الزواج كما يصفه القرآن الكريم (2-3)
إنَّ الدعوات المنادية بالاستغناء عن الزواج والاستعاضة عنه بأنماط متنوعة من العلاقات -ليس منها تزويج الذكر بالأنثى بعقد صحيح-؛ إنما تريد أنْ تنقض هذه الفطرة، وتريد أنْ تُخرِّب غرائز الناس وتُشوِّه تكوينهم، وفي هذا إفساد للحياة والأحياء، وقضاء على الأنساب
الزواج فِطْرَة:
القرآن يتحدَّث عن الزواج باعتباره فِطرةً جُعلتْ في الناس في أصل خلقتهم؛ حيث يقول الله -سبحانه-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]؛ خلق لكم وجعل بينكم، فلستم أنتم الذين اخترتم هذا الشيء من بين بدائل متنوعة، ولا أنتم الذين ابتدعتموه نظامًا اجتماعيًّا، أيْ أنه لم يصدر قانون صنعته البشرية باستحداث علاقة إنسانية -على سبيل المثال- تسمى الزواج، ولم يكن الزواج نتاجًا فكريًّا أنتجته أُمَّة من الأمم أو حضارة من الحضارات القديمة، وإنما هو فِطْرة جعلها الله في الأحياء.
ومنذ أنْ خلق الله -تعالى- آدم؛ خلَق في نفسه الحنين إلى الزواج، قال -تعالى- {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، قال طاووس: «في أمور النساء، ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في النساء»[1].
ولذلك كان آدم -وهو في الجنة- يشعر بالوحشة؛ لأنَّ الله فطَره على ألا يأوي ولا يسكن إلا إلى زوجة، فالزوجة إذًا هي السكن الكبير فطرة وأصلاً، والناس حين يتزوجون ويحافظون على تنمية الزوجية في مجتمعاتهم إنما يعملون بالأصل المشترك بين البشرية، يعملون بالفطرة؛ والفطرة هي لُبّ الدِّين.
وبالتالي فإنَّ الدعوات المنادية بالاستغناء عن الزواج والاستعاضة عنه بأنماط متنوعة من العلاقات -ليس منها تزويج الذكر بالأنثى بعقد صحيح-؛ إنما تريد أنْ تنقض هذه الفطرة، وتريد أنْ تُخرِّب غرائز الناس وتُشوِّه تكوينهم، وفي هذا إفساد للحياة والأحياء، وقضاء على الأنساب وحرمان من الذرية المؤنسة والأجيال البانية، فكيف يتحقق السكن والاستقرار للأفراد والمجتمعات حين يُفْضِي اللوطيون «الشواذ» بعضهم إلى بعض؟ وكيف يمكنهم الوصول إلى روح الزوجية وحقيقتها الإنسانية؟
وأولئك الذين يمتنعون عن الزواج رغبةً عنه، أو اكتفاءً ربما بالصداقات المُحرَّمة التي تكون بين الجنسين، أو استحسانًا لما هم عليه من حال وظيفية أو مالية، أو خوفًا من تبعاته... كلهم قد خالف الفطرة الصحيحة، حتى تلك الفتاة التي استغنت بوظيفتها أو بما تحصل عليه من مرتبات مالية، بل حتى تلك المرأة التي اكتفت بانشغالها بطلب العلم والدعوة إلى الله عن قبول الزواج بِمَن لا يُرَدُّ شرعًا؛ قد انحرفت عن طريق الفِطْرة.
وتُخْتَرع اليومَ أفكارٌ تُؤدِّي إلى الاستغناء التامّ عن الحياة الزوجية، أو عن جزءٍ منها، بوحي من الشيطان الذي يهمّه هذا الأمر كثيرًا، ثم تُصدر إلى الأجيال عبر قنوات الاتصال والإعلام.
لا شك أنَّ هذه الدعوات والاستحسانات من كيد الشيطان وخطواته التي أقسم على أنْ يُغَيِّر بها فطرة الناس التي يدينون بها، فقد أخبرنا الله -تعالى- عن قَسَمه؛ فقال -تعالى-: {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا 198 وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} [النساء: 198، 199]؛ وتغيير خَلْق الله يعني تغيير فِطْرته؛ فإنَّها مِن خَلق الله، ودليل ذلك قوله -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]؛ فسمى الفطرة هنا خَلْق الله. والمقصود أنَّ الشيطان لا يألو جهدًا في تطوير أدواته وتسخير جُنْده لصَرْف الناس عن فطرة الزواج.
إنَّ إقبال الرجال والنساء على الزواج عمل آدمي صحيح فطرة وشرعًا وصحةً واجتماعًا، فيه تحقيق للفطرة، وانسجام مع نظام مخلوقات الله -تعالى- المذكورة في قوله -تعالى-: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]، وفيه أيضًا مراغمةٌ للشيطان وإغاظةٌ له، ودَفْعٌ لصائلته، وردٌّ لكيده، وإفسادٌ ليمينه، قال ابن القيم: «فهذا الوصال لما كان أحبَّ شيءٍ إلى الله ورسوله؛ كان أبغض شيء إلى عدو الله، فهو يسعى في التفريق بين المتحابين في الله المحبة التي يحبّها الله، ويُؤلّف بين الاثنين في المحبة التي يبغضها الله ويسخطها. وأكثر العشاق من جنده وعسكره، ويرتقي بهم الحال حتى يصير هو من جندهم وعسكرهم، يقود لهم، ويزين لهم الفواحش، ويؤلف بينهم عليها»[2].
وهو يشير في هذه المقارنة إلى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرَّقت بينه وبين امرأته، قال: فيُدنيه منه ويقول: نعم أنت»، قال الأعمش: أراه قال: «فيلتزمه»[3].
والحب بين الزوجين فِطْرة كذلك، ولذلك امتنَّ الله بأنْ جعله بينهما في قوله -جل شأنه-: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. والمودة هي المحبة، قال البغوي: «ما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر»[4]؛ أي أنَّ كل واحد من الزوجين قد أحبّ الآخر أشد ما يكون الحب بين الناس، ولذلك لما سأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة»[5]. وهذا حُبّ فِطْري محمود.
لكنها ليست كأي محبة، بل هي خالصها وأجملها وأرقّها، وهي التي تحمل في طياتها معاني الخير، لذلك عرّفوا الوُدَّ بأنه: الحب يكون في جميع مداخل الخير[6]. وقد اختار الله هذا الوصف في سياق الامتنان، ومن ذلك أنك تجد كلاً من الزوجين قبل الزواج ولا رابطة قلبية بينهما، فإذا ما عُقِدَ النكاح انعطفت القلوب على بعضها مودةً ورحمةً، وانعقد الحبّ بين قلبيهما، خلافًا للحب الناتج عن علاقة محرمة تكون بين الرجل والمرأة؛ فإنه لا يصل إلى سمو محبة الزوجين ولا إلى جمالها ورقّتها، بل هو حبّ مَبتور سرعان ما تتقطع وشائجه وتنحسر ظِلاله.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصرّح بحبّه لأزواجه، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما غِرْت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة وإني لم أُدركها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة»، قالت: فأغضبتُهُ يومًا فقلتُ: خديجةَ! فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني قد رُزِقْتُ حُبّها»[7].
وعنها أيضًا قالت: استأذنتْ هالةُ بنت خويلد، أُختُ خديجة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرَف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: «اللهم هالة»! قالت: فغِرْتُ، فقلتُ: ما تَذْكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، هلكتْ في الدهر، قد أبدلك الله خيرًا منها!»[8].
وسبب الحب فِطريّ راجع إلى أصله، وهو التجانس، وكون المرأة خُلِقَت من الرجل الأول آدم، قال ابن حزم: «فجعل علة السكون أنها منه، قال الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} [الأعراف: 189]. ولو كان علّة الحبّ حُسْن الصورة الجسدية لوجب ألا يُستحسن الأنقص في الصورة، ونحن نجد كثيرًا ممن يُؤثِر الأدنى ويَعلم فَضْل غيره ولا يجد محيدًا لقلبه عنه. ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحبّ المرء مَن لا يساعده ولا يوافقه، فعلمنا أنه شيء في ذات النفس. وربما كانت المحبة لسببٍ من الأسباب، وتلك تَفْنَى بفناء سببها، فمن وَدَّك لأمرٍ ولَّى مع انقضائه، ومما يؤكد هذا القول أننا علمنا أنَّ المحبة ضروب، فأفضلها: محبة المتحابين في الله -عز وجل- إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النِّحْلة والمذهب وإما لفضل عِلْم يُمنحه الإنسان، ومحبة القرابة، ومحبة الألفة في الاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة لبرٍّ يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسِرّ يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس. فكلّ هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عِلَلها، وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها، متأكدة بدُنُوّها فاترة ببُعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المتمكِّن من النفس؛ فهي التي لا فناء لها إلا بالموت»[9].
وعليه فإنَّ علاقة الرجل بزوجته ليست علاقة شراكة، كما يقال أحيانًا: «شريكة الحياة» و«شريك الحياة»، فهما أكثر من كونهما شريكان، فالمرأة جزء رئيس من حياة زوجها، وهو لا يستطيع العيش بدونها، إلا إذا قِيلَت تجوُّزًا وتقريبًا للمعنى لا تحقيقًا له. هكذا يُعلّمنا القرآن أنَّ أصل المسألة فطريّ، لذلك قال ابن حزم: «فصحَّ بذلك أنه استحسان روحاني وامتزاج نفساني»[10].
وبناء الزوجية ليس كبناء الشركات والمؤسسات كما تريد الثقافة الغربية أنْ تُصدِّره لمجتمعاتنا، فتُمثِّل الحياة الزوجية بالشراكة المبنية على المحاصصة واستقلال القرار الفردي فيها، ففي الوقت الذي يرغب فيه الشريك بالانفصال عليه أنْ يؤدّي ما عليه من حقوق، وأنْ يفي بما عليه من اشتراطات الشراكة، ثم ينفصل دون مراعاةٍ لكثيرٍ من الأمور، إلى غير ذلك من تعقيدات الشراكة. الزوجان ليسا في شركة أو مؤسسة، الزوجان أسَّسا حياتهما الجديدة كاملة، وامتزجا ببعضهما، فهذه فطرية الحب وبالزواج اكتمالها، كما في الآية: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187].
والمرأة تميل إلى الرجل وتُحبّه للغاية، وتنتقل من بيت أبيها إلى بيته ومن بلدة أبيها إلى بلدته، وتُفضّل العيش معه في بيته وبلدته، وتتخلَّى عن أهلها لأجل ذلك، بل وتجدّد لأجل ذلك برنامجها ونظام معيشتها وطريقة حياتها، لتبدأ من جديد مع زوج لم تتصل به من قبل، ولا خالطته، فكيف تقبَّلت نفسُها هذا التغيُّر الجذريّ في حياتها لولا أنَّ فِطرتها تُوافقها على ذلك؛ فهي منذ لحظة الزواج الأولى وثَّقت وأحبَّت وأفْضَت وفوَّضت.. إنَّ ذلك دليل فطرية الحب والزواج الصحيحين، بل يصير مما تُمدَح به المرأة في سوائها النفسي والشخصي.
ولذلك فالحب لا يُصْطَنع، إنما هو شيء يهبه الله -تعالى-، قال -تعالى-: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]؛ فهو الجاعل -سبحانه- لذلك، ومقتضى ذلك أنْ نتوجَّه إلى الله فنطلب منه نماء هذا الحب، ألا ترى أنَّ عباد الرحمن الذين أثنى الله -تعالى- عليهم يفعلون ذلك، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا} [الفرقان: 74] ؛ كما أنَّه يستلزم شكر نعمة الله -تعالى- علينا بأنْ جعل لأنفسنا ما يُسكنها من المحبة الزوجية.
الزواج ميثاق:
قال الله -تعالى-: {وَإنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا 20 وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20، 21].
فما الميثاق الذي أخذه النساء على أزواجهن؟
قال مجاهد: «كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن»[11]، يعني قولهما في العقد: زوَّجْتُك، وقَبلتُ على الإمساك بالمعروف إمساكًا صالحًا، أو تسريحها بالإحسان وبخير فراق، هذا هو الميثاق الغليظ، فتصبح المرأة بعد هذا الميثاق في أمان واطمئنان، قال قتادة: «وكان في عقدة المسلمين عند نكاحهن: أيم الله عليك لتمسكنَّ بمعروف، ولتسرحنَّ بإحسان»[12].
والمواثقة مسؤولية؛ حيث الكلمة العظيمة التي نطق بها كل من الزوج والزوجة وولي الزوجة حين قال الولي بعد موافقتها: زوَّجْتُك موليتي، فقال الرجل: قبلتُ. وهي كلمة من الكلمات التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : «جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ»[13]؛ وما ذلك إلا تعظيمًا لشأن عقد النكاح، ورفضًا لأي تلاعُب أو استخفافٍ به.
وهذا الأسلوب القرآني بالغ البيان عن المراد من تغليظ مسؤولية عقد النكاح، فهو يُذكِّر الرجال بالكلمة التي أعطوها حين العقد، وما ترتَّب عليها من استحلال الأبضاع، فيقول الله -سبحانه-: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} {} [النساء: 21]؛ والإفضاء هو المباشرة والجماع؛ كما قال ذلك ابن عباس ومجاهد، وغيرهما[14]؛ فكأنه -سبحانه- يقول: إنَّ المهر الذي بذلتموه أيها الرجال لكي تُصبح أزواجَكم حلالاً لكم؛ لا يحل لكم أنْ تسترجعوه بعد أنْ قبلتم الزواج بهن، وكان بينكم من المواثقة والمباشرة والمُواقَعة ما كان.. إنه لا ينبغي لكم استرجاعه في حال أردتم الطلاق، وإنكم إذا استرجعتموه فقد فعلتم منكرًا وقبيحًا؛ وذلك لأنَّ ميثاق الزواج ميثاق عظيم ينبغي الالتزام به بأقصى الطاقة.
وبهذه الآية تُحَمِّل الشريعةُ الرجلَ مسؤوليةً أخلاقيةً كبيرةً في تكميل متطلبات العقد والحرص على توثيقه، يدلُّك على ذلك أيضًا ما شرعه الله من عقوبة للذين يتهاونون بكلمة النكاح، فيُصدرون -في حالة مزاجية متعكرة- كلمات يَنفُون بها معنى الزوجية، كقول أحدهم: «أنتِ عليَّ كظهر أمي»؛ أيْ أنك محرمةٌ عليَّ كتحريم أمي عليَّ، وهي عقوبة مغلظة تكافئ هذا الخطأ، قال -تعالى-: {وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: ٢]؛ فهؤلاء الذين يتلاعبون، والذين يُشغّبون على عقد النكاح؛ إذا أرادوا مُباشَرة نسائهم بعد قولهم ذلك فإنَّ عليهم أنْ يقدموا دليلاً واقعيًّا على احترامهم وتقديرهم لهذا العقد، فعليهم أولاً أنْ يُحرِّرُوا رقبةً، فإنْ لم يتمكنوا من ذلك فعليهم أنْ يصوموا شهرين متتابعين، فإنْ لم يستطيعوا فعليهم أنْ يُطْعموا ستين مسكينًا، عقوبةً رادعةً لهم وتأديبًا على استخفافهم بكلمة النكاح. قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِـمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: ٣]، تقول الآية: كيف تُحرِّمها على نفسك أيها الزوج؟ وأنت إنما أخذتها بعقدٍ وبكلمةٍ! وأخذتها بميثاقٍ غليظٍ! فتأمَّل حجم العقوبة المكافئ لحجم العقد والميثاق.
القرآن يُربّينا على أنَّ الزواج مسؤولية، ويذكِّرك بأنَّ المرأة التي نكحتها بكلمة الله كانت في بيتٍ كما هي الآن عندك في بيتك، وكان يحيط بها رجال كما تُحيط بها أنت الآن، وإنما انتقلتْ إلى بيتك وأحبَّتك وأحببتها وأفْضَتْ إليك وأفضَيْتَ إليها بموجب هذا العقد المبارك؛ فيجب عليك تعظيم هذا العقد والالتزام بمسؤولياته وتَبِعاته.
وحين يريد أحدٌ الزواج؛ فعلى أبيه وإخوته وعصبته وأصحابه أنْ يُفْهموه هذا الأمر، ومن هنا يأتي اشتراط قُدرة الخاطب ومريد الزواج على تحمُّل المسؤولية؛ لأنها تُعبِّر عن التزام أخلاقيّ ومعنى رجولي متمكِّن فيه، فهذا ميثاق عظيم يتطلب ذلك.
والحق أنَّ المسؤولية ليست مقصورةً على الرجل، فكذلك المرأة حين تَقبل الزواج؛ عليها أنْ تتحمَّل تَبِعَة قَبُولها زوجة، وعليها أنْ تُعظِّم في قلبها شأن العقد، وأنْ تعتني بالرجل الذي قَبِلته عشيرًا لها تُفْضِي إليه ويُفْضِي إليها. وقد حكى الله -تعالى، في هذا السياق- قصة امرأة فرعون، وهي امرأة مؤمنة في عصمة زوج كافر، وأيُّ زوج! فهو الطاغية الجبار العنيد، المحارب لله ولرسله وللذين آمنوا، وقد آمنت خفيةً، فصبرت على البقاء معه لما يحمله قلبها من تعظيم حال الزوجية لا حبًّا في الزوج الكافر، فلما علم بأمرها تناولها بالتعذيب فصبرت أيضًا، قال -تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْـجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ} [التحريم: ١١] ؛ فهي -وهي في هذه الحال- لم تسأل طلاقًا ولم تهدم بيتًا، وإنما فوَّضت أمرها إلى الله -تعالى- في اختيار الطريقة التي تنجو بها من تلك الحال، فاكتفت بسؤال الله النجاة، فكان لها ما أرادت من هدوء الانفكاك من عصمة الزوج الكافر الجبار، فماتت بعد دعائها، ثابتةً مُعظِّمَةً لعقد الزوجية كرامةً من الله.
والمؤمنة لا تبادر إلى الاختلاع من زوجها أو مفارقته إلا في أضيق الظروف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة»[15]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المنتزعات والمختلعات هن المنافقات»[16]. والمقصود اللاتي يطلبن الخلع والطلاق من أزواجهن بغير عذر[17]؛ فإنَّ هذا الصنيع المُستقبَح يدلّ على ما تُخفيه نفوسهن من استخفافٍ بأحكام الله وتضييع للمواثيق الغليظة وتقطيع لما أمر الله بوَصْله.
ومن الأفكار المخترعة والتي أوحاها الشيطان إلى أوليائه منذ زمن «زواج المساكنة» الذي يعيش فيه «الشريكان» في بيت واحد بلا عقد شرعي هروبًا من الحقوق والالتزامات الزوجية، ويظل الرجل والمرأة يزنيان الدهر وربما أنجبا الأولاد. وهو نَمَط معيشي اخترعه الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُقرّون بالرسالات، وأقرَّته مواثيق دولية، وجعلت له حقوقًا والتزامات هي أقل درجة من حقوق الزواج والتزاماته، وأصبح جزءًا من تعريف الأسرة في الغرب.
فإذًا على المجتمعات أنْ تُعظِّم عقد النكاح، وأنْ تبذل وُسْعها في رعايته وحمايته وإصلاحه وتهذيبه، ومن هنا جاءت الشريعة بالإصلاح بين الزوجين؛ قال الله -تعالى-: {وَإنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْـحًا وَالصُّلْـحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 128 وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْـمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْـمُعَلَّقَةِ وَإن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 128، 129].
وعلى المجتمعات أنْ تمنع وتحارب تلك الدعوات، الظاهرة والمبطنة، التي تدعو إلى هدم بيوت الزوجية لأسباب تافهة أو غير مشروعة، والتي تُزيِّن للمرأة وتحضُّها على الاختلاع من زوجها، فإنها نذير شؤم على المجتمعات والبيوت، وكل عمل يقوِّي ميثاق الزوجية ويحافظ على كيانها يدخل في فروض الكفايات، والتي هي من أجلِّ الأعمال الصالحة وأعلاها وأكثرها ثوابًا، لما يتحقَّق بها من الفضائل، ولما يدفع بها من الشرور.
[1] جامع البيان 6/625.
[2] روضة المحبين ص317.
[3] أخرجه مسلم ح2813.
[4] معالم التنزيل 6/266.
[5] أخرجه الترمذي ح3886 وابن حبان ح7107، وصححه الألباني في التعليقات الحسان ح7063.
[6] لسان العرب (مادة: ودد)، وانظر: روضة المحبين ص74.
[7] أخرجه مسلم ح2435.
[8] أخرجه البخاري ح3821 ومسلم ح2437.
[9] طوق الحمامة ص6.
[10] طوق الحمامة ص7.
[11] جامع البيان 6/544.
[12] جامع البيان 6/544.
[13] أخرجه أبو داود ح2194، والترمذي ح1184، وقال: «هذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم».
[14] جامع البيان 6/541.
[15] أخرجه أبو داود ح2226، والترمذي ح1187، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح2706.
[16] أخرجه النسائي ح3461 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح632.
[17] النهاية في غريب الحديث 2/65.
- التصنيف: