التوكل في القرآن الكريم: قراءة تفسيرية موضوعية
تناول الذكر الحكيم مفهومَ التوكُّل باعتباره شرطًا للتوحيد ومعيارًا له، وقد تنوعت أساليب النص القرآني في عرض هذا المفهوم وتصويره
- التصنيفات: القرآن وعلومه - أعمال القلوب -
الحمد لله رب العالمين، المتوكِّل بأحوال خلقه جميعًا، والصلاة والسلام على من أرسله سراجًا منيرًا، وأمره أن يتخذه وكيلًا؛ فقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فقد تناول الذكرُ الحكيم قضيةَ التوكُّل في مواضعَ عديدة، وبأساليبَ فريدةٍ، دلَّت في مجملها على أهمية هذا المفهوم في الإعداد النفسي للفرد والمجتمع المسلم، في سبيل إقامة شرع الله، ومواجهة الصعوبات، وتحمُّل تكاليف الدعوة، وما له من ارتباطات راسخة بعقيدة التوحيد، فكان الصفة الملازمة للأنبياء والمرسلين، ووصيتهم لمن تبِعهم من المؤمنين، فقامت به شرائعهم، وقوِيَتْ عزائمهم، وعَمَرَتْ قلوبهم، فاستحقوا به النصر والتمكين في مجتمعاتهم.
وللتوكل أبعادٌ متعددة جَعَلت منه ركيزة أساسية لمفاهيمَ أخرى، يناقشها النص القرآني بصورٍ بديعة، تُبرِز محورية هذا المفهوم وضرورته في بناء الشخصية المسلمة المتكاملة، فلا يكاد يمرُّ منفردًا أبدًا في الذكر الحكيم، ولكنه اقترن بمفاهيم التوحيد، والإيمان، والعبادة، والصبر، والقوة، والنصر، ومحبة الله ومعيته للمتوكلين، فمنها ما كان شرطًا ومعيارًا له، ومنها ما هو ثمرة يجنيها المتوكلون ثوابًا على ثقتهم بخالقهم.
معنى التوكُّل:
التوكُّل لغة مصدر من الفعل توكَّل، وجذره (وَكَلَ)، عرفه ابن فارس في المقاييس بقوله: (وكل) الواو والكاف واللام: أصل صحيح يدل على اعتماد غيرك في أمرك، من ذلك الوُكَلَة، والوَكَلُ: الرجل الضعيف، يقولون: وَكَلَةٌ تُكَلَةٌ، والتوكُّل منه؛ وهو إظهار العجز في الأمر والاعتماد على غيرك، وواكل فلان، إذا ضيَّع أمره متكلًا على غيره، وسُمِّيَ الوكيل لأنه يُوكَل إليه الأمر، والوِكال في الدابة: أن يتأخر أبدًا خلف الدواب، كأنه يكِل الأمر في الجري إلى غيره[1].
كما عرَّفه السمين الحلبي في عمدة الحُفَّاظ فقال: قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23]؛ أي: كِلُوا أموركم إليه، يُقال: توكل فلان بالأمر: إذا ضمِن القيام به، ووكل فلانٌ فلانًا؛ أي: وكل أمره إليه يستكفيه إياه، فربما يكون ذلك لضعف في الموكِل، وربما يكون ثقة بالكفاية[2].
ويقول الراغب الأصفهاني في المفردات: التوكيل: أن تعتمد على غيرك وتجعله نائبًا عنك، والوكيل فعيل بمعنى المفعول[3].
وقد تعرض النص القرآني لمفهوم التوكُّل في عدد من المواطن مجملة بالمحاور الآتية:
التعبير عنه بالاستعانة:
وهي شقيقة التوكُّل وأعظم صِيَغِهِ؛ لأنها جاءت مقترنة بالعبادة؛ وأعظم أمثلة هذا المحور قوله تعالى في أم الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]؛ قال ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: التوكُّل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكُّل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورةً بالنازلين، لسعة متعلق التوكُّل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكُّل، ووقوعه من المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، والطير والوحش والبهائم[4].
ويقول روايةً عن أستاذه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: تأملت أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5][5].
ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وكذلك قوله تعالى حكاية عن خطاب نبيِّه موسى لقومه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].
وهو ما يدل على اقتران مفهوم الاستعانة في السياق القرآني بالعبادة عمومًا من جانب، وملازمتها للصبر ومعية الله للصابرين من جانب آخر، مع تخصيص نوع العبادة بالصلاة، وهي ركن الدين وعماده، وأعظم أركانه بعد شهادة التوحيد، وفي هذا دلالة على كمال رحمة الله، وجميل تفضُّله على عباده، بأن أوجب عليهم ما يعينهم به في الدنيا، ويكون سببًا لفلاحهم في الآخرة.
الدلالة عليه باسم الله الوكيل:
حيث دلَّل الذكر الحكيم في مواضعَ عديدة على وكالة الله التامة، وإحاطتها بجميع مخلوقاته إحاطة شاملة، وكفاية وكالته عما سواه، ومن هذه المواضع ما كان فيه تقوية وتسلية لرسوله وللمؤمنين معه؛ كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173][6].
ومنه قوله تعالى حكاية عن مكر المنافقين: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81]، وأيضًا إخباره عز وجل عن غلوِّ أهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171]، وقوله تعالى شأنه واصفًا تكذيب المشركين لنبيه: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12]، وقوله تعالى آمرًا نبيَّه: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 48]، فكان اسم الله الوكيل في هذه المواضع متمِّمًا وخاتمًا لعدد من الأوامر، ليكون مفادُ السياق أن مرجوع الأمر نهايةً هو لله الوكيل، فلا تحزن النفس بسبب الأذى والتكذيب، فتطمئن لوكالته وتقوى بإحاطته وتقديره.
ومن أروع مواضع السياق القرآني التي تُظْهِر تمام قدرة الوكيل سبحانه وشمول وكالته قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر: 62، 63]، قال قتادة ومقاتل: مفاتيح السماوات والأرض بالرزق والرحمة، وقال الكلبي: خزائن المطر وخزائن النبات[7]، فهو خالق كل شيء، ووكيل عليه، والذي كفروا هم الخاسرون؛ بإنكارهم لهذا المفهوم، فدلَّت هذه المواضع على ارتباط اسم الله الوكيل في السياق القرآني بكمال ألوهيته وربوبيته، وتفرده بالخلق والتدبير، واستحقاقه أن يُتَّخَذَ وكيلًا دون سواه.
حث المؤمنين عليه وبيان اتصافهم به:
حيث تلازَم في سياق الحث على التوكُّل كونه صفةً للمؤمنين، وسمةً ملازمةً لإيمانهم، بل شرطًا لازمًا له؛ يقول تعالى ذكره: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13]، وهنا اقتران صريح بين شهادة التوحيد وتوكُّلِ المؤمنين، يشير إلى أن التوحيد لا يكمل إلا بالتوكُّل، الذي لا يستطيعه إلا المؤمنون حقًّا، فيكمل إيمانهم بكمال توكلهم، ويضعُف بضعفِهِ.
ويقول تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]؛ قال البغوي رحمه الله في تفسيره: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} قيل: التوكُّل ألَّا تعصِيَ الله من أجل رزقك، وقيل: ألَّا تطلب لنفسك ناصرًا غير الله، ولا لرزقك خازنًا غيره، ولا لعملك شاهدًا غيره[8].
ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11]، فبعد أن ذكَّرهم بما أنعم عليهم من الأمن، أمرهم بالتقوى، وقرن ذلك بالتوكُّل، ليكون التقوى معينًا وملازمًا للتوكل الذي يجب أن يتصف به المؤمنون بالسراء والضراء.
ومنه قوله تعالى محذرًا المؤمنين من عدوهم اللدود: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10]، فعطف على طمأنته للمؤمنين، وتكفُّله بحفظهم من كيد الشيطان، فحثَّهم على التوكُّل؛ ليكون متمِّمًا لسياق الحفظ ومعينًا عليه.
وقال تعالى واصفًا وَجَلَ المؤمنين وخشيتهم لسماع ذكر ربهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]؛ قال مجاهد: هذا نعت أهل الإيمان، فأثبت نعتهم، ووصفهم فأثبت صفتهم[9].
فاقترن التوكُّل اقترانًا عطفيًّا بخشية المؤمنين لربهم، وزيادة إيمانهم بتلاوة آياته، فكان صفتهم الملازمة لهم في ذلك المقام.
وقد اقترن التوكُّل أيضًا بالصبر، باعتباره صفة ملازمة للمؤمنين حال صبرهم، يستعينون به على إقامة دينهم، ويبتغون به خيري الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 42] [العنكبوت: 59]؛ يقول الطبري رحمه الله: في أرزاقهم وجهاد أعدائهم، فلا ينكلون عنهم، ثقة منهم بأن الله مُعْلِي كلمته، ومُوهِن كيد الكافرين، وأن ما قسم لهم من الرزق فلن يفوتهم[10].
ويقول جل جلاله مُبشِّرًا المتوكلين من عباده المؤمنين: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36]، فهم يتوكلون عليه في الدنيا ليكافئهم بما عنده في الآخرة، مما خصصه ثوابًا لهم على إيمانهم وتوكلهم.
الأمر المباشر به:
من عِظَمِ شأن التوكُّل وعظيم أهميته ورودُه في الذكر الحكيم بصيغة الأمر المباشر في عدد من المواضع، بل ارتباطه بمحبة الله للمتوكلين؛ كما في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، فكان أمرُ الله لنبيه بالتوكُّل عليه بعد عزيمة الأمر مقترنًا بمحبة الله المؤكَّدة بـإن للمتوكلين.
ومنه قوله عز شأنه في آخر سورة هود: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]؛ يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره: يخبر تعالى أنه عالم غيب السماوات والأرض، وأنه إليه المرجع والمآب، وسيُوفي كل عامل عمله يوم الحساب، فله الخلق والأمر، فأمر تعالى بعبادته والتوكُّل عليه؛ فإنه كافٍ مَن توكَّل عليه وأناب إليه[11]، واقتران الأمرِ بالتوكُّل بالأمرِ بالعبادة هنا إشارةٌ إلى أن العبادة شرطٌ سابق للتوكل، فمن عَبَدَ الله، توكَّل عليه بالضرورة.
وكذلك قوله تعالى حكاية عن قول موسى لقومه: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84]، فكان التوكُّل مقياسًا للإيمان والإسلام معًا، لا يكملان إلا به.
ومثله قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58]؛ حيث جاء الأمر بالتوكُّل مقترنًا بالتسبيح، وهو تنزيه الله سبحانه عن كل نقص، وفي ذكر اسم الله الحي الذي لا يموت دلالة على استحقاقه وحده للتوكل دون سواه، فهو الحي حقًّا وكل ما سواه يموت.
وأيضًا قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217 - 220]؛ حيث أمر سبحانه نبيَّه بالتوكُّل عليه، وقرن ذلك باسمَيهِ العزيزِ الرحيمِ؛ ليُتْبِعَ ذلك ببيان إحاطته التامة بأحوال عبده التعبدية، فهو السميع لعبادته، العليم بها حق العلم.
ولعل من أجمع آيِ الذكر الحكيم وأبدعها تصويرًا لمفهوم التوكُّل قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 9]؛ حيث اجتمعت فيها أعظمُ صور الربوبية، وخالص الألوهية، مع ما تقتضيانه من تمام التوكُّل.
إيراده بصيغة الماضي:
ومن أشكال تناوُلِ الذكر الحكيم لمفهوم التوكُّل إيرادُه بصيغة الماضي؛ حيث ورد بهذه الصيغة في العديد من القصص القرآني دلالةً على ملازمة حدوثه، واعتباره أهم مقوِّمات النصر؛ كما ورد على لسان نبي الله شعيب عليه السلام مخاطبًا قومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]، وكذلك قوله تعالى حكاية عن قوم موسى: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85]، وأيضًا قوله عز وجل واصفًا نبيَّه الحنيف إبراهيم والذين آمنوا معه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]، فقد ورد التوكُّل في هذه المواضع مقترنًا بالصبر والتمكين على إقامة دين الله، وأتبع ذلك بالدعاء؛ لخصوصية مقام التوكُّل، ورجاء استجابة الدعاء فيه.
وفي قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] دلالةٌ على اقتران توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية بالتوكُّل، واعتبارهما شرطًا لازمًا له.
ومنه قوله تعالى حكاية عن نبيه هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]؛ يقول البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ} [هود: 56] أي: اعتمدت، {عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56]؛ قال الضحاك: يحييها ويميتها، قال الفراء: مالكها والقادر عليها، وقال القتيبي: يقهرها؛ لأن من أخذتَ بناصيته فقد قهرتَه، وقيل: إنما خصَّ الناصية بالذكر؛ لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانًا بالذِّلَّة، فتقول: ناصية فلان بيد فلان، وكانوا إذا أسروا إنسانًا وأرادوا إطلاقه والمنَّ عليه، جَزُّوا ناصيته ليعتدُّوا بذلك فخرًا عليه، فخاطبهم الله بما يعرفون[12]، وفي ذلك وصفٌ لِما يجب أن يكون عليه تمام التوكُّل، وما يجب أن يقع في نفس المتوكل من انقياد تام، واعتماد خالص على من بيده ملكوت كل شيء سبحانه وتعالى.
وقال جل جلاله حكاية عن يعقوب عليه السلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67]، فبعد أن أوصاهم بالأخذ بالأسباب، ذكَّرهم بكمال تدبير الله ونفاذه، وضرورة التوكُّل المطلق عليه لا على الأسباب والخطط، فنجاحها مرهون بحكم الله الذي خضع لحكمه كل شيء.
ومنه أيضًا قوله تعالى واصفًا حال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مع تكذيب قومه: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، فلما استمر كفرُهم بالرحمن، أمر نبيه بما يواجه به ذلك، فأمره أن يخبرهم عن توحيده لربه وتوكله عليه، وأن مرجعه إليه وحده، فكان التوكُّل هنا سببًا للصبر والسلوى.
الخاتمة:
تناول الذكر الحكيم مفهومَ التوكُّل باعتباره شرطًا للتوحيد ومعيارًا له، وقد تنوعت أساليب النص القرآني في عرض هذا المفهوم وتصويره؛ فارتبط تارة بالعبادة بصيغة الاستعانة، فكان لها بمثابة الروح من الجسد؛ حيث اقترن بالصبر ومعية الله للصابرين المتوكلين، وارتبط تارة باسم الله الوكيل، مدللًا على تمام كفايته وشمول تدبيره في خلقه، كما ورد في سياق الحث عليه ووصف المؤمنين به، فكان من أبرز نعوتهم وأصدق أدلة إيمانهم، وورد بصيغة الأمر المباشر دلالة على علوِّ مرتبته، وكونه سببًا لمحبة الله وإعانته، وتسلية نفوس المتصفين به، وورد أيضًا بصيغة الماضي دلالة عليه كصفة ملازمة للمتوكلين، وكمال توحيدهم لربهم واعتمادهم عليه، ولطيف تدبيره لهم وتكفله بنصرهم.
[1] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس - أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، دار الجيل، 1420هـ/ 1999م، ج6، ص136.
[2] عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، السمين الحلبي، أبو العباس، شهاب الدين، أحمد بن يوسف بن عبدالدائم، دار الكتب العلمية، 1417هـ - 1996م، ج4، ص337-338.
[3] المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد، دار القلم، 1412هـ، ص882.
[4] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، ابن القيم، أبو عبدالله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي، 1416هـ - 1996م، ج2، ص113-114.
[5] انظر: [4] ج1، ص100.
[6] أخرجه البخاري في التفسير: تفسير سورة آل عمران باب: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ﴾ [آل عمران: 173]: 8 /229.
[7] معالم التنزيل في تفسير القرآن، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1417هـ - 1997م، ج7، ص130.
[8] انظر: [7]، ج2، ص125.
[9] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري، دار التربية والتراث، ج13، ص387.
[10] انظر: [9]، ج20، ص57-58.
[11] تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1420هـ - 1999م، ج4، ص364.
[12] انظر: [7]، ج4، ص183.
_________________________________________________
الكاتب: سائد بن جمال دياربكرلي