مقومات الإلقاء الناجح

منذ 2023-09-05

لا نبالغ إذا قلنا إن الإلقاء الحسن الجيد هو سر نجاح الخطبة، وأهم شيء في الموقف الخطابي.

لا نبالغ إذا قلنا إن الإلقاء الحسن الجيد هو سر نجاح الخطبة، وأهم شيء في الموقف الخطابي، وقد أشرنا فيما سبق إلى أن رداءة الإلقاء وسوء العرض وضعف الأداء؛ يهبط بقيمة الخطبة، ويضيع فائدتها، ويذهب برونقها وبهائها، حتى ولو كانت تحتوي على مادة علمية جيدة، وذات موضوع هام، فكل هذا يضيع حينما يصطدم بالإلقاء الرديء المتدني.

 

ونقصد بالإلقاء هنا الكيفية التي يعرض بها الخطيب موضوعه، والهيئة التي يكون عليها حين يخاطب جمهوره، والطريقة التي يوصل بها للناس ما عنده.

 

والإلقاء - على هذا - هو المرحلة الأخيرة من مراحل إعداد الخطبة وتكوينها، ونجاحُ تلك المراحل السابقة من اختيارٍ للموضوع وتقسيمِه إلى عناصر، وجمعٍ للمادة العلمية، وغيرها - على ما سيأتي بيانه في الفصل القادم -؛ مرتبط ارتباطًا وثيقًا بإجادة الإلقاء وتحسينه، فإذا كان الخطيب فيه موفقاً؛ كان تتويجاً لتلك المراحل بالنجاح، وإن كان فيه مخفقًا؛ ضاع كثير من الجهد أدراج الرياح.

 

قال أحد الغربيين: " هناك ثلاثة أشياء مهمة في الخطاب:

من يلقيه؟

وكيف يلقيه؟

وما الذي يقوله؟

والشيء الأقل أهمية من بين هذه الصفات الثلاثة؛ هي الأخيرة " [1].

 

هذا، وكل مقومات الخطيب التي سبقت الإشارة إليها تؤدي إلى حسن الإلقاء، وتسهم في جودته، فهي في الجملة خادمة له، ويضاف إليها عناصر ومقومات أخرى نشير إليها على النحو التالي:

مقوّمات الإلقاء الحسن:

أ- حيوية الإلقاء:

فالخطيب الجيد يتسم إلقاؤه بالحيوية، وينبض بالحماس، وبإثارة المستمعين، وإيقاظ أذهانهم، وإغلاق المنافذ أمام أي فرصة يتسلل من خلالها الشرود والإعراض إليهم، فهو يجذب اهتمام الجمهور بحيويته وحرارته وحماسته.

 

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسم إلقاؤه بالحرارة والحيوية، ويفيض حماسة وجاذبية، حيث يرفع صوته ويُجزِل كلامَه، ويَظهَر انفعالُه على ملامح وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم وحركتِه وإشارته، فيبدو في هيئة نشطة، وصورة جذابة، تشد المستمعين إليه، وتربطهم به.

 

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد؛ «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدْي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ثم يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإليّ وعليّ» [2].

 

ولْيتجنب الخطيبُ كل ما من شأنه أن يجعل إلقاءه فاترًا، وطاقته خامدة، وحيويته ضعيفة، ولهذا فإن عليه أن يريح جسمه قبل إلقاء خطبته أو محاضرته، وأن يتجنب ملء معدته بالطعام حالما يتأهب للإلقاء، ويكتفي بقليل من الطعام حتى ينتهيَ من إلقاء خطبته، ثم ليأكل بعد ذلك ما طاب له الأكل، ولْيحرص على راحة ذهنه، وليبتعد عما يوتر أعصابه ويرهق بدنه ويضعف ذهنه، ويستهلك طاقته، فإن الخطيب المتعَب يَفتُر إلقاؤه، ولا يكون جذابًا.

 

ب- حسن توظيف الصوت:

والصوت منحة ربانية، وهِبة جليلة من الله تعالى، وهو بالنسبة للخطيب رأس ماله، وأقوى أدواته الفطرية، والخطيب الذي وهبه الله تعالى صوتًا قويًا، عذبًا جميلًا، لا شك في أنه يكون أجدر بالإلقاء الجيد، والإفهام والإفصاح أكثر من آخر ليس عنده مثل هذه النعمة.

 

وقد يسمع المرء خطيبا يحسن توظيف صوته وتوجيهه، فتنساب الكلمات من فمه عذبة جميلة، متناغمة تبعث على الارتياح والاستئناس، بينما قد يسمع خطيبا لا يجيد توظيف صوته، فتخرج منه الكلمات رتيبة باردة، فاقدة لجاذبيتها، ليس هناك انسجام بين أداء اللفظ ونطقه، وبين المعنى الذي يتضمنه.

 

وعلى الخطيب أن يحرص على أن يكون صوته دالًا على معاني كلماته، متناسقا مع مضامينها، وهنا تختلف نبرة الصوت لدى الخطيب الجيد حال التعجب، عنها حال التقرير، كما تختلف لهجته في مقام الزجر أو الترهيب، عنها في مقام الشكر أو الترغيب، كما أنه يتفنن في طبقات صوته، وعلوه وانخفاضه، وتمهله وسرعته، فالمكان الواسع المزدحم يحتاج إلى صوت أقوى وأعلى بعكس المكان الضيق المحدود، الذي لا يتطلب ما يحتاج المكان الواسع، وإذا كان الخطيب يعيش موضوعه ويتفاعل معه، ويخرج كلامه من القلب، كان صوته مطابقا للمعنى الذي يعيشه بلا تكلف أو تصنع، وهذا يؤثر في الجمهور ويجذبهم، بعكس ذلك المتكلف المتصنع، فإنه يفقد احترام المستمعين، لأن الناس تمقت التكلف، والتصنع ولا تستريح إليه، ويحبون من الخطيب أن يكون طبيعيًا.

 

ومما يفيد الخطيبَ ويجعل إلقاءه جيدًا؛ أن يبدأ خطبته هادئًا متمهلا، ثم يأخذ صوته في الارتفاع تدريجيا، حتى يصل إلى مداه، فيجعله يتردد بين العلو والانخفاض، والقوة واللين، لأنه إن بدأ عكس ذلك، وبقي على وتيرة واحدة من الشدة والارتفاع والإسراع كان عرضه للتعب، وصوته عرضة للإجهاد، فضلًا عن أن هذا يؤدي إلى الرتابة والملل.

 

وينصح بعض المتخصصين الخطيب في هذا الصدد بالآتي:

أولًا: شدد على الكلمات المهمة، واخفض الكلمات غير المهمة.

ثانيًا: غيّر طبقات صوتك.

ثالثًا: غيّر معدل سرعة صوتك.

رابعًا: توقّف قبل وبعد الأفكار المهمة " [3].

 

ومن حسن توظيف الصوت أن يكون الإلقاء بتمهل، ونقصد بالتمهل في الإلقاء أن لا تنحدر العبارات من الخطيب بسرعة، ولا يعني هذا أن يكون بطيئًا بُطئًا تامًا، وإنما هو التوسط، فلا يتسم النطق بالسرعة أو العجلة، كما لا يتصف بالبطء أو الهدوء الشديد الذي يفقد الخطبة حياتها وقوتها، ولا يعني هذا أن الخطيب لا يسرع في بعض العبارات؛ بل قد يقتضي الموقف أن تتغير نبرات صوته في التمهل والإسراع، فيسرع في نطق جملة، وقد يريد التوكيد على أهمية معنى أو جمله فيعمد إلى نطقها بتمهل أكثر من غيرها، ثم يعود إلى اعتداله، فإن هذا مما يعطي الخطبة حرارة وحيوية.

 

ولكن الأصل في الإلقاء هو التمهل، والاحتراز عن الإسراع، لما يأتي:

أ- النطق السريع المتعجل حيث تجب الأناة ينتج منه تشويه المخارج، وخلط الحروف بعضها ببعض، لأن عضلات الفم واللسان لا تأخذ الوقت الكافي للانتقال من لفظ إلى لفظ.

 

ب- والإسراع المفرِط يجعل الخطيب يهمل الوقوف عند المقاطع الحسنة.

 

ج- والخطيب السريع في نطقه لا يعطي السامع الفرصة الكافية لفهم ما يسمع، وتذوق ما فيه من صقل اللفظ، وجودة المعنى، وحسن الخيال، فإذا قرعَت أذنَه عبارةٌ قبل أن يذوق ما في الأول من جمال، يعروه التعب، ويسكن قلبَه السّأَمُ، وينصرف عن الإصغاء.

 

د- والتمهل فوق ذلك يجعل الصوت يسري إلى السامعين جميعا بأيسر مجهود، متناسبًا مع المكان والعدد، بينما الإسراع يجعل الكلمات تحتاج إلى مجهود صوتي أكبر، ليصل الكلام إلى الآذان" [4].

 

وهناك بعض الخطباء لا يترك صوته على سجيته وطبيعته، بل يتكلف تقليد هذا الخطيب أو ذاك، ويسير على هذا النمط طيلة الإلقاء، وهذا مما ينبغي أن يتحاشاه الخطيب - لاسيما المبتدئ - ويترك صوته ينساب بحريته وطبيعته، لأن هذا التقليدَ الحرفيَّ لغيره يحطم فيه نزعة التجديد والابتكار والإبداع، ولا يجعل له شخصيته المتميزة.. نعم لا مانع من أن يستمع إلى الخطباء المجيدين ويستفيد من أدائهم وإمكانياتهم الفنية، ويطور نفسه على ضوء ما يفيده من هؤلاء الفصحاء، ويرقى بأدائه، وقد انتفعْتُ أنا شخصيًا من بعض الخطباء المشاهير البلغاء الذين كنت أحرص على الاستماع إلى خطبهم في بداية مشواري مع الخَطابة في مرحلة الصِّبا وما بعدها [5]، ولا أزال أتعلم وأستفيد من أساتذتي وشيوخي، فالإنسان يطلب العلم من المهد إلى اللحد؛ لكن يبقى المرء محافظا على استقلاله وتميزه، وعلى شخصيته أن تذوب في شخصية غيره.

 

ذُكر لي أن خطيبًا خطب في أحد المساجد القريبة من بيتنا في البلدة، وكان يلقي خطبة من خطب فضيلة العالم الداعية الشيخ عبد الحميد كشك - رحمه الله - وأراد الخطيب أن يقلد الشيخ بالحرف، حتى بعض العبارات التي كان ينبغي أن يتنبه هذا الخطيب إلى أنها لا تناسب مقامه، فكان مما قال مقتبساً من كلام الشيخ كشك: "هنا مدرسة محمد.. مع الدرس الثاني بعد المائة الأولى..." وسار على هذا المنوال، وهو ربما لم يخطب في حياته كلها عشرين خطبة، ومع ذلك يقول مع الدرس الثاني بعد المائة الأولى!

 


[1] فن الخَطابة. دايل كارنغي. ص 74.

[2] رواه مسلم في صحيحه، ك الجمعة. مسلم بشرح النووي 16 /153ـ 154 حديث رقم 867، والنسائي في ك صلاة العيدين ب كيف الخطبة 3 /188ــ 189.

[3] فن الخَطابة دايل كارنغي ص 83 ــ 85 باختصار.

[4] الخَطابة. الشيخ أبو زهرة ص 147.

[5] في مقدمة هؤلاء خطيب عصره، وحامل لواء الوعظ في زمانه بلا منازع، العالم الداعية الأستاذ الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

______________________________________________________
الكاتب: أ. د. إسماعيل علي محمد

  • 0
  • 0
  • 672

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً