {{وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}} [النساء: 86] ، وقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } (النور: 27)
- وقوله تعالى : { (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم، تحية من عند الله مباركة طيبة، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون)} (النور: 61).
وكلمة (بيوت) نكرة في سياق الشرط، يشمل بيت الإنسان وبيت غيره،.... فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت، من غير فرق بين بيت وبيت.
- ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
ج - جواز إلقاء السلام على المنافقين:
ألقى النبي- صلى الله عليه وسلم- السلام على عبد الله بن أبي ابن سلول- مع نفاقه وعدواته للإسلام وأهله-، وفي ذلك – كما يقول ابن بطال- رد على ما يقوله بعض الناس أن التسليم غير جائز على من كان عن سبيل الحق منحرفًا، إما لبدعة أو هوى، أو لملة من ملل الكفر، وذلك أنه لا ضلالة أشنع ولا بدعة أخبث ولا كفر ارجس من النفاق، ولم يكن فى نفاق عبد الله بن أبى يوم هذه القصة شك....
وإنما فعل النبي عليه السلام ذلك استئلافا لهم ورفقا بهم، رجاء فى رجوعهم إلى الحق.
وقد كان عليه السلام يستألف بالمال، فضلا عن التحية والكلمة الطيبة.
قال الطبرى: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب. ينظر : شرح صحيح البخارى لابن بطال.
د - آثار الصحابة والتابعين:
- ورد عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يبدأون أهل الذمة بالسلام، فعن ابن مسعود أنه قال: لو قال لي فرعون خيرا لرددت عليه مثله، وروي عنه أيضا أنه صحبه جماعة من أهل الكتاب في سفر، فلما افترق عنهم ألقى عليهم السلام، فقيل له: أَتُسَلِّمُ على هؤلاء الكفار؟! فقال: نَعَمْ، صَحِبُونِي، وللصُّحْبَةِ حَقٌّ.
- وكان أبو أمامة الباهلي يسلم على كل من لقي من مسلم وذمىّ، ويقول: هي تحيةٌ لأهل ملتنا، وأمان لأهل ذمتنا، واسم من أسماء الله نفشيه بيننا. علق ابن عبد البر على هذا الأثر بقوله: ومحال أن يخالف أبو أمامة السنة، لو صحت في ذلك.
وهنا سؤال : كيف نرد على غير المسلم إذا تحقق لدينا أنهم يقولون (السلام عليكم)؟
الذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل والله يأمر بالعدل والإحسان.
وقد قال تعالى: {{وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}} [النساء: 86] ، فندب إلى الفضل، وأوجب العدل ، وقد أمر النبي بالاقتصار على قول الراد ( وعليكم )، بناء على أنهم كانوا يقولون في تحيتهم ( السام عليك) أي الموت.
فإذا زال هذا السبب وقال الكتابي: سلام عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحية يقتضي أن يرد عليه نظير سلامه. أ. ه ينظر : أحكام أهل الذمة لابن القيم.
الخلاصة:
- إنما جُعل السلام- وهو اسم من أسماء الله- موضوعا بين العباد ليكون أمانا لهم في الدم والعرض والمال.
- لا مانع شرعاً من ابتداء غير المسلم بالسلام ومن بابٍ أولى أن يرد عليه السلام إذا سلَّم؛ لأنّه لم يثبت في النهي عن ذلك حديث مطلق ، والنهي الوارد كان لسبب خاص، هذا إن صح من جهة الإسناد، وسلِم من الإضطراب.
- لم يمنع الإسلام من إكرام غير المسلمين وحسن الصلة بهم، واستئلاف قلوبهم بالمال والهدية والسلام، طالما أنهم لم يناصبو المسلمين العداء، ولم يسعوا في إيذائهم ولم يقاتلوهم بسبب دينهم.
نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن ييسر لهذه الأمة ما يحفظ به عليها دينها، اللهم آمين.