أمة وسط: رؤية لوسطية الأمة في الآية الكريمة
محمد عبد المعطي
تكريم بحَمْل راية الدين الحنيف، وردِّه إلى فِطْرته النقيَّة التي فَطَرَ الله تعالى عليها دينَه، وأحياها إبراهيم عليه السلام، واستبعاد الذين حرَّفوا دين الله من حَمْل الراية، واحتسابهم في خانة التطرُّف في الدين إفراطًا وتفريطًا..
- التصنيفات: - آفاق الشريعة -
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
{كذلك}؛ أي: كما هديناكم إلى قِبْلة إبراهيم وشريعته، كذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا[1].
الكاف مضافة إلى الإشارة لذلك التكريم بحَمْل راية الدين الحنيف، وردِّه إلى فِطْرته النقيَّة التي فَطَرَ الله تعالى عليها دينَه، وأحياها إبراهيم عليه السلام، وهي ذات الإشارة إلى استبعاد الذين حرَّفوا دين الله من حَمْل الراية، واحتسابهم في خانة التطرُّف في الدين إفراطًا وتفريطًا، كما قال تعالى مخاطبًا أولئك المنحرفين: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، والمعنى: لا تجاوزوا الحدَّ، والغلوُّ: هو الإفراط والاعتداء، ثم قال: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا...} وهم الرؤساء من أهل الكتاب، يعني: لا تتَّبِعوا شهواتهم؛ لأنهم آثروا الشهوات على البيان والبرهان؛ ولذلك قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، والوسط في الأصل اسم للمكان الذي يستوي إليه المساحة من الجوانب، وكذلك شُبِّه به كلُّ ما وقَعَ بين طرفين بلا إفراط وتفريط؛ كالجود بين السَّرَف والبُخْل، والشجاعة بين التَّهوُّر والجُبْن، ثم جُعِل عبارةً عن المختار من كلِّ شيءٍ حتى قيل: فلان من أوْسَطِهم نَسَبًا، قال الزجَّاج: أي: مِن خيارهم، والعرب تصِفُ الفاضل النَّسَبِ بأنه من أوْسَط قومِه على التمثيل، فتمثل القبيلة بالوادي والقاع، فخير الوادي وسَطُه، فيقال: هذا من وَسَط قومِه، ومِنْ وَسَط الوادي؛ أي: من خير مكانٍ فيه؛ ا هـ.
و(الوسط): الخيار والأعلى من الشيء؛ حيث يُنظَر إلى أن الوسط محفوظٌ، والجوانب والأطراف يُسرِع إليها الخَلَلُ.
فالوسطية في الحقيقة وصفٌ ثابتٌ لعقيدة وشريعة وأخلاق الإسلام بأنها أفضل وأرقى ما يمكن أنْ يكون من نهْجٍ أتتْ به السماء، فالوسطية تحديدٌ دقيقٌ لمنهج الإسلام وطريقته في تناوله لكافَّة شؤون الحياة وقضاياها؛ وذلك أنَّ الإسلام تميَّز عن سائر الديانات قبله بأنه الدين الخاتَم والمخاطِبُ لكلِّ الناس على الأرض بما يستقبل من شؤونهم جميعًا وتقلُّبات حياتهم إلى يوم القيامة، فلزم أن يكون أكثرَ المناهج والشرائع مُرونةً وشمولًا وتكيُّفًا؛ ليُلائم كلَّ الناس وكلَّ الأفكار والثقافات، ويُعالج كلَّ الأمراض وفسادَ الفِطْرة الإنسانية إلى يوم القيامة تحت كلِّ الظروف؛ ولذلك فهو الوَسَطُ.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أُبْعَثْ باليهوديَّة ولا بالنَّصرانية، ولكني بُعِثتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»؛ (من حديث أبي أمامة رضي الله عنه)[2]، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنه، قيل: يا رسول الله، أيُّ الأديان أحَبُّ إلى الله؟ قال: «الحنيفيَّةُ السَّمْحَةُ»؛ أي: الشريعة المائلة عن كلِّ دينٍ باطِلٍ، فهي حنيفية في التوحيد، سَمْحَة في العمل.
وما أرى تفسيرًا أعمقَ ولا أسدَّ في تفسير الوسطية الإسلامية من هاتين الكلمتين البليغتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أُوتي جوامع الكلم: «إنَّما بُعِثتُ بالحنيفيَّة السَّمْحَة»؛ الحنيفية في العقيدة والفكر والمنهج، والسَّمْحة في العمل والتشريع والحركة، يقول صاحب الظلال رحمه الله[3]:
"وإنها لَلْأُمَّةُ الوسط بكلِّ معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه الماديِّ الحسي.
{أُمَّةً وَسَطًا} في التصوُّر والاعتقاد، لا تغلو في التجرُّد الروحي، ولا في الارتكاس المادي؛ إنما تتَّبع الفطرة الممثلة في روح متلبسٍ بجسد، أو جسد تتلبَّس به روحٌ، وتُعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقَّه المتكامِلَ من كلِّ زادٍ، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتُطلِق كلَّ نشاطٍ في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريطٍ ولا إفراطٍ، في قصد وتناسُقٍ واعتدال.
{أُمَّةً وَسَطًا} في التفكير والشُّعُور، لا تجمد على ما علمتْ، وتُغلِق منافذ التجربة والمعرفة، ولا تتَّبع كذلك كلَّ ناعقٍ، وتُقلِّد تقليدَ القِرَدة المضْحِك؛ إنما تستمسِك بما لديها من تصوُّرات ومناهج وأصول، ثمَّ تنظر في كلِّ نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقة ضالَّةُ المؤمن، أنَّى وجَدَها أخذَها في تثبُّتٍ ويقينٍ.
{أُمَّةً وَسَطًا} في التنظيم والتنسيق، لا تدع الحياة كلَّها للمشاعر والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب؛ إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفُل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب، وتُزاوِج بين هذه وتلك، فلا تَكِلُ الناس إلى سوط السُّلْطان، ولا تكِلُهم كذلك إلى وحْي الوجْدان، ولكن مِزاج من هذا وذاك.
{أُمَّةً وَسَطًا} في الارتباطات والعلاقات، لا تلغي شخصية الفرد ومقوِّماته، ولا تُلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تُطلِقه كذلك فردًا أثرًا جشِعًا لا همَّ له إلا ذاته؛ إنما تُطلِق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وتُطلِق من النوازع والخصائص ما يُحقِّق شخصية الفرد وكيانه، ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلوِّ، ومن المنشِّطات ما يُثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة، وتُقرِّر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادمًا للجماعة، والجماعة كافلةً للفرد في تناسُقٍ واتِّساق.
{أُمَّةً وَسَطًا} في المكان، في سُرَّة الأرض، وفي أوسط بقاعها، وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضَها الإسلامُ إلى هذه اللحظة هي الأُمَّةَ التي تتوسَّط أقطارَ الأرض بين شرقٍ وغربٍ، وجنوبٍ وشمالٍ، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعًا، وتشهد على الناس جميعًا، وتُعطي ما عندها لأهل الأرض قاطِبةً، وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الرُّوح والفكر من هنا إلى هناك، وتتحكَّم في هذه الحركة ماديِّها ومعنويِّها على السواء.
{أُمَّةً وَسَطًا} في الزمان، تُنهي عَهْد طفولة البشرية من قبلها، وتحرس عَهْد الرُّشْد العقلي من بعدها، وتقِف في الوَسَط تنفض عن البشرية ما عَلِقَ بها من أوهامٍ وخُرافاتٍ من عَهْد طفولتها، وتصدُّها عن الفتنة بالعقل والهوى، وتُزاوِج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقليِّ المستمر في النماء، وتسير بها على الصراط السويِّ بين هذا وذاك.
وما يعوق هذه الأمةَ اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبَهُ اللَّه لها، إلا أنها تخلَّت عن منهج اللَّه الذي اختاره لها، واتَّخذت لها مناهجَ مختلفةً ليست هي التي اختارها اللَّه لها، واصطبغَتْ بصبغاتٍ شتَّى ليست صِبْغة اللَّه واحدة منها! واللَّه يُريد لها أن تصطبِغَ بصِبْغته وحدَها.
وأمَّةٌ تلك وظيفتُها، وذلك دورُها - خليقةٌ بأن تحتمل التبعة، وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفُها، وللقِوَامة تبعاتُها، ولا بد أن تُفتَن قبل ذلك وتُبتلَى؛ ليتأكَّد خلوصُها للَّه وتجرُّدُها، واستعدادُها للقيادة الراشدة"؛ انتهى.
هذا على مستوى الحنيفية (وهي الميل الحكيم عن انحرافات الجميع إلى صراط الله المستقيم)، وهي تُمثِّل اختصاصَ هذه الأمَّة بالكمال والشمولية والرحمة والعدل في منهجها الفكري والعقدي والعملي، وعلاقةُ ذلك واضحةٌ بمسألة تحويل القبلة المسوقة في الآيات التي تُمثِّل اتخاذ المؤمنين بأمر ربِّهم طريقًا جديدًا بوجهةٍ جديدة غير طريق (المغضوب عليهم أو الضالِّين) الذين تركوا منهج السماء وحرَّفوه فضَلُّوا، فميَّز الله المؤمنين عنهم بوجهةٍ غير وجهتهم وأعرق منها وأعظم (قبلة بيت الله الحرام)، وتمايز المؤمنون أيضًا بمنهجهم الوَسَط بمعنى الأعدل والأفضل بين الديانات كُلِّها.
وأمَّا على مستوى المعنى المكمِّل للوسطية، وهو السماحة، فيُمثِّل الطريق الذي يتَّخِذُه المسلم مع هدايات منهج السماء، فيكون بين أمرين:
أحدهما: الترخُّص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال.
والثاني: الغلو الذي يتجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي.
فالأول: تفريط، والثاني: إفراط، وما أمَرَ الله بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريطٍ وإضاعةٍ، وإمَّا إلى إفراطٍ وغلوٍّ، ودينُ الله وَسَطٌ بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوَسَط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مُضيِّعٌ له، فالغالي فيه مُضيِّعٌ له؛ هذا بتقصيره عن الحدِّ، وهذا بتجاوزه الحدَّ، وقد نهى الله عن الغُلوِّ بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77].
والغلوُّ نوعان: نوعٌ يُخرجه عن كونه مطيعًا، كمَنْ زاد في الصلاة ركعةً، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجَمَرات بالصخرات الكِبار التي يُرمى بها في المنجنيق، أو سعى بين الصَّفا والمرْوة عشرًا، أو نحو ذلك عمْدًا.
وغلوٌّ يُخاف منه الانقطاع والاستحسار؛ كقيام الليل كلِّه، وسرد الصيام الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد، الذي قال فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدينَ يُسْرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ؛ فسَدِّدوا وقارِبُوا ويَسِّروا، واسْتَعينوا بالغَدْوة والرَّوْحَة، وشَيءٍ من الدُّلْجة»، يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة؛ فإن المسافر يستعين على قطْع مسافة السفر بالسير فيها، وقال صلى الله عليه وسلم: «لَيُصَلِّ أحَدُكُم نشاطَهُ، فإذا فَتَرَ فَلْيَقْعُد»؛ (رواهما البخاريُّ) ، وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هَلَكَ المتنطِّعون» - قالها ثلاثًا - وهم المتعمِّقون المتشدِّدُون، وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم: «عليكُم من الأعمال ما تُطِيقُون؛ فوالله لا يَمَلُّ اللهُ حتى تَمَلُّوا» انتهى[4].
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]؛ أي: خيارًا وعدولًا؛ أصحابَ علمٍ وعَمَلٍ، ولا يخلو زمانٌ منهم؛ لما في الحديث الصحيح: «لا تَزالُ طائفةٌ من أُمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهم حتى يأتيَهم أمرُ الله وهُمْ على ذلك»، وما دام القرآن موجودًا فهم موجودون؛ لقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]، ونزول البلاء ليس دليلًا على عدم وجود الِخيار، فإن الأنبياء كانوا موجودين مع حصول الخَسْف والمسْخ بأُمَمِهم، ولما في الحديث: أنَهْلِكُ وفينا الصَّالِحون؟ قال: «نَعَم، إذا كَثُر الخَبَثُ»، فالبلاء والفساد يوجد في أي زمانٍ، ويكون أيضًا الصالحون ولا تَنافي.
ثم قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، يُفسِّرها عند المفسِّرين الحديثُ الشريفُ عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُدعى بنوح عليه السلام يوم القيامة فيُقال له: هل بلَّغْتَ ما أُرْسِلتَ به؟ فيقول: نَعَمْ، فيُقال لقومِهِ: هل بلَّغَكُم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذيرٍ! فيُقال له: مَنْ يَعْلَم ذاك؟ فيقول: محمدٌ وأُمَّتُه، فهو قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة: 143]؛ (رواه البخاري والنسائي والترمذي وغيرهم).
قال الطبري رحمه الله: فمعنى ذلك: وكذلك جَعلناكم أمَّةً وسَطًا عُدولًا؛ لتكونوا شُهداءَ لأنبيائي ورسُلي على أُمَمِها بالبلاغ، أنها قد بلَّغت ما أُمِرَتْ ببلاغه من رسالاتي إلى أممها، ويكونَ رسولي محمدٌ صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم، بإيمانكم به، وبما جاءكم به من عندي[5].
قال أهل البلاغة: قدَّم سبحانه ذِكْرَ الشهادة في أول الآية: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]؛ لبيان تعديل الله تعالى لهم، وقبوله سبحانه وتعالى لشهادتنا، بينما أخَّرها بعد ذلك في قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]؛ للدلالة على اختصاصنا بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، وما في ذلك من التشريف، وكذلك الاحتراس لذلك الحِمْل الثقيل في افتخار رسول الله بنا أو غضبه منَّا بأعمالنا، فرسولُ الله صلوات الله عليه كما أنه يشهد بتزكيتنا، فهو رقيبٌ على أعمالنا كذلك؛ يُعلِمه ربُّه تعالى بما غيَّرْنا وبدَّلْنا من دينه بعدَهُ، كما جاء في الحديث الخطير الذي رواه الشيخان واللفظ لمسلم عَنْ أبي هُريرةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، فقال: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمنين، وإنَّا إِنْ شاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُون، وَدِدْتُ أنَّا قد رأيْنا إخْوانَنا»، قالوا: أوَلسنا إخوانَكَ يا رسول الله؟ قال: «أنتم أصْحابي، وإخْوانُنا الذين لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ»، فقالوا: كيف تعرِفُ من لم يأتِ بعْدُ من أُمَّتِك يا رسول الله؟ فقال: «أرأيْتَ لو أنَّ رَجُلًا له خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بين ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ (أي: سُودٍ، لم يُخالط لونَها لونٌ آخرُ) ألا يَعْرِفُ خَيْلَهُ» ؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فإنَّهُمْ يَأْتُون غُرًّا مُحَجَّلِين مِنَ الوُضُوءِ، وأنا فَرَطُهُمْ (أي: أمامَهم أتقدَّمُهم) على الحَوْضِ، ألا لَيُذَادَنَّ (أي ليُبعَدنَّ) رِجَالٌ عن حَوْضي كما يُذَادُ (أي: يُدفَع ويُطرَد) البَعِيرُ الضَّالُّ؛ أُنَادِيهِمْ: ألا هَلُمَّ! فيُقالُ: إنَّهُمْ قد بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فأقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا» (معناه: بُعْدًا بُعْدًا لهم، والمكان السحيق البعيد)؛ انتهى.
أقول: وفي هذا بعض تفصيل بحث علماء المعاني؛ حيث قالوا: (فهلا قيل: لكم شهيدًا) مكان "عليكم"؛ يعني أنَّ "شهِدَ عليه" أكثر ما تُستعمَل فيما فيه مضرَّة، كما أن "شهِد له" فيما فيه مَنْفعة، وأُجيب: أن الشهيد هنا تضمَّن معنى الرقيب، فكان تعديته بـ "على"، ويرى الطيبي رحمه الله وغيره: أن ذلك من تمام الشهادة بالعدالة للمسلمين؛ حيث كانت الشهادة بعد رقابةٍ وخبرٍ لعدالتهم، ولم تكن عن تسامعٍ ومحض ثقةٍ في المشهود له[6].
وقد استنبط علماء الأصول حُجِّية الإجماع من هذه الآية؛لأن الله تعالى وصف هذه الأُمَّة بالعدالة، فإذا اجتمع جماعةٌ من العُدُول على شيءٍ، وشهدوا به، لزم قبولُه، ويعضُدُه قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
قال السعدي رحمه الله: وفي الآية دليلٌ على أن إجماع هذه الأمة حُجَّةٌ قاطِعةٌ، وأنهم معصومون عن الخطأ؛ لإطْلاق قوله: {وَسَطًا}، فلو قدِّر اتِّفاقهم على الخطأ، لم يكونوا وَسَطًا، إلَّا في بعض الأمور، ولقوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] يقتضي أنهم إذا شهدوا على حُكْمٍ أنَّ الله أحلَّه أو حرَّمَه أو أوجبه، فإنها معصومةٌ في ذلك، وفيها اشتراط العدالة في الحكم، والشهادة، والفُتْيا، ونحو ذلك[7].
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] تفسير ابن عطية؛ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 219).
[2] رواه أحمد (36/ 623 رقم 22291)، والطبراني في "الكبير" (8/ 216 رقم 7868)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 430 رقم 1218)، وابن عساكر في "الأربعون في الحث على الجهاد" (77 رقم 15) وإسناده ضعيف؛ فيه: علي بن يزيد الألهاني، ومعان بن رفاعة، لكن الحديث له شواهد يرتقي بها إلى الحسن؛ ولذلك ذكره الألباني رحمه الله في "الصحيحة" (6/ 2 / 1022 رقم 2924).
[3] الظلال (1 /238).
[4] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 464).
[5] تفسير الطبري؛ جامع البيان، ت: شاكر (3/ 145).
[6] انظر: فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (3/ 133).
[7] تفسير السعدي؛ تيسير الكريم الرحمن (ص: 71).