الخبيئة
قالﷺ: «من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل»
عن الزبير بن العوام وعبدالله بن عمر -رضي الله عنهم- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: «من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل»[1].
ما معنى خبيئة؟
في المعجم هي: مفرد لكلمة (خبايا)، وهي مؤنث لكلمة (خَبِيء)، وتعني: الشيء المستور أو المخفي.
وما معنى ((خبء من عمل صالح))؟
أي: مَن قَدَرَ منكم على أنْ يعمل عملًا خفيًّا خالصًا لله تبارك وتعالى، لا يطلع عليه أحد من الناس، خاليًا من الرياء، فلْيَفعَلْ ذَلِك حتى يكونَ تَأْكيدًا لمَعْنى الإخْلاصِ وطَلَبِ الأجْرِ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ، وهذه بعض الأمثلة:
• صلاة نافلة في جوف الليل، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17].
• قراءة شيء من القرآن: فعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه...»؛ (صحيح مسلم).
• صدقة خفية لا يعلمها إلا الله، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]، صيام يوم للهعز وجل، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به»؛ (متفق عليه).
• الذكر والدعاء: وهذه العبادة سهلة وبسيطة، تستطيع أن تجعل يومك كله ذكرًا ودعاء لله، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
• عيادة مريض.
• إذا استطعت أن تقوم بقضاء دين عن مدينين أو مساعدة أيتام.
• قضاء حاجة من يحتاج إلى المساعدة.
• بِر الوالدين.
• العفة عن الحرام.
• ومن الخبايا الصالحة أيضًا: التأمل في اختلاف الليل والنهار، والنظر في آياتهما، والتفكر في خلق السموات والأرض، وتسبيح فاطرها، والنية الصادقة من الخبايا الصالحة، فمَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عندَه حسنةً كاملةً، ومَن سأل الله الشهادةَ بصدقٍ، بلَّغَه الله منازلَ الشهداء، وإن مات على فراشه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ»؛ [ (رواه الترمذي، وصححه الألباني) ].
ما هي ثمرة الأعمال الصالحة المخبَّأة؟
1- أنها سَبَبٌ لتَفْريجِ كُلِّ كَرْبٍ.
2- أنها سبب صلاح القلب واستقامته، وطهارته وتنقيته، وبعده عن الشهوات والشبهات، وثباته عند المحن والفتن.
3- أنها دليل على حسن ظن العبد بربِّه.
4- أنها من أشد الأعمال على الشيطان.
وغيرها كثير...
وحديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة من أعظم الأحاديث التي تدل على فائدة الأعمال الصالحة المخبأة في تفريج الكربات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: «خرج ثلاثةٌ فيمن كان قبلكم يرتادون لأهلِيهم، فأصابتهم السماءُ، فلجأوا إلى جبلٍ، فوقعت عليهم صخرةٌ، فقال بعضُهم لبعضٍ: عفا الأثَرُ، ووقع الحجَرُ، ولا يعلَم بمكانكم إلا اللهُ؛ فادْعوا الله بأوثَقِ أعمالِكم، فقال أحدُهم: اللهم إن كنتَ تعلمُ أنه كانت لي امرأةٌ تُعجِبُني، فطلبتُها فأبَتْ عليَّ، فجعلْتُ لها جُعْلًا، فلما قَرَّبَتْ نفسَها تركتُها، فإن كنتَ تعلمُ أني إنما فعلتُ ذلك رجاءَ رحمتِك وخشيةَ عذابِك، فافرِجْ عنا، فزال ثلثُ الحجَرِ، وقال الآخرُ: اللهم إن كنت تعلمُ أنه كان لي والدانِ، وكنتُ أحلبُ لهما في إنائِهما، فإذا أتيتُهما وهما نائمانِ قمتُ حتى يستيقظا، فإذا استيقظا شرِبا، فإن كنتَ تعلمُ أني فعلتُ ذلك رجاءَ رحمتِك، وخشيةَ عذابِك فافرُجْ عنا، فزال ثلثُ الحجَرِ، وقال الثالثُ: اللهم إن كنت تعلم أني استأجَرتُ أجيرًا يومًا فعمل لي نصفَ النَّهارِ، فأعطيتُه أجرًا، فتسخَّطه ولم يأخذْه، فوفَّرتُها عليه، حتى صار من كل المالِ، ثم جاء يطلب أجرَه، فقلتُ: خذ هذا كلَّه، ولو شئتُ لم أُعطِه إلا أجرَه الأوَّلَ، فإن كنتَ تعلمُ أني فعلتُ ذلك رجاءَ رحمتِك، وخشيةَ عذابِك، فافرُجْ عنا، فزال الحجَرُ، وخرجوا يتماشَونَ»؛ (حديث صحيح).
ففي هذا الحديث دليل على أن الأعمال إذا كانت لله تكون سببًا لتفريج الكروب في الدنيا والآخرة، وأيضًا مشروعية التوسُّل إلى الله بالأعمال الصالحة.
كيف كان حال السلف مع (الخبيئة)؟
السلف الصالح، كانوا يستحبُّون أن يكون للرَّجُل خبيئةٌ صالحة، لا تعلم بها زوجته ولا أولاده، فضلًا عن غيرهم، فقال الحسن البصري، في وصفه لمَن أدركهم من الصحابة والتابعين: "ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدًا".
وهذا "ابن المبارك" رحمه الله يقول: "ما رأيت أحدًا ارتفع مثل مالك بن أنس"؛ أي: لما له من المحبة والهيبة في قلوب الناس، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون السريرة.
وقال سفيان بن عيينة: قال أبو حازم: "اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك".
ويقول وهب بن منبه -رحمه الله تعالى-: "يَا بُنَيَّ، أَخْلِصْ طَاعَةَ اللهِ بِسَرِيرَةٍ نَاصِحَةٍ يُصَدِّقُ اللهُ فِيهَا فِعْلَكَ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ خَيْرًا ثُمَّ أَسَرّهُ إلى اللهِ فَقَدْ أَصَابَ مَوْضِعَهُ، وَأَبْلَغَهُ قَرَارَهُ، وَإِنَّ مَنْ أَسَرَّ عَمَلًا صَالِحًا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ حَسْبُهُ، وَاسْتَوْدَعَهُ حَفِيظًا لَا يُضَيِّعُ أَجْرَهُ، فَلَا تَخَافَنَّ عَلَى عَمَلٍ".
وقال أحمد: «ما رفع اللهُ ابنَ المبارك إلا بخبيئةٍ كانت له».
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الذنوب الخفيات أسباب الانتكاسات، وعبادة الخفاء أصل الثبات".
ولقد كان أبو بكر رضي الله عنه من أروع الأمثلة التي تُضرَب للعمل في الخفاء، فقد كان إذا كان صلَّى الفجر خرج إلى الصحراء فاحتبس فيها شيئًا يسيرًا، ثم يعود إلى المدينة، فعجب عمر صلى الله عليه وسلم من أمره فلحقه واختبأ له خلف صخرة، فدخل الصدِّيق خيمة ولبث فيها قليلًا، فلما خرج دخل عمر رضي الله عنه إليها، فإذا فيها امرأة ضعيفة عمياء وعندها صبية صغار، فسألها عمر: من هذا الذي يأتيكم؟ فقالت: لا أعرفه ولكنه رجل من المسلمين يأتينا كل صباح فيكنس بيتنا، ويعجن عجيننا، ويحلب شاتنا، فخرج عمر وهو يبكي ويقول: لقد أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر!.
هل من عوامل معينة على الخبيئة الصالحة؟
أ- تدبُّر معاني الإخلاص: فالتربية على الإخلاص لله سبحانه وتذكير النفس به دائمًا هي الدافع الأول على عمل السر.
ب- استواء ذم الناس ومدحهم: وهو معنى لو تربَّى عليه المرء لأعانه على عمل السر.
جـ- تقوية مفهوم كمال العمل: فالعمل الذي لا يراه الناس يُرجى فيه الكمال أكثر مما يرجى في غيره.
فاحرص يا أخي -وفقنا الله وإياك- أن تكون من أهل الخبيئة الصالحة، فإنَّ لهم نورًا في الوجه، وقبولًا ومحبةً عند الخلق، قال ابن القيم: «هل لديك خوافٍ مؤلمات لا يعلمهن إلا الله؟ اجعل لهن خوافي صالحات لا يعلمهن إلا الله»، ولتكن تلك الخبيئة مُغلَّفة بالصدق، مُعطَّرة بالإخلاص، محاطة بالكتمان، حتى لا تفقد جمالها وصفاءها، وأجرَها وثوابَها، ولا يَغُرَّنَّك جُنونُ عصرنا بشهوة «النجومية» واللهث وراء «الشُّهرة»! والتخفِّي وراء عبارات «تقدير الذات» و«الثقة بالنفس»! فالتجارة مع الله رابحة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
مراجع المقال:
• موقع ابن باز، وموقع الدرر السنية، وموقع الخطباء، وموقع زاد السالكين، وتفسير الكشاف للزمخشري.
[1] روي هذا الحديث مرفوعًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وروي موقوفًا، والصواب أنَّه من كلام الزبير موقوفًا عليه كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف (35768). [إدارة تحرير الألوكة].
_____________________________________________________
الكاتب: نورة سليمان عبدالله
- التصنيف: