تخمة الجدال
المسكين يُسْقِطُ نفْسَه من حيثُ ظَنَّ أنَّه يَرْفَعُهَا، ويَدْخُل في دائرَة الحُمْقِ، من حيث اعتقَد أنَّه اعْتَلَى في مَراقِي الحِكمَة!
- التصنيفات: مساوئ الأخلاق -
الجِدال من طبيعَته - ولا يُلجِمُ ذلك الطَّبع إلَا عَقْلٌ وَحِكمة - يَتكلَّم في كلِّ فنٍّ ويجادل فيه: حاذِق في الطِّب، وبارِع في الهندسة، وخبير في الزِّراعة، ومُختَص في تَربية الأنْعام، ناقِد للشعر، ضلِيع في السِّياسة، عالم بالاقتصاد، مُتمكِّن في التِّجارة، مُطَّلع على علوم الفضاء، مُتمرِّس في الصِّناعة، لا يغيب عنه شَارِدة ولا وَارِدة ما اجْتمَعت العُلوم إلَا له، ولم تَخضَع المعارف لغيره، أوحد زمانه ونابِغة عَصره، في كُلِّ شيء له رَأْي، في العلماء واللاعبين، والحكَّام والمحكومين، ونظرَته ثاقِبة في القديم والحديث، وتحْليله للمستقْبل لا يَكَاد يخيب.
قُصاصات من ورق وقعَت بَين يديه كوَّنت عنده آراءً، وكلمات من أَشتَات المجالس مُبَعثرَة صارَت عنْده حَقائِق، يَروي بذاك غرُورَه، ويُتخِم بِالسَّفه كِبْرياءه.
كيف له أن يَصمُت، فهذا يَحُطُّ من مكانَته، ويقلِّل من شأنِه، فلا بُدَّ أن يُنَظِّر مع المنظِّرين، ويكون من المُصوِّبِين أو المُخَطّئين.
لا يَجِد في نَفسِه ضيْرًا أن يُنَاطِح كُلَّ أحد من أَهْل الاخْتصاص، فله عَقْلٌ كمَا لَهُم عُقولٌ، ظانًّا أنَّ مسحَةً من عَقْل تغنيه عن التَّضَلع من ذلك العلم حتى يُتْقِنه، ثُمَّ يَتحدَّث فيه، يُحَاوِر بغَير عِلم، ويتحاذق من غير فَهْم، يَفِرُّ من الجهل فيلْتحِف به.
ضاع العَقل في تَيْهِ التَّصَدُّرِ والتَّعَالُم، وعندَ هذا القُبْحِ لم يَتوَقَّف، بل تَعَدَّت جُرْأَتُه قُدْرَتَه، فانتَقل من عُلُوم الدُّنيا إلَى علوم الدِّين، ومنْ جدال المَخلوق إلَى جدَال الخَالِق سُبحَانَه! معترضًا على شرعه، مقتديًا بالمجادل الأول إبليس: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12].
يقول: إن فَهم الدين ليس حكرًا على أحد، وهذا صحيح من حيث الابتداء، فكل له الحق في تعلم الدين، ولكن الفهم الحقيقي لا يتحقق لأحدٍ حتى يأخذ أدواته ويتمرَّس في علومه على أهله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
يأتي بفَهم جديد لنصوص الوحي، معارضًا فهمَ العلماء السابقين، ويعلن متبجِّحًا أنه فهم ما لا يفهَمه الأوائل! جهله بأصول العلم أوجد عنده منطلقات خاطئة توهَّمها، فصار يدعو إليها، ويحاكم الناس عليها! يتوهم أنه أدرك من الفهم ما غاب عمَّن أُنزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم، وعزب عن فهم أصحابه، ونَأَى عن علماء الأمة في القرون المفضلة!
المسكين يُسْقِطُ نفْسَه من حيثُ ظَنَّ أنَّه يَرْفَعُهَا، ويَدْخُل في دائرَة الحُمْقِ، من حيث اعتقَد أنَّه اعْتَلَى في مَراقِي الحِكمَة!
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، فهذه الأشباه والنظائر من الأمثال لا يعقلها إلا العالم بالله وآياته، ومن لم يفهم المعنى فليس من أهل العلم، ولو ادعاه! وعلى قَدْر ما جاء في القُرآن من تنْويعِ الحُجَج ومُخاطبة العقل، إلا أنَّه لا يَنقطع عن المُجادلة والمُخاصمة في الكُلِّيَّات أو الجُزْئِيَّات، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54].
ولو جيء بالآيات تِباعًا ما انتَفَع وقد أضْمَر المُنازعَة، لم يُوَفَّق للحقِّ لأنه لمْ يَطلبه، {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15].
حتَّى إذَا سِيق أهلُ النَّار إلى النَّار يوْمَ المعَاد، أقامُوا حُجَّتَهُم على الكَذب والإنْكَار، {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، حِينئذ يُختَم على الأفواه وتُخرَس الألْسن الكاذبة، وتُؤمَر الأعضاء بالكلام فَتَشهد عليه بما كان يَعمَل، ويجتمع فيه المتناقضات، فهو الشَّاهد والمشْهود، والكاذب والصَّادق، والمنكر والمعترف، ثمَّ لا تَكَاد الشَّهادة تَنتهي ويُسْمَح له بِالنُّطق حتى يُجَادِل أعْضاءه ويلومها على شهادتها، مع يَقينِه أنَّ اَللَّه مُطَّلِع على قوله وخَبايا نفسِه! حتَّى في تلك اللَّحظات التي تَتَراءى فيها الخليقةُ الجنَّة والنَّار، وأنَّه لا مَلجأ من اَللَّه إلا إليه، إِلَّا أَنَّه لا يَنقَطِع جِداله حَتَّى مع بَعض جَسدِه، فهل بَعْد ذلك من سَفَه!
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 20 - 24].
_____________________________________________________
الكاتب: إبراهيم بن سعد العامر