واقع العالم الإسلامي قبيل العصر الحديث
منذ 2023-08-02
يكاد المؤرخون والباحثون يجمعون على القول بأن العالم الإسلامي بعد أن حقق تقدمًا علميًّا باهرًا، وبعد أن شيد حضارة شامخة اقتبس الغرب من أنوارها، وبعد أن ضرب بسهم وافر في شتى مجالات الحياة، فإنه بدأ يدخل مرحلة جديدة تتسم بالضعف والتأخر والتخلف والجمود.
يكاد المؤرخون والباحثون يجمعون على القول بأن العالم الإسلامي بعد أن حقق تقدمًا علميًّا باهرًا، وبعد أن شيد حضارة شامخة اقتبس الغرب من أنوارها، واستمد كثيرًا من أشعتها، بعد هذا وذاك، وبعد أن ضرب بسهم وافر في شتى مجالات الحياة، فإنه بدأ يدخل مرحلة جديدة تتسم بالضعف والتأخر والتخلف والجمود، وأخذت حالته تزداد سوءًا في عهود الركود، حتى وصلت قبيل العصر الحديث وخلال القرن الثامن عشر إلى درجة كبيرة من الضعف العام في شؤون الحياة كلها، سواء في العقيدة، أو الأخلاق، أو الفكر، أو السياسة، أو الاقتصاد، أو الاجتماع.
وقد وصف أحد المفكرين هذه الحالةَ، وعبَّر عن واقع المسلمين آنذاك خير تعبير، فذَكَر أن العالم الإسلامي قد بلغ من الضعف في القرن الثامن عشر الميلادي أعظم مبلغ؛ إذ انتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، وأخذ كثير من الولاة والأمراء يَخرُجون على الدولة وينشئون حكومات مستقلة، ولكن مستبدة كحكومة الدولة التي خرجوا عليها، فكان هؤلاء الخارجون لا يستطيعون إخضاع مَن في حكمهم، فكثر السلب والنهب، وفُقِدَ الأمن، وتدهورت الأحوال الاقتصادية، فبارت التجارة، وأُهمِلَت الزراعة.
ولم تنجُ العقيدة الدينية من آثار هذا الضعف والانحطاط، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - سجفًا من الخرافات، وخلَت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، يوهمون الناس بالباطل والهبات، ويرغبونهم في الحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور، وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يُشرَب الخمر والأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل على غير خشية واستحياء، ونال مكةَ و المدينة ما نال غيرهما من مدن الإسلام، فصار الحج ضربًا من المآسي.
وعلى الجملة فقد هبط المسلمون مهبطًا بعيد القرار، فلو عاد صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - إلى الأرض في ذلك العصر، ورأى ما كان يُدهَى الإسلام؛ لغضب وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين، كما يُلعَن المرتدون وعبدة الأوثان[1].
ولا شك في أن ما ذكره هذا الكاتب يكشف عن التدهور والانحطاط، والضعف والتأخر في شتى مجالات الحياة.
وليس من المنطق المقبول القول بأن ذلك نزل بالمسلمين فجأة، فالمتأمل في تاريخ الإسلام والمسلمين يكشف عن وجود عوامل كثيرة كان لها أثرها الخطير في حياتهم؛ إذ جعلتها تأخذ في التدهور والانحطاط، وبتضافر تلك العوامل التي بدأ بعضها مبكرًا في حياة المسلمين، مع ما جدَّ من عوامل أخرى على مسار التاريخ، أخذ التدهور يزداد شيئًا فشيئًا حتى بلغ قمته في القرن الثامن عشر، مما هيأ للغرب أن يعدَّ جيوشه، ويزحف بها على العالم الإسلامي، حتى سقطت دوله، واحدة بعد الأخرى تحت سلطة المستعمِر.
وإذا كانت سيطرة الغرب على الدول الإسلامية تعد صدمة كبيرة نزلت بالمسلمين، فإن هذه الصدمة قد أيقظتهم؛ إذ إن كثيرًا منهم أخذوا يقارنون بين حالة الشعوب الإسلامية، وما وصلت إليه من الضعف والتأخر والاستعباد والخضوع للغرب، وما وصلت إليه أوربا من القوة والتقدم في الصناعة، وفي العلم، وفي شؤون العمران، وشؤون السياسة والاقتصاد.
ويبدو أن هذه المقارنة بين الغرب المسيحي المتطور، والشرق الإسلامي المتخلف، جعلت البعض يظن - خطأ - أن الإسلام هو السبب في تأخر المسلمين وتخلفهم عن ركْب الحياة، وسواء أكان هذا الظن نابعًا من نفوسهم، أم كان قد تسرب إليهم من الغرب، فإن المستعمرين حاولوا أن يؤكدوه في نفوس المسلمين؛ رغبة في تحطيم الرابطة الإسلامية التي تربط بين الشعوب المستعمَرة، لأنهم موقنون أنهم لو استطاعوا القضاء على هذه الرابطة، لأمِنوا على أنفسهم من أن تهبَّ تلك الشعوب من ركودها، وتوحد صفوفها، وتستعيد قوتها، وتفلت من قبضتهم، ومن ثم فإنهم قد استعانوا بالمبشرين والمستشرقين، الذين حرصوا - إلا قليلاً منهم - على تشويه حقائق الإسلام، وإبعاد المسلمين عن دينهم الذي يحثهم على الجهاد، وإثارة بواعث الفُرقة بين شعوبهم، كما سنرى فيما بعد.
وقبل أن نحاول الكشف عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تدهور أحوال المسلمين، ينبغي أن نسارع إلى تفنيد الوهم الذي سبق إلى أذهان بعض المسلمين، من أن الإسلام هو السبب في تأخر المسلمين وتدهور أحوالهم، والحق الذي لا يستطيع منصف أن ينكره أن الإسلام ليس السبب فيما آل إليه أمرُ المسلمين من الضعف والتخلف كما يظن البعض، وكما يزعم كثير من المستشرقين، ويؤكد ذلك ما صرح به الأمير شكيب أرسلان في قوله: فتأخُّر المسلمين في القرون الأخيرة لم يكن من الشريعة؛ بل من الجهل بالشريعة، أو من عدم إجراء أحكامها كما ينبغي، وكلما كانت الشريعة جارية على حقها، كان الإسلام عظيمًا عزيزًا"[2].
وذلك لأن العقيدة الإسلامية عقيدة واضحة صريحة، لا تعقيد ولا غموض فيها، ولا تميل إلى اتخاذ الأساطير والخرافات سبيلاً إلى السيطرة على العقول؛ بل تهدف إلى تحرير الإنسان من العبودية، وتهدف إلى الاعتزاز بحريته وكرامته، وتحثه على طلب العلم، وتَدْعوه إلى النظر في الكون والاستفادة من الكائنات التي سخرها الله تعالى له، وتدفعه إلى العمل الجاد المثمر حتى يسيطر على الطبيعة، وتدعوه إلى التمتع بطيبات الحياة في الحدود التي رسمتها الشريعة، والتقرب إلى الله بإخلاص العبودية له، والالتزام بشرعه، وأداء ما فرضه عليه من عبادات.
ولا شك في أن فهم الإسلام فهمًا صحيحًا هو الذي مكَّن المسلمين من بناء الحضارة الإسلامية الشامخة، التي انبثقت منها الشرارة الأولى التي بعثت النور في أوربا، فقد استمد منها الأوربيون - باعتراف المنصفين منهم - الأصولَ الأولى لنهضتهم، وأعني بذلك أصول المنهج التجريبي، وإذا كان "بيكون" قد وضع هذا المنهج في الغرب، فإنه قد استقى ما حصله في العلوم من الجامعات الإسلامية، ومن ثم "فليس له الحق في أن ينسب إليه الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن "بيكون" إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية"[3].
ولا أظن أن عقلاً منصفًا يسمح لنفسه أن يتهم الإسلام الصحيح بأنه سبب تأخر المسلمين؛ لأن هذا الدين يتضمن كل مقومات الحضارة، وكل أسباب التقدم، وقد شهد بذلك أحد الغربيين فقال: "ليس الإسلام ولا تعليمه السببَ المفضي بالمسلمين إلى هذه الحالة المشهودة من التضعضع واختلال الشؤون، ولكن السبب في ذلك إنما هو استبداد أمراء المسلمين وحكامِهم الذين الْتَوَوا عن الصراط المستقيم، وتَنَكَبُّوا عن طريق صاحب الرسالة وخلفائه الراشدين"[4].
وإذا كنا نرفض القول بأن الإسلام هو السبب في تدهور واقع العالم الإسلامي، فإننا نرفض أيضًا القول بأن ما نزل بالمسلمين من تدهور وركود ليس إلا ضربة من ضربات القَدَر وفعل الزمان؛ لأن هذا القول لا يُقدِّم لنا تفسيرًا مقنعًا لما أصاب أمَّتنا، ولا يضع أيدينا على الأسباب التي يمكن بتلافيها أن نغيِّر حالنا ونتجنب الداء، وإنما يحيل المشكلة إلى القدرة الإلهية، أو يد القدر التي تفعل ما تشاء، وكأن الناس ليسوا مسؤولين عن أعمالهم وعما ينزل بهم، وكأن الأسباب لا تؤدي إلى نتائجها، وكأن القوم لا يملكون من أمرهم شيئًا، وإنما خُلقوا ليساقوا - مرغمين - إما إلى النصر والعزة، وإما إلى الهزيمة والهوان، وباختصار فإن هذا القول مبني على أن مفهوم القدر هو الجبر، وليس هذا من الصحيح في شيء؛ لأن القدر يعني أن الأشياء كلها سابقة في علم الله تعالى، وواقعة بقدرته ووَفْق مشيئته، وهذا لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب، لأن الله تعالى قدَّر الأشياء بأسبابها[5]، وصدق الله العظيم في قوله تعالى: { {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} } [الرعد: 11]، وإذًا فما نزل بالمسلمين كان نتيجة لأسباب وعوامل تفاعلت وتشابكت وأدت إلى تدهورهم.
أسباب التدهور :
يرى الباحثون والمؤرخون أنه من الصعب - إن لم يكن من المستحيل - أن يحددوا وقتًا معينًا لتدهور أمة ما من الأمم؛ وذلك لأن الأمم لا تشعر به إلا إذا ظهرت نتائجه وآثاره واضحة جلية في حياتها، وإذا كنا - بناء على ذلك - لا نستطيع أن نحدد وقتًا معينًا لتدهور حال الأمة الإسلامية، فإننا نستطيع أن نقول: إن حال أمتنا أخذت في التدهور منذ زمن بعيد، وإن التدهور أخذ يزداد بازدياد أسبابه، حتى بلغ ذروته في القرن الثامن عشر أو قبيل العصر الحديث، ولن نستطيع في هذا المجال أن نستقصي القول في هذه الأسباب، وإنما سنشير إليها بإيجاز.
وأهم الأسباب التي أثَّرت في حالة العالم الإسلامي، تتمثل في نظرنا فيما يلي:
1 - تحريف الدين وتشويه العقيدة.
2 - ابتعاد المسلمين عن مبادئ دينهم.
3 - الحروب الخارجية.
أولاً: تحريف الدين وتشويه العقيدة:
لقد اشتمل الإسلام على عقيدة بسيطة واضحة، خالية من التعقيد والغموض، وبعيدةٍ عن الأوهام والخرافات، وقدَّم تفسيرًا متزنًا للألوهية يَجمَع بين تنزيه الله عن كل ما لا يليق بذاته العلية، وبين اتصافه بصفات الكمال التي تجعله متفردًا بالربوبية والوحدانية، وقرر أن الله واحد أحد، لا نظير له ولا شبيه، خالق كل شيء، وليس كمثله شيء.
وقد استطاع الإسلام بهذه العقيدة، وبما اشتمل عليه من مبادئ إنسانية خالدة تتفق مع الفطرة - أن يخلق من العبيد أحرارًا، ومن الضعفاء قوة، ومن القبائل المتنافرة أمة متماسكة مترابطة، وأخرج الناسَ من عبادة العباد والأصنام إلى عبادة الله وحده، ومن الظلمات إلى النور، ومن الظلم إلى العدل، وأخرجهم مما يشبه العدم، وخلع عليهم القوة التي لم تخرجهم قط عن إنسانيتهم وتسامحهم، حتى قيل إن العالم لم يشهد حروبًا أكثر إنسانية من حروب المسلمين.
ولكن لم يُقدَّر لهذا الدين أن يبقى على صفائه ونقائه، ولم تحتفظ عقيدته بوضوحها وبساطتها، وذلك لأنه انتشر في بلادٍ بها ديانات أخرى كثيرة، سواء كانت سماوية أو غير سماوية، وقد اصدمت عقائد هذه الديانات بعقائده، فعزَّ على كثير من أصحابها أن يعملوا على تصحيح ما في عقائدهم من انحرافات، وناصبوا الإسلام العداء، وقد اشتبكت هذه الديانات والعقائد مع الإسلام اشتباكات عقلية عنيفة، استهدفت تشكيك المسلمين في عقائدهم؛ بل وتقويض هذه العقائد، ومن ثم لحقَ التحريفُ كثيرًا من مبادئ الإسلام، وشابت الأوهام والخرافات عقيدته, وذلك راجع إلى ما يلي:
1 - ما قام به اليهود والنصارى من نشر الأفكار الهدامة بين المسلمين؛ رغبة في تقويض العقائد الإسلامية، ويذكر المؤرخون أن اليهود قد ساعدوا على قيام العقيدة الشيعية الغالية، فقد دخل بعض أحبارهم في الإسلام نفاقًا، وأثاروا فكرة الإمام المعصوم، وتكاد تُجمِع كتب العقائد الإسلامية على أن عبدالله بن سبأ - وهو أول من دعا إلى فكرة القداسة التي نُسبَت إلى علي - كان يهوديًّا وقد أسلم نفاقًا، كما أن فكرة الرجعة، والبداء، والمهدي المنتظر، وغيرها من آراء شيعية غالية، هي يهودية الأصل[6]، وأيضًا فإن كثيرًا من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام نفاقًا وضعوا أحاديثَ كثيرة في مسائل التجسيم والتشبيه، فساعدوا بذلك على وجود المشبِّهة والمجسِّمة.
وكذلك حاول النصارى أن يشككوا المسلمين في عقيدة الوحدانية، وأن المسيح رسول الله، لأن ذلك يناقض عقيدتهم في التثليث، والقول بألوهية المسيح وأنه ابن الله، كما أدخل بعض النصارى الذين أسلموا أقوالاً من الإنجيل دُسَّت على أنها أحاديث قالها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الصحيح أن المسلمين قد جادلوا اليهود والنصارى وردُّوا على عقائدهم، ولكن من الصحيح أيضًا أن عقائدهم التي أثاروها في وجه الإسلام كان لها أثرها في تحريف العقيدة الإسلامية لدى بعض المسلمين[7].
2 - حركة الزندقة والإلحاد: لقد حاول الزنادقة من أتباع المانوية والزرادشتية والمزدكية تقويضَ صرْح الإسلام بالتشكيك في عقائده، وإذاعة مبادئ مناقضة لأصوله؛ كالقول بعبادة النور والظلمة، والدعوة إلى إباحة المحرَّمات وتحريم المباحات في الدين، مما أدى إلى شيوع المجون والانحلال[8]، وعلى الرغم من أن المسلمين قد تصدوا لهؤلاء الزنادقة، وردوا عليهم، فإن أفكارهم تركت آثارها في الإسلام وعقيدته.
3 - الثقافات الأجنبية: كان للثقافات الأجنبية التي احتك بها المسلمون، وخاصة الثقافة اليونانية والهندية - أثرٌ في ظهور الأفكار الغريبة على الإسلام، فقد تُرجمت الفلسفة اليونانية وكان فيها كثير من مظاهر الوثنية، وبعض الأفكار التي تتعارض مع مبادئ الإسلام؛ كالمذهب الذري المادي، والقول بقِدَم العالم، وما إلى ذلك من الأفكار الباطلة، وكذلك تُرجمت الثقافة الهندية وتركت بصماتها على العقيدة الإسلامية؛ وذلك أن أهم عقائد هذه الثقافة عقيدةُ القول بتناسخ الأرواح، وقد لعبت هذه العقيدة دورًا هامًّا في المذاهب الإسلامية، وأثَّرت بصورة واضحة في أفكار الغُلاة من الشيعة، الذين كانوا يقولون بتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي الله عنه[9].
4 - فتنة الباطنية: هم جماعة من الحاقدين على الإسلام، أرادوا العمل على هدمه وتقويضه من الداخل، وكانت وسيلتهم إلى ذاك التفرقة بين الظاهر والباطن، فقد زعموا أن لظواهر القرآن والحديث بواطنَ تجري من الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصورتها توهم الجهال صورًا جليلة، وهي عند العقلاء رموز وإشارات إلى حقائق خفية، وأن مَن تقاعس عقله عن البحث عن الخفايا والأسرار، والبواطن والأغوار، وقنع بظواهرها - كان تحت الأغلال التي هي تكليفات الشرع، ومن ارتقى إلى علم الباطن سقط عنه التكليف، واستراح من أعبائه، وهم المرادون بقوله تعالى: { {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} } [الأعراف: 157][10].
وإذا كنا لا نستطيع أن نفصل آراء هذه الطائفة، فلا بد وأن نشير إلى أن تعاليمها كانت مجموعة غريبة من العقائد المجوسية، والأفكار الأفلاطونية، والأغراض السياسية، وقد كانت هذه الطائفة بفروعها المختلفة من الإسماعيلية والحشاشية والدروزية والنصيرية - تتعاون مع القوى العدوانية ضد الإسلام والمسلمين، وهي التي مهدت الطريق للهجوم على الأقطار الإسلامية، وساعدت الصليبين في شنِّ هجومهم على الشام، كما ساعدت التتار أيضًا في هجماتهم العنيفة على الشام.
ومع هذا كله فإنهم كانوا يقومون بنشر الاضطراب الفكري، والإلحاد والزيغ والثورة على الدين، فكانوا بذلك كله - كما يقول أحد الباحثين - كالطابور الخامس في حصن المسلمين الديني[11].
وكان الباطنية يعتمدون في نشر عقائدهم الضالة على أسلوب التدليس والاستدراج واستغلال جهل الجماهير، فكانوا يبدؤون ببذر بذور الشك في القلوب، حتى يزعزعوا الإيمان بما جاء به القرآن، فإذا رأوا أن الريب بدأ يدب في عقيدة أحدهم، أسرعوا إليه يوهمونه بأنهم هُداتُه ومرشدوه إلى اليقين، ثم أخذوه إلى مرشدهم ليبايعه على الطاعة، فإذا اطمأنوا على أنهم استحوذوا على عقله كاشفوه بحقيقة أمرهم، وقالوا له الآن سقطتْ عنك التكاليفُ؛ لأن الفرائض الدينية إنما فُرضتْ على المحجوبين دون الوصول إلى الحق، والحق هو المرشد الكامل، وكذلك سائر الحدود والاعتقادات، إنما ألزمت فرائضها الناقصين المصابين بأمراض من ضعف النفوس ونقص العقول، أما وقد صرتَ كاملاً فلك الاختيار في مجاوزة كل حد مضروب، والخروج من التكاليف إلى الإباحة الواسعة[12].
5 - ما حمله معهم أتباع العقائد الأخرى ممن دخلوا الإسلام، فإن كثيرًا من هؤلاء وخاصة العامة لم يتخلصوا تمامًا من تقاليدهم وعاداتهم التي نشؤوا عليها في ظل عقائدهم الأولى، وكانت حياة هؤلاء مزيجًا من الإسلام والتأثير الجاهلي، وقد أشار المقريزي إلى فريق من هؤلاء، فقال: "وكانوا إنما رُبُّوا بدار الإسلام، ولُقِّنوا القرآن، وعرفوا أحكام الملة المحمدية، فجمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء"[13].
ومما هو جدير بالذكر أن هذه التيارات والعقائد كلها قد أثرت - على الرغم من تصدي كثير من علمائنا لمناقشتها والرد عليها - في تحريف الإسلام، وتشويه عقيدته، وإدخال كثير من الأوهام والخرافات التي أخرجته وأبعدته عن أصوله الأولى، وأصبح الدين الخالص والتوحيد النقي وراء حجاب وحجاب، "ونشأ الغلو والإفراط في الاعتقاد في الأولياء الصالحين - شأن اليهود والنصارى - حتى رسخت عقيدة التقرب بالأولياء في أذهان الكثير من الناس، وأصبح كثير من العلماء لا يرون بأسًا في الاستغاثة بغير الله والاستعانة به، واتُّخِذَت قبورُ الأولياء والصالحين مساجدَ، ولم يكن المسلمون يشعرون بأي غضاضة في التخلق بأخلاق الذميين والكافرين، واتخاذ شعائرهم والحضور في أعيادهم الدينية، واصطناع تقاليدهم وعاداتهم"[14].
ثانيًا: ابتعاد المسلمين عن مبادئ دينهم:
الإسلام دين ودولة، تناول شؤون الدين ومسائل العقيدة، كما تناول شؤون الدنيا وعلاقات الناس بعضهم ببعض، والمعاملات المالية التي تجري بينهم، والأسس التي يقوم عليها كل من النظام السياسي والنظام الاقتصادي، ودعا المسلمين إلى التآلف والتماسك ونبذ الخصام، والاعتصام بكتاب الله وسنته، والاحتكام إليهما فيما يجِدُّ من خلاف، وربط بين الإيمان والعمل، وأوجب على العلماء أن يقوموا برسالة الأنبياء في الإرشاد والتوجيه والدعوة إلى الله، كما أوجب على الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحث المسلمين على التمسك بجوهر الدين وروحه.
ولا شك في أن المسلمين الأوائل قد طبَّقوا هذه المبادئ في حياتهم وسلوكهم وأخلاقهم وعلاقاتهم، ومن ثم فإنهم استطاعوا أن يفتحوا الدنيا، وأن يكوِّنوا أكبر إمبراطورية في ذلك الوقت، ولكن المسلمين بدؤوا بعد ذلك يبتعدون شيئًا فشيئًا عن روح الإسلام ومبادئه، حتى أصبحت الشُّقَّةُ بين حياتهم وبين كثير من هذه المبادئ واسعةً، ويتجلى هذا الخروج عن روح الإسلام ومبادئه فيما يلي:
1 - الصراع السياسي والديني:
لقد بدأ الصراع السياسي بين المسلمين مبكرًا، وذلك لأن الخلاف قد نشأ عقب وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة حول الإمامة أو الخلافة، وكان هذا الخلاف - كما يقول الأشعري - أول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد وفاة نبيِّهم[15]؛ فمنهم من زعم أن الإمامة لا تكون إلا بالنص، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوصى بها لعلي ونص عليه، ومنهم من أنكر ذلك وقال إن الخلافة بالاختيار والبيعة، وأطلت الفتنة بين المسلمين، ولكنها سرعان ما اختفت بفضل ذكاء وحصافة الصدِّيق والفاروق، وما اتسم به عهدهما من العدل والمساواة، ثم أطلت من جديد في عهد الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وأخذت الظروف تنفخ فيها وتشعل نارها، حتى أدت إلى مقتل عثمان، ومقتل الخليفة الرابع أيضًا علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وتخضَّبت الأرض بدماء الخلفاء والصحابة، ولم تسكن الفتنة بمقتل هؤلاء، فقد تشتَّتَ شمل الأمة من ذلك الحين، وظهرت الأحزاب السياسية؛ كالخوارج والشيعة والمرجئة، وأطلت العصبية الكريهة التي قضى عليها الإسلام برأسها، وأخذ الخلاف والصراع السياسي يشتد ويستشري بين المسلمين، حتى انفصمت الوحدة الإسلامية وتشتَّتَتْ، وهذا الخلاف السياسي قد أدَّى إلى الخلاف والصراع الديني، ذلك أن الشيعة قد نقلوا مسألة الإمامة أو الخلافة من المستوى السياسي إلى المستوى الديني، واختلفت الخوارج مع المرجئة في حكم مرتكب الكبيرة، وبدأت الفِرَق الدينية تظهر؛ كالقدرية والجبرية والمعتزلة والمشبهة والأشعرية والماتريدية، واشتد الجدل والصراع بين هذه الفرق، واختلف هؤلاء - كما يقول أحد المفكرين - ما شاءت لهم ثقافتهم وعقولهم وأهواؤهم أن يختلفوا، وشغل القومُ أنفسَهم ومعاصريهم بمشاكل دينية مزعومة ما كان أغناهم عنها؛ كالبحث في صفات الله، وهل هي عين الذات أو غيرها؟ والبحث في القرآن وهل هو قديم أو مخلوق؟ وهل لله وجه ويد كما أخبر القرآن أم لا؟ واحتدت الخصومة فيما بينهم، واضطهد كلُّ فريق صاحبَه، وسارع البعض إلى تفسيقه أو تكفيره[16].
2 - انحراف بعض رجال الدين:
إن رجال الدين هم ورثة الأنبياء في القيام بإرشاد الناس إلى الحق، وهدايتهم إلى طريق السعادة، وحثهم على التمسك بالأخلاق والقيم التي بيَّنها لهم دينُهم، ولا بد أن يكون هؤلاء العلماء قدوة في أفعالهم وأقوالهم، فلا يقولون إلا ما يفعلون، ولا يفعلون إلا ما يعتقدون، لا بد أن يربطوا بين العقيدة والعمل؛ حتى ينفذ كلامهم النابع من القلب إلى قلوب السامعين، فما خرج من القلب يجد سبيله إلى القلب.
ومن الحق الذي لا مجال فيه للمكابرة أن تاريخنا لا يخلو من أولئك العلماء الذين أخلصوا العلم والعمل، فكانوا نماذجَ حية يقتدي بها الناس ويهتدون بهديها، ولكن من الحق أيضًا أننا نرى كثيرًا من رجال الدين - وخاصة في القرون المتأخرة التي تمثل عهود الركود والظلام في التاريخ الإسلامي - قد انحرفوا عن روح الإسلام، ففصلوا بين العقيدة والعمل، وأصبحوا يقولون ما لا يفعلون، وابتعدوا في دراساتهم عن روح الدين وأصوله، وانصرفوا إلى الجدل والمناقشة في الجزئيات والفروع، وقد ذهب الفقهاء في تفريع المسائل وتقسيمها، وفرض الفروض المستحيلة - كلَّ مذهب، فتخيلوا جميع الحالات الممكنة التي قد لا تتحقق بالفعل، ثم اختلفوا في حكم كل مسألة من هذه المسائل، فتشعَّبَت الحلول، وتفرقت الآراء، وأصبح الاهتداء إلى الحق فيها أمرًا يكاد يشبه المستحيل، وبذلك فإن العلوم الدينية قد تحجرت وذهب روحها، فلم يبق فيها إلا عبارات معقدة، وصيغ مكررة، وأصبح الدين رسومًا شكلية، ومبادئَ جامدة لا روح فيها ولا حياة، وصارت العبادات صيغًا وعبارات فارغة، وحركات لا روح ولا خشوع فيها، وبطَل أثرها في سلوك الناس، ولم يَعُد لها أثر في تهذيب الضمائر وتربية الأرواح، وأيضًا فإن العلماء الرسميين قد انصرفوا عن أداء رسالتهم في إرشاد الناس وتبصيرهم بأمور دينهم، والقيام بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإسداء النصيحة للحكام - انصرفوا عن ذلك وشُغلوا بمصالحهم، فأخذوا يتملقون الحكام، ويتقربون إلى أهل السلطان، ويفسرون مبادئ الدين بما يحقق مآربهم، ويساندونهم في استبدادهم، وصاروا أبواقًا لهم؛ يمجدون أعمالهم، ويطلبون من الرعية الرضا بنقائصهم، وعدم الخروج على ظلمهم، وضرورة الطاعة لكل أوامرهم؛ لأن طاعة أولي الأمر واجبة، كل هذا رغبة في أن ينالوا رضا الحكام، ويظفروا بالمناصب أو الدرجات العلمية التي يخلعونها عليهم.
إن كثيرًا من هؤلاء العلماء قد اتخذوا الدين مصيدة للدنيا، وجعلوا ديدنهم - كما يقول شكيب أرسلان - التزلفَ إلى الأمراء بتسويغ جميع موبقاتهم بالأدلة الشرعية، وكلما أتى أحد الملوك أو الأمراء عملاً منكرًا إلا أتوا له من الآيات والأحاديث بما يثبتون له به مشروعية ذلك العمل، بصرف الآيات، وتحريف الكلم عن مواضعه، ورواية الضعاف والموضوعات، إلى غير ذلك من الاستشهادات التي يتوخون بها الزلفى والجائزة[17].
ولا شك أن ذلك كان له أثر خطير في تدهور أحوال المسلمين، ومما يؤكد ذلك أن رجال الدين من الأتراك قد أسهموا بمثل هذه المواقف في تحطيم أركان الخلافة العثمانية، فقد قيل: "إن شيخ الإسلام هناك كان يحرض السلطان عبدالحميد في أواخر القرن الماضي على عدم الاستماع إلى دعاة الحرية والمنادين بإدخال النظام النيابي، وكان يحضه على الوقوف بحزم من هؤلاء المتمردين، بحجة أن هذا النظام الذي يطالبون به لا يصلح للمسلمين، الذين لا يستقيم لهم ملك إلا إذا كان على رأسهم مستبد، وكذلك كان يطرب عندما يعمل السلطان سيف الغدر في رقاب الأحرار"[18].
3 - استبداد بعض الحكام:
لقد أقام الإسلام نظام الحكم على الشورى والعدل، وجعل الحكام مسؤولين أمام الرعية، وطالب الرعية بالرقابة على الحكام، وقد تجلى هذا بصورة واضحة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، فرأينا من يقول للخليفة الثاني عمر بن الخطاب: والله لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقوَّمناه بسيوفنا، فيحمد الخليفة ربه، ويقول: "الحمد لله الذي جعل فيكم مَن يقوِّم عمرَ بسيفه"، ولكن المسلمين ابتعدوا عن تطبيق مبادئ الإسلام في مجال الحكم منذ أن جعل معاوية بن أبي سفيان الخلافة وراثية، وفتح الباب للنظام الفردي المستبد، فأخذت أحوال المسلمين تزداد سوءًا في هذا المجال، حتى بلغ السوء مبلغه حين استعان العباسيون بالأتراك، الأمر الذي أدى إلى تصدع العالم الإسلامي، وانقسامه إلى دويلات مختلفة، يسيطر على كل دويلة منها حاكم، ليس لديه عن حكم الشورى والعدل والمساواة سوى صدى بعيد خافت.
وليت هؤلاء الحكام اتفقوا فيما بينهم على أن يكونوا يدًا واحدة، مع استقلال واستبداد كل واحد منهم بإقليمه، ولكن كان يظن كل واحد منهم أنه أحق بالملك من سواه، ومن ثم دارت المعارك بينهم، فإذا عجز أحدهم عن أن ينال من صاحبه، أو أن يدافع عن نفسه وملكه؛ استعدى عليه الأجنبىَّ، ولا شك أن ذلك قد فتَّ في عضد الجميع، فجعلهم لقمة سائغة للمعتدين، ومن العجيب أن كل واحد من هؤلاء المستبدين وجد أعوانًا له في الفقر والجهل، واتخذ سندًا له من المنافقين المرائين الذين يتقربون إلى ذوي السلطان، يمجدون ظلمهم فيسمونه حزمًا، ويبررون طغيانهم فيصفونه بأنه حكمة ومعرفة بما يجب أن تساس به الرعية، ويصفونهم بالصلاح وهم الفساق، وبالعدل وهم الطغاة، وبالعلم وهم الجهلة، وبالحِجَا وهم الحمقى[19].
وإذا ثبت قدم الاستبداد بذلك وأمن الحاكم، زاد طغيانه، وعاش عيشة الدعة والترف، وحرص على توطيد ملكه ولو أداه ذلك إلى الاستعانة بالأجنبي وبيع وطنه، وتاريخُ المسلمين حافل بأمثال هؤلاء الأمراء الذين احتفظوا بلقب الإمارة على أسنة رماح الأجانب، وهذا هو الذي قضى على ملك المسلمين في الأندلس، وقوض سلطانهم في الهند، وألْحَقَ بهم الوهن في جميع ديارهم، وقد اشتد غضب الأفغاني على موقف ملوك المسلمين الذين نسوا أوطانهم ولم ينسوا أنفسهم وأطماعهم، فقال: "أمَا وعزةِ الحق لو تُرك المسلمون وأنفسهم بما هم عليه من العقائد، مع رعاية العلماء العاملين منهم؛ لتعارفت أرواحهم، وائتلفت آحادهم، ولكن واأسفاه، تخللهم أولئك المفسدون الذين يرون كل السعادة في لقب أمير أو ملك، وما ردَّ الأفرادَ عن الحركة، وما أقعد الهممَ عن النهوض إلا أولئك المترفون، يحرصون على طيب في المطعم، ولين في المضجع، وتطاول في البنيان، وتفاخر بالخدم... أولئك صاروا في أعناق المسلمين سلاسل وأغلالاً، يحبسون هذه الأسود عن فريستها، يجعلونها طعمة للثعالب"[20].
4 - الجمود الفكري وسيطرة التقليد:
إن الإسلام باعتباره آخر الشرائع السماوية قد تضمن من المبادئ ما يجعله يساير الزمن، ويواكب الحياة المتطورة، ومن ثم كان اجتهاد الأئمة الأوائل الذين خلفوا لنا ثروة واسعة عظيمة، ومع أن هؤلاء الأئمة لم يحجروا على العقول، ولم يوجبوا على الناس التقليد الأعمى لمذاهبهم، ولم يزعموا أن آراءهم هي القول الفصل الذي ينبغي أن يلتزم الناس بها، لأنهم كانوا يؤمنون بأن كل قول يصح أن يؤخذ منه وأن يترك، إلا قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أقول مع هذا فقد ظهرت نزعة تدعو إلى تقليد المذاهب وسد باب الاجتهاد.
وقد عارض كثير من رجال الفكر والإصلاح هذه النزعة، ولكنها برغم ذلك لم تَختفِ تمامًا من سماء الفكر الإسلامي؛ بل كانت من وقت لآخر تترقب الظروف التي تحقق لها السيطرة، وقد تهيأت لها الظروف في عهود الركود، فسيطرت نزعة التقليد للمذاهب القديمة - سواء مذاهب العقيدة، أو مذاهب الفقه - سيطرة قوية، وطغت التبعية المطلقة لهذه المذاهب، بحيث أصبح التابعون لمذهب معين لا يمكن أن يتخلوا عن تقدير هذا المذهب، ومنحه سلطة عليا في التوجيه والاعتقاد أو العمل، في كل رأي من آرائه، والخطر الذي يهدد الجماعة - أية جماعة - لا يكمن في تعدد مذاهبها في التفكير أو الاعتقاد أو الفقه؛ بل في تحكم هذه المذاهب وسيطرتها على التابعين، بحيث يهاب هؤلاء التابعون نقدها، وإبداء الرأي في قيمتها، وعندئذ تكون الجماعة جماعات.
وعلى أية حال فإن علماء الدين الرسميين وخاصة الفقهاء، قد انصرفوا في تلك الفترة - فترة الركود - عن البحث في قضايا الدين، وعرضها عرضًا يتلاءم مع تطور الحياة الاجتماعية، ورضُوا لأنفسهم أن يقفوا موقف الجمود والتقليد، ونادوا بأن باب الاجتهاد قد أُوصد، وأن هؤلاء الذين يحاولون التجديد في أحكام الشريعة، حتى تكون موافقة للتطور الاجتماعي - جماعة من الكفرة؛ بل رموا هؤلاء الذين يرون ضرورة العودة إلى رأي السلف بأنهم مرقوا من الدين، وقد روى لنا الشيخ محمد عبده كيف أن أحد هؤلاء المجتهدين نشر مقالاً عرض فيه للصوفية، وبيَّن فيه أن هذا المذهب كان نكبة على الإسلام، فلما اطلع الناس على مقاله في مصر؛ هاج عليه حملة العمائم، وقالوا: إنه مرق من الدين، ثم رُفِع أمره إلى الوالي فقبض عليه وألقاه في السجن[21]، ويبدو أنهم دعوا إلى التقليد، وحاربوا كل إصلاح وكل اجتهاد وتجديد؛ حفاظًا على نفوذهم، وسترًا لجهلهم وقعودهم عن البحث والتنقيب.
ولم يقتصر موقفهم هذا على العلوم الدينية؛ بل إنهم حاربوا العلوم الطبيعية والكونية، واتهموا أصحابها والمنادين بها بالكفر والمروق، وأن هذه العلوم توشك أن تفسد على الناس عقائدهم، ونسي هؤلاء أن الإسلام قد حث أتباعه على العلم، وعلى النظر في الكون، والتأمل في مظاهر الطبيعة؛ حتى يفهموا حكمة الله وآياته في كونه.
لقد أساء هؤلاء إلى الدين، وفتحوا الباب بذلك للطعن في عقيدته؛ لأن العقيدة التي تخشى أضواء العلم لا يمكن أن يقول أصحابها إنها أسلم العقائد، وأقربها إلى العقل، ولو أن هؤلاء فهموا عقيدتهم، وفطنوا إلى حقيقة دينهم؛ لعلموا - كما يقول الأفغاني - أن الإسلام لا يصح أن يخالف الحقائق العلمية... وقد عم الجهل، وتفشى الجمود في كثير من المرتَدِين برداء العلماء، حتى اتهم القرآن بأنه يخالف الحقائق العلمية الثابتة، والقرآن بريء مما يقولون[22].
وينبغي أن ننبه إلى أن التفكير العقلي والتقدم العلمي ما كان يستطيع أن يصمد في هذا الجو الذي ساد فيه أهل الجدل من الفقهاء والمتكلمين، فانطفأت جذوة التفكير، واندثر العلم، ودخلت الأمة الإسلامية في سباتها العميق، فتخلفت عن الركْب، وسبقتها أوربا التي تتلمذت عليها وعلى ثقافتها طيلة العصور الوسطى.
5 - انحراف التصوف وانتشاره:
من المسلَّم به أن الإسلام يدعو الإنسان إلى تزكية نفسه، والسمو بروحه، ويحثه على ألا تكون الدنيا كل همه، ويدفعه إلى العمل الإيجابي في الحياة، وإلى السعي في مناكب الأرض، وهذه المبادئ قد تمسك بها المسلمون، كما تمسك بها الصوفية الأوائل فكان تصوفهم وزهدهم في الحياة مظهرًا للتعبد والخشوع، وحافزًا إلى العمل، ولكن جدَّ في حياة المسلمين بعد ذلك نوعٌ من التصوف المنحرف؛ "إذ تسرب إلى بعض دعاته - لأسباب لا محل لذكرها الآن - تأثير الفلسفة الإشراقية التي جاءت من اليونان والهند، وامتزجت بالعقائد الإسلامية وأفكارها امتزاجًا لا يتسنى لكل واحد فصلها عنها، إن إشراقية الأفلاطونية الحديثة، أو تنسك اليهود، وعقيدة الحلول والاتحاد، ومذهب وحدة الوجود، وفكرة الظاهر والباطن، وسقوط التكاليف الشرعية عن الواصلين، كل هذه كانت معتقدات وأفكارًا نالت إعجاب طبقة كبيرة من الصوفية.
وبالرغم من إنكار أصحاب التحقيق والرسوخ في العلم من هذه الطائفة في كل زمان لهذه المعتقدات الفاسدة، كانت طبقة من المتصوفين تلح عليها،[23] وفي عهود الضعف سادت هذه المعتقدات، وظهر التصوف الأعجمي الذي ينظر إلى المادة على أنها شر يجب على الإنسان أن يتجنبها، وينظر إلى الذات الإنسانية على أنها لا حقيقة لها، ويدعو الإنسان إلى ترك العمل؛ لأن العمل يقوي الذات، والذات مصدر الشر؛ فينبغي أن يعمل الإنسان على فنائها، وذلك بترك العمل[24].
ومما لا شك فيه أن هذا التصوف المنحرف، الذي ساد في عهود الركود والجمود الفكري - قد أدى إلى سلبية المسلمين، وتواكلهم وزهدهم في الحياة، ونظرتهم إلى العالم المادي على أنه شر ونجس يجب تجنبه، كما أنه فتح الباب أمام مظاهر الشرك، فوجدنا من هؤلاء الصوفية المنحرفين من يزعم أنه أدرك سر الولاية، ووجدنا من يَدْعون إلى التبرك بالأولياء، وينصحون بالالتجاء إليهم لقضاء الحاجات، وقد انتشر هذا التصوف في كثير من البلاد الإسلامية، ووجد من تشجيع بعض الجهلة من الأمراء والحكام ما يثبت أقدامَه، ثم بلغ غايته في بلاد الأتراك وسيطر على عقول أهلها، فقد عظم فيها أمر هؤلاء الدراويش، الذين خلطوا العقائد الإسلامية بكثير من الخرافات والأوهام؛ حتى ذَوَتْ عقيدة التوحيد، وقامت مقامها عبادة الأولياء وتقديس القبور.
ولقد وصف الكواكبي ما بلغه المشعوذون في تركيا من القوة والنفوذ، فقال: هؤلاء المدلسون قد نالوا بسكرهم نفوذًا عظيمًا، وأفسدوا كثيرًا في الدين، وجعلوا كثيرًا من المدارس تَكَايَا للطالبين، الذين يشهدون لهم زورًا بالكرامات، وبه حولوا كثيرًا من الجوامع مجامع للطالبين الذين ترتج من دويِّ طبولهم قلوبُ المتوهمين، وتكفهر أعصابُهم، فيلبسهم نوع من الخَبَل، ويظنونه حالة من الخشوع"[25].
ومن الغريب أن المسلمين آنذاك كادوا يستوون في الإيمان بهذه البدع التي روَّجها هؤلاء الصوفية؛ من زيارة قبور الأولياء، وطلب العون والرحمة منهم، وشدِّ الرحال إلى مقاماتهم، والتمسُّح بها، حقًّا قد يكون انتشار هذا بين العامة أمرًا لا يثير كثيرًا من العجب، ولكن ما أعجبَ أن يميل إليه كثير من الخاصة، وقد ثار لذلك كثير من الباحثين، وقال أحدهم بعد أن أشار إلى هذه الانحرافات: "ومع هذا المنكر الشنيع، والكفر الفظيع، لا نجد من يغضب لله ويغارُ حميَّة للدين الحنيف، لا عالمًا ولا متعلمًا، ولا أميرًا ولا ملكًا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا شك معه أن هؤلاء القبوريين إذا توجهت إليه يمين من قِبَل خَصم حلَف بالله فاجرًا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك؛ تلعْثَم وتَلَكَّأَ وأبَى واعتَرَف بالحقِّ"[26].
وعلى أيِّ حال ففي عهد الركود الذي عاشه المسلمون نبتت البدع والخرافات، فهنا الطرق الصوفية التي انحدر بعضها إلى هوة سحيقة، وهنا شجرة مقدسة يلجأ لها الناس معتقدين أن المريض يجد عندها الصحة، والعانس تجد الزوج، والعاطل يجد العمل، وهنا حجر يتلمس الناس عنده البركة، وهنا عنزة ادعى كبير خدام المشهد النفيسي بمصر أن السيدة نفيسة أوصت بها خيرًا، فنسب الناس إليها الكرامات.
6 - عقيدة الجبر:
لقد آمن المسلمون الأوائل بالقضاء والقدر، واعتقدوا أن قضاء الله لا بد أن ينفذ، وأن المقادير كلها بيده، يصرفها كيف شاء، ويدبرها بحكمته وإرادته، ولم يَصرِفهم ذلك عن العمل والسعي، ولم يركنوا إلى التواكل والكسل؛ لأن الله قد حثهم على العمل بقوله: { {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} } [التوبة: 105]، وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن الجدل في القدر؛ لأن ذلك يؤدي إلى تفرقهم، ولكن خاض المسلمون بعد وفاته في مسألة القدر، وظهرت جماعة الجبرية الذين قالوا بالجبر المطلق، وعلى الرغم من أن هذه الفكرة بعيدة عن منطق الإسلام، فقد وجدت لها أنصارًا رأوا فيها تبريرًا لمظالمهم، وسندًا لسلطانهم، ولكن لم يُقدَّر لها الرواج بين المسلمين في العهود الأولى؛ لأنها لا تستند إلى أساس قوي، ولم تستطع أن تصمد أمام المذاهب المناوئة[27]، ثم وجدت الفرصة متاحة لإذاعتها بين المسلمين في عهود الركود التي ساد فيها الجمود الفكري، وابتعد فيها المسلمون عن روح الدين وعن الفهم الصحيح لمبادئه، وكان انتشار هذه الفكرة بين المسلمين وبالاً عليهم، حيث أشاعت فيهم التواكل والكسل، وأقعدتهم عن العمل.
7 - اختلال المعايير الأخلاقية:
لقد اشتمل الإسلام على القيم الأخلاقية، فأمرَ المؤمنين بالتعاون على البر والتقوى، وحثهم على الصدق والأمانة، والعدل والشجاعة، والوفاء بالعهود، وحفظ الأمانات وأدائها إلى أهلها، ونهاهم عن الرذائل التي تنال من كرامة الإنسان؛ كالكذب، والغدر والخيانة، والنفاق والغش والخداع، وما إلى ذلك.
والمتأمل في عهود الركود يجد أن المسلمين قد نسوا أو تناسوا هذه القيم الأخلاقية الكبرى، ولم يلتزموا بها في سلوكهم وفي حياتهم؛ بل آثروا أن تسير حياتهم على الجانب المضاد لهذه القيم الفاضلة، فانتشر فيهم النفاق والمداهنة والتملق، والجبن والرياء والغدر، وما إلى ذلك من الأمراض النفسية والاجتماعية.
لقد انعكست في نفوسهم معايير الخلق، فأصبحت المخازي عندهم موضعًا للفخر، فصاروا يُسمُّون التصاغرَ أدبًا، والتذلل لطفًا، والتملُّقَ فصاحة، واللُّكْنَة رزانة، وتَرْكَ الحقوقِ سَماحةً، وقَبولَ الإهانة تواضعًا، والرضا بالظلم طاعةً، كما يسمون قوة الاستحقاق غُرورًا، والإقدام تهوُّرًا، والحميَّة حماقةً، والشَّهامةَ شَراسَة، وحريَّة العقولِ وقاحةً، وحبَّ الوطن جنونًا[28].
وفي مثل هذا المجتمع الذي انعكست فيه المعايير الأخلاقية، يصبح الشرف والأمانة والنزاهة والإخلاص والعدالة، وغير ذلك من الصفات الضرورية لنجاح أي امرئ في المجتمع العادي السليم - وَبالاً على صاحبها، وفي هذا المجتمع أيضًا يتقدم من يجيد النفاق والخداع والنميمة، ويصبح موضع إعجاب وتقدير لدى الآخرين من أمثاله، أما الشرفاء الفضلاء، فهم المضيَّعون الخاسرون في هذا المجتمع.
ولا شك في أن اختلال الأخلاق يؤدي إلى انحلال الأمة وتدهورها، وقد أشار الأفغاني إلى أن الذي نزل بالمسلمين من الضعف والهوان لم ينزل بهم إلا بعد أن كلَّت بصائرهم، ومازَجَ الدَّغَلُ قلوبَهم، وخربت أماناتهم، وفشا الغش والخداع والمداهنة بينهم[29].
هذه هي أهم مظاهر ابتعاد المسلمين من مبادئ دينهم، ولا شك في أن ذلك قد أدى إلى الانحلال الاجتماعي بينهم، وقد أدرك هذه الحقيقة المفكر الغربي المسلم "محمد أسد"، وأشار إليها بقوله: "لقد تحققْت أنَّ ثمة سببًا واحدًا فقط للانحلال الاجتماعي والثقافي بين المسلمين، ذلك السبب يرجع إلى الحقيقة الدالة على أن المسلمين أخذوا شيئًا فشيئًا يتركون اتِّباع روح التعاليم الإسلامية، فنتج من ذلك أن الإسلام ظل بعد ذلك موجودًا، ولكنه كان جسدًا بلا روح"[30].
وبعد أن انتهينا من الحديث عن ابتعاد المسلمين عن مبادئ دينهم وروحه، وأشرنا إلى المظاهر التي تجلى فيها ذلك - نود أن ننبه إلى أن الانحرافات التي لحقت بالدين، والتي أشرنا إليها في الحديث عن السبب الأول، كان لها تأثيرها في عدم التزام المسلمين بالمبادئ والعقائد الصحيحة التي اشتمل عليها دينهم، ويبدو هذا واضحًا في الصراع السياسي والديني، وفي شيوع التصوف المنحرف، وفي عقيدة الجبر، كما أن المظاهر التي تجلى فيها ابتعاد المسلمين عن مبادئ دينهم - قد تفاعلت وتشابكت وأدت إلى ما صار عليه واقع العالم الإسلامي.
ثالثًا: الحروب والاعتداءات الخارجية:
لا شك في أن ما أدت إليه العوامل السابقة من ضعف المسلمين وتفرقهم، وخمولهم وكسلهم - قد مهد الطريق أمام الطامعين من أعدائهم، فشنوا الاعتداءات المتتابعة عليهم، ومن أبرز الاعتداءات الخارجية التي تعرض لها العالم الإسلامي وكان لها، هي الأخرى، آثارها في ضعفه وتدهوره - الحروبُ الصليبية، وغزوُ التتار أو المغول.
1 - الحروب الصليبية:
لقد بدأ الغرب المسيحي في شن هذه الحروب على العالم الإسلامي منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي باسم الصليب وتحت رايته، وقد دفع رجالُ الكنيسة في أوربا الملوكَ والشعوب إلى هذه الحروب، فاتخذت بذلك طابعًا دينيًّا شكلاً وموضوعًا.
وعلى أيِّ حال، فقد تمكن من الاستيلاء على القدس سنة 1096م، وتوالت الحروب بين المسلمين والصليبيين مرارًا وتَكرارًا، إلى أن استطاع المسلمون على يد الناصر صلاح الدين الأيوبي من استعادة القدس وطرد الصليبيين منها، بعد أن تحقق للمسلمين أعظم انتصار لهم في حطين سنة 1187، ولكن ملوك أوربا انزعجوا لاستعادة المسلمين بيت المقدس، فجردوا حملة ضخمة بقيادة أقوى ملوكهم، وظلت الحملات تتوالى حتى انتهت هذه الحروب سنة 1292م بهزيمة الصليبيين، وعودتهم إلى بلادهم مدحورين، بعد صراع مرير شنته أوربا بدافع العصبية الدينية على العالم الإسلامي[31].
ولا شك في أن هذه الحروب قد استنفدت الكثير من جهد المسلمين وطاقتهم وأموالهم، وجعلتهم يوجهون كل ما لديهم لهذا التحدي الخطير؛ لأنهم شعروا بالخطر على الدين قبل أن يشعروا بالخطر على أنفسهم.
2 - التتار:
لقد كان زحف التتار على العالم الإسلامي طامة كبرى، وكارثة فادحة، فقد اجتاحوا كثيرًا من البلاد الإسلامية، حتى وصلوا بغداد سنة 656هـ سنة 1258م بقيادة الطاغية "هولاكو"، فقتلوا الخليفة المستعصم، وضربوا رقاب جيشه، ودخلوا المدينة، وأنهوا الخلافة العباسية، ونهبوا دار الخلافة، وأحرقوا بغداد، ثم عبَر هولاكو ورجاله نهر الفرات لمحاصرة حلب، ولم ينهزم في معركة من المعارك التي خاضوها منذ أن اجتاحوا العالم الإسلامي من الشرق؛ إلا في معركة "عين جالوت" سنة 1260م[32].
والواقع أن غارة التتار كانت محنة كبرى هزت العالم الإسلامي هزًّا عنيفًا، وتركت المسلمين مبهوتين مشدوهين، قد استولى الرعب والخوف عليهم، وغلب عليهم اليأس والتشاؤم؛ لكثرة ما اقترف هؤلاء الوحوش من جرائم، وما قتلوا من نفوس، وما دمروا من عمران، وقد صور لنا ذلك أحد المؤرخين، فقال وهو يتحدث عن هذه الحادثة: "هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، فلو قال قائل: إن العالم منذ خُلق آدم إلى الآن لم يُبتلَ بمثلها، لكان صادقًا؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها، ولا ما يدانيها، ولعل الخَلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا"[33]، وعلى أي حال فإن المسلمين قد تكبدوا خسائر فادحة أمام هذه الصاعقة التي نزلت بهم، وبالإضافة إلى ذلك فإن التتار قد دخلوا في الإسلام، وانماعوا في المسلمين، وورثوا تراثهم، وخَلَفوهم في الحكومة، وتولوا أمور المسلمين، مع أنهم أمة جاهلة وحشية، ليس لها علم ولا دين، ولا حضارة ولا ثقافة، ولذا فإن حياتهم كانت مزيجًا من الإسلام والتأثير الجاهلي، وكان لزامًا أن يتأثر المجتمع، وكذلك الفكر الإسلامي بما حمل إليه هؤلاء من عادات وأخلاق وتقاليد واجتماع.
هذان هما الحدثان البارزان اللذان تعرض لهما العالم الإسلامي في العهود المتأخرة، ولا أظن أن أحدًا ينكر الآثار الخطيرة التي تركها هذان الحدثان في حياة المسلمين؛ فقد استنفدا الكثير من جهودهم، وبدَّدا طاقتهم، فلم يجد المسلمون الفرصة مواتية للتفكير في الإصلاح قبل أن يستفحل الداء، ولم تسعفْهم الظروف لتدارك ما فاتهم، وإذا كانت أحوال المسلمين وما انتابها من الضعف قد مهدت لهذين الحدثين، فإنهما بالتالي كانا مقدمة أو سببًا لاستفحال الداء، وبلوغ الضعف والتدهور مداه.
وهكذا اصطلحت الأسباب الثلاثة وتفاعلت، فأدت إلى ما صار إليه واقع العالم الإسلامي؛ من انحراف في العقيدة، وانحلال في الأخلاق، وجمود في الفكر، واستبداد في الحكم، وركون إلى الخمول والكسل، وسيطرة كثير من الخرافات والبدع، وإذا كان واقع العالم الإسلامي هذا قد دفع المخلصين من أبنائه إلى القيام بالإصلاح، فإنه أيضًا قد مهد لسيطرة الغرب عليه، وللغزو الفكري.
[1] لوثرب ستوارد: "حاضر العالم الإسلامي"، مجلد 1 ص ،459 ترجمة الأستاذ عجاج نويهض، وتعليق الأمير شكيب أرسلان، مطبعة الحلبي بمصر 1352هـ.
[2] السابق.
[3] انظر: محمد إقبال "تجديد التفكير الديني" ص 149.
[4] انظر: "حاضر العالم الإسلامي" ج4 ص 44.
[5] راجع كتابنا: "أصول العقيدة الإسلامية" ص 236، مكتبة الزهراء بالقاهرة، سنة 1406هـ.
[6] الدكتور علي النشار: "نشأة الفكر الفلسفي" جـ 1 ص 39.
[7] انظر: كتابنا "أصالة التفكير الفلسفي في الإسلام" ص 108.
[8] للتفصيل انظر: الأستاذ/ أحمد أمين "ضحى الإسلام"، جـ1 ص 137، القاهرة سنة 1933م.
[9] المرجع السابق ص 241.
[10] ابن الجوزي: "تلبيس إبليس" ص 102، المطبعة المنيرية بالقاهرة.
[11] أبو الحسن الندوي: "رجال الفكر والدعوة"، ج 2، ص 12، دار القلم بالكويت، سنة 1975م.
[12] الأفغاني: "الرد على الدهريين" ص 61، ترجمة الشيخ محمد عبده.
[13] المقريزي: "الخطط التوفيقية" جـ،7 ص 221، مطبعة النيل بمصر 1326.
[14] أبو الحسن الندوي: "رجال الفكر" جـ 2، ص 13.
[15] الأشعري: "مقالات الإسلاميين"، جـ 1، ص 39. تحقيق الشيخ محيي الدين عبدالحميد، النهضة المصرية، سنة 1950م.
[16] الدكتور محمود قاسم: مقدمة لكتاب "مناهج الأدلة" لابن رشد ص 16، الأنجلو المصرية 1962.
[17] انظر: "حاضر العالم الإسلامي" جـ 4، ص 44.
[18] الدكتور محمود قاسم: "الإسلام بين أمسه وغده"، ص 115، الأنجلو المصرية.
[19] الكواكبي: "أم القرى" 134.
[20] "العروة الوثقى" ص 152.
[21] الشيخ محمد عبده: "الإسلام والنصرانية" ص 103، القاهرة سنة 1352هـ.
[22] "العروة الوثقى" ص 165.
[23] أبو الحسن الندوي: "رجال الفكر والدعوة" جـ2، ص 14.
[24] الدكتور عبدالوهاب عزام: "محمد إقبال" ص 63.
[25] "أم القرى" ص 57.
[26] "العروة الوثقى" ص 165.
[27] انظر كتابنا: "أصول العقيدة الإسلامية" ص 250.
[28] "الكواكبي": "أم القرى" ص 134.
[29] الأفغاني: "الرد على الدهريين" ص 64.
[30] الأستاذ/ محمد أسد: "الإسلام على مفترق الطرق" ص 13، ترجمة الدكتور عمر فروخ، بيروت 1977.
[31] انظر: الدكتور/ أحمد شلبي "موسوعة التاريخ الإسلامي" جـ 5 ص 715، وما بعدها.
[32] السابق جـ 5، ص 245.
[33] ابن الأثير: "الكامل" ج13، ص 147، وقارن: الذهبي: "دول الإسلام" جـ2 ص 125.
_______________________________________________________________
د. عبدالمقصود عبدالغني
المصدر: كتاب "في الفكر الإسلامي الحديث والتحديات المعاصرة"- التصنيف: