الأكاذيب الصادقة
يُشكِّل الإعلام الوجهَ الأكثر تعبيرًا عن رُوح العصر، لكنَّ العقود القليلة الماضية شهدت تحوُّلَ الإعلام إلى ديناصور، رأسُه أصغر بكثير من جسده...
- التصنيفات: - ثقافة ومعرفة -
يُشكِّل الإعلام الوجهَ الأكثر تعبيرًا عن رُوح العصر، لكنَّ العقود القليلة الماضية شهدت تحوُّلَ الإعلام إلى ديناصور، رأسُه أصغر بكثير من جسده، فبينما تطوَّرت الوسائل بشكل مدهش، وتعدَّدت الأشكالُ إلى حدِّ الترف الشديد، بل التخمة، يفتقر الإعلامُ إلى الإطار المعياريِّ الضابط لكيفية استخدام الوسائل.
وقد أصبح الملمحُ الرئيسُ للمشهد الإعلامي العالمي طُغيان "الحرفيَّة" على "المصداقية"، بينما مَن يتوقَّف أمام مادة (صدق) في "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم"[1] يدرك إلى أي حدٍّ احتفى الإسلام بالصِّدق، وحثَّ عليه، بل وصف ربُّ العزَّة نفسَه بالصدق؛ قال – تعالى -: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146]، كما أمر الله نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يدعو بأن يكون من الصادقين؛ قال - تعالى -: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، والأمثلةُ على ذلك في الكتاب العزيز كثيرةٌ، بل كثيرة جدًّا.
لكنَّ القرآن الكريم لم يقتصر عطاؤُه في هذا السِّياق على الحضِّ على الصِّدق، والتحذير من الكَذِب، بما يستتبعه ذلك من مَدْح الصادقين، ودعوة المؤمنين لأنْ يكونوا معهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]؛ بل كَشَف القرآنُ الكريم عن مفهومٍ عرفتْه الدِّراسات الإعلاميَّة حديثًا، بل حديثًا جدًّا، هو مفهوم "الأكاذيب الصادقة true lies".
وحسبَ رأي المفكِّر العربي الإسلامي المعروف الدكتور عبدالوهاب المسيري، فإنَّ الإعلام الحديث ذَكيٌّ إلى أقصى حدٍّ، فهو لا يكذب قطُّ، وإنَّما يجتزئ الحقيقة، ويوجد تعبير باللغة الإنجليزية هو "[2] true lies" "أكاذيب حقيقية"، بمعنى أنَّه يمكن تمرير الأكاذيب عن طريقِ إخفاء جزءٍ من الحقيقة".
والوقائع في هذا النوع من الإعلام صادقةٌ، بمعنى أنَّها حقيقة ماديَّة لا مِراءَ فيها؛ لكنَّها منتزعةٌ من سياقها، أو موضوعة في سِياق مُضلِّل.
ويضرب الدكتور المسيري أمثلةً لذلك بالإعلام الصِّهْيَونيِّ، فتحت عنوان "سمات الخطاب الصِّهْيونيِّ المراوغ" يقول: "داخلَ هذا الإطار، تصبح المقاومةُ شكلاً من أشكال الإرهاب غيرِ العقلانيِّ وغير المفهوم، بينما تصبح هجماتُ إسرائيل على العَرَب مجرَّدَ دفاع مفهوم ومشروع عن النَّفس، ومِن ثَمَّ، فإنَّ الجيش الإسرائيليَّ هو "جيش الدِّفاع الإسرائيلي". وهي أكاذيبُ بلا شكٍّ"[3].
وقُلِ الشيءَ نفسه عن دعوة كلٍّ من العرب والصهاينة إلى أن يظهروا ضبطَ النفس ويستعدُّوا لتقديم تنازلات، ويُضرَب المثلُ بقرار التقسيم؛ فقد أظهر الصهاينة "الاعتدال" بقَبول أكثر من نِصف فلسطين، أمَّا الفلسطينيون فقد أظهروا "التطرُّف" برفضهم ما قُدِّم إليهم، فالاعتدال والتطرُّف في هذا السِّياق قد عُرِّفا في إطار تجاهُل الأصول التاريخيَّة؛ وهو أنَّ المستوطنين الصهاينة مغتصبون جاؤوا إلى أرض فلسطين يحملون السِّلاحَ، واحتلُّوا أجزاء منها، وما فعله قرارُ التقسيم هو قَبولَ حادثة الاغتصاب؛ بل مَنَحهم المزيدَ من الأرض ليؤسِّسوا دولتهم فيها.
وقد كانت المرَّة الأولى التي استُخدم فيها التعبير بصياغته تلك عندما أُنتج الفيلم الهوليودي "أكاذيب حقيقية - True Lies" المنتج سنة 1994 [4]، ولعلَّها مصادفةٌ ذات دلالةٍ خاصَّة أن يكون هذا الفيلم من أكثر أفلام موجةِ (فوبيا) الإسلام شهرةً؛ إذ يَختصر المسلمين في كلمة واحدة "إرهابيون"!
وفي الحقيقة، فإنَّ القرآن الكريم أوَّل مَن أشار إلى ظاهرة الأكاذيب الصادقة في مفتتح سورة "المنافقون"؛ قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، والكذب لغةً هو: "الإخبار عن شيءٍ بخلاف ما هو عليه في الواقع"[5]، أو "أخبر بخلافِ ما يُعرف أنَّه الواقع"[6].
والآية معجزة من وجهين؛ الأوَّل: المحتوى الكاشف عن ظاهرة مركَّبة قبلَ أن تتبلور في الدِّراسات الإعلاميَّة المعاصرة، والثاني: لُغويٌّ يتمثَّل في استخدام أدوات التأكيد: "إن - لام التوكيد - تَكرار استخدام لفظ الجلالة"، ما يجعل أيَّ تأويل لمعنى الآية منطويًا على تعسُّف شديد، فمحمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيٌّ مرسَلٌ من الله، والله يعلم بذلك، وفي الوقت نفسِه، فإنَّ الله يشهد بأنَّ المنافقين كاذبون مستخدمًا أداتي توكيد (إنَّ - لام التوكيد).
فمَن تعامل مع هؤلاء المنافقين بمعيار اتِّفاق قولهم مع الواقع - دونَ اعتبار لدرجة قناعتهم بما يقولون - سيصفهم بالصِّدق، وكذلك الرِّسالة الإعلاميَّة التي يقوم منتجوها بـ "تعليبها" مستخدمين وسائلَ حرفيَّة مبهِرة، وتركيزًا مبالَغًا فيه على جزئيات تبتِر الحقيقة أو حتى تُخفيها.
[1] راجع: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبدالباقي، للطبع والنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الأولى، 1996، (ص: 497 - 500).
[2] الإعلام والإمبريالية النفسية، مقال الدكتور عبدالوهاب المسيري، موقع الجزيرة نت الإليكتروني.
[3] موسوعة اليهود واليهودية والصِّهيونيَّة، إشراف وتأليف الدكتور عبدالوهاب المسيري، نسخة إليكترونية، إصدار بيت العرب للتوثيق العصري والنظم، مصر، 2001.
[4] الإسلام والمسلمون في السينما، تشويه سبق أحداث سبتمبر، مقال، رجا ساير المطيري، جريدة الرياض السعودية، 5/ 10/ 2006.
[5] المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مصر، الطبعة الثالثة، الجزء الثاني، (صفحة: 811).
[6] القاموس القويم للقرآن الكريم، إبراهيم أحمد عبدالفتاح، مجمع البحوث الإسلامية، مصر، 1996، الجزء الثاني، (صفحة: 156).