المترفون
المترفون أول ما يُهلِكون أنفسهم؛ لأنهم بكبريائهم وطغيانهم وجحد نِعَمِ الله عليهم يعرِّضون أنفسهم لعقوبة الله الماحقة
- التصنيفات: مساوئ الأخلاق -
يقول الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]؛ جاء في زبدة التفسير، مختصر تفسير الشوكاني رحمه الله: "المترفون هم المنعَّمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسَعة العيش، وهم الجبارون المتسلطون، والملوك الجائرون، والأغنياء الفاجرون.
"والمترفون في كل أمة هم طبقة الكُبراء الناعمين الذين يجدون المال، ويجدون الخدم، ويجدون الراحة، فيَنْعَمون بالدَّعَة والراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسَنَ، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتَلَغ في الأعراض والحُرُمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها، ومن ثَمَّ تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها، فتهلِك وتُطْوى صفحتها، والآية تقرر سُنَّةَ الله هذه".
فالمترفون أول ما يُهلِكون أنفسهم؛ لأنهم بكبريائهم وطغيانهم وجحد نِعَمِ الله عليهم يعرِّضون أنفسهم لعقوبة الله الماحقة، فهم أول من يدخل في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44، 45].
عباد الله:
هذا هو مصير المترفين من كل الأمم، سابقتها ولاحقتها، مسلمها وكافرها، وهم الذين يسلطهم الله تعالى على القرى المستحقة للعذاب والعقوبة، من قادة سياسيين وعسكريين، وظلمة منحرفين، ومثقفين ثقافات الخَنَا والمجون، الثقافات الشيطانية التي تصادم الحق والوحي والاستقامة، ومن أغنياء يسخِّرون غِناهم وأموالهم في نشر الرذيلة، ومحاربة الفضيلة، هؤلاء جميعًا هم المترفون المذمومون الذين حكم الله عليهم بالهلاك في أنفسهم، وإهلاك قراهم وأممهم.
وقدوة مترفي الحكَّام هو فرعون، الذي تعرفون قصته تمامًا، تعرفون ما نزل به وبقومه؛ قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 54 - 56].
وقدوة منحرفي الفكر والثقافة المنحرفة بلعام بن باعوراء؛ الذي قال الله تعالى عنه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 175، 176]؛ أي اتبع المكاسب المادية والشهوات المبهجة؛ {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 176، 177].
وقدوة الأغنياء المترفين المتابعين لأهوائهم وشهواتهم هو قارون؛ الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 76 - 82].
عباد الله:
هذا هو شأن المترفين حين يبطرون ويتكبرون، ويردون الحق، ويصرون على الباطل، وصفهم القرآن وقرر أثرهم العظيم على أنفسهم، وعلى أوطانهم، وعلى مواطنيهم، وتلك هي صور الترف والانحراف في الجوانب المهمة من جوانب التأثير على الأمم.
القيادة السياسية، والقيادة الفكرية، والقيادة الاقتصادية والمالية، أبرز رموزها فرعون وبلعام وقارون، وذلك هو مصيرهم المشؤوم، ونهايتهم الكارثية، فهل يرضى أحد أن يكون مثلهم في منهجه وتوجيهه؟ وهل يحب أحد أن ينتهي إلى ذلك المصير الذي صاروا إليه في الدنيا وفي الآخرة أشد وأبقى؟ لا أظن أبدًا أن مؤمنًا عاقلًا مصدقًا بالقرآن يرضى لنفسه أن يسلك سبيلهم، ولا يرضى بمصيرهم؛ ولمثل هؤلاء قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
أيها الإخوة المؤمنون:
هذا ما يفعله المترفون بأنفسهم؛ والله يقول: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، فالتدمير يقع على القرية كلها؛ إذًا كيف يتسبب المترفون في هلاك وتدمير القرية كلها في تدمير الشعوب والأوطان جميعًا؟
نعم، إن سبب تدمير الشعوب والأوطان جميعًا بما يفعله المترفون، هو أن ضِعاف النفوس وأصحاب الشهوات واللاهثين وراء المال والجاه وحُطام الدنيا الذي بأيدي المترفين يتابعونهم على ما هم عليه، ويشجعونهم على ذلك، ويكونون هم الأدوات التي ينفِّذ بها المترفون أعمالهم القبيحة، فمنهم الشباب الذين يقيمون برامج المترفين، ومنهم النساء اللاتي يقدِّمن لهم الخدمات المحرمة، ومنهم الجمهور الذي يصفق ويُصفِّر ويشجع، وبذلك يكون الجميع مشتركًا في الذنب مستحقًّا للعقوبة؛ قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]، وفي البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا -وحلَّق بين أصبيعه الإبهام والتي تليها- قالت له: يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثُرَ الخَبَثُ» [1].
فشؤم المترفين لا يخصهم بل يعم الجميع؛ لأن الجميع يشاركون فيه ولو بالرضا به، والسكوت عليه، ولا ينجي الله تعالى إلا من أنكر ذلك المنكر؛ قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165].
إن عمل المترفين والمفسدين لم يقتصر على مثل هذه الأعمال الظاهرة، ولكن الذي ظهر إنما هو عنوان يُخفي تحته تفاصيل هي الفساد الحق، هي الفاحشة الظاهرة والباطنة، هي ما لا يقره حتى هؤلاء الذين أقاموا فعاليات الغناء والرقص، نعم لا يمكن أن يقروا ما يحدث في الخفاء في بعض الفنادق، في بعض الأماكن، في بعض الحافات، ففي بعض الفنادق أفلام إباحية، وفضائيات داعرة، وتجمعات على الخنا والفواحش، وقد بلغ علمها إلى المسؤولين، ولكن جهودنا إلى الآن لم تثمر الثمرة المطلوبة.
[1] البخاري (3/ 1317) رقم 3403، ومسلم (4/ 2208) رقم 2880.
_________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد بن حسن المعلِّم