هل فاتنا قطار الإبداع؟
فرصة لحاقك بركب المبدعين ما زالت قائمةً، وأن الإرادة إذا التقت بالظروف الملائمة والاستعداد النفسي، فإنها قد تكون قادرة على تحقيق ما يبدو لك مستحيلاً، وذلك بعد توفيق الله.
- التصنيفات: تنمية المهارات -
يسود بين الناس اليوم اعتقاد شائع، بأن الإبداع يبدأ في الظهور في المراحل المبكرة من الحياة، وأن الأشخاص المبدعين تُخلق معهم مواهب الإبداع الكامنة، ومن ثمَّ فإن الأشخاص الذين لا تظهر مواهبهم في سنٍّ مبكرة قد يصابون بالإحباط؛ بل واليأس من مجرَّد الحلم باكتساب أي مواهب جديدة، فهل هذا الاعتقاد صحيح من وجهة نظر العلم؟
وراثة الإبداع:
اشتغل الفلاسفة منذ القدم بمحاولة الكشف عن مواطن الإبداع والعوامل المكوِّنة له، وتباينت وجهاتُ النظر إلى حدٍّ كبير، فذهب أفلاطون إلى ربط الإبداع بالوراثة؛ بل جعل الوظائف والقدرات العقلية كلَّها وراثيةً، ثم قسَّم المجتمع في جمهوريته الخيالية أربع طبقات هي: الحكماء، والمحاربون، والعمال، والعبيد، وعندما واجه أفلاطون مشكلة بروز بعض الحالات الإبداعية في الطبقات الدُّنيا من المجتمع، كما هو ملاحظ في كلِّ العصور والمجتمعات، برَّر وجودها بأنها مجرَّد طفرات شاذة تجب إعادتها إلى زمرة الأطفال الموهوبين الذين أوكل إلى الحكماء مسؤولية تربيتهم.
وفي العصر الحديث، وجد بعضُ علماء النفس الغربيين في هذه الفكرة ما يؤيِّد أفكارَهم العنصرية، فأوصى عالم النفس البريطاني "سيرل بيرت" (ت: 1971م) بعزل الطبقات الفقيرة ذات السلالات غير الأصيلة - من وجهة نظره - على اعتبار أن مشكلة الفقر في بريطانيا لا يمكن حلُّها إلا بالحدِّ من نسل طبقات العمَّال المهاجرين من دول متخلِّفة، وقد ثبت - فيما بعدُ - افتقارُ دراسات "بيرت" إلى المنهجية العلمية.
تعليم الإبداع:
قوبلت نظرية "بيرت" المتطرِّفة بالكثير من الرفض في شرق العالم وغربِه، وكردِّ فعل عليها برزت دراساتٌ أخرى تعطي البيئة والتعليم دورًا جوهريًّا في تحديد القدرات الإبداعية لدى الطفل، إلى الحدِّ الذي جعَل البعضَ يعدُّها العامل الوحيد المكوِّن للذكاء، إذ ذهب "جون واتسون" (ت: 1958م) إلى أن التربية والبيئة الثقافية هما المؤثِّران الوحيدان في قدرة المرء على الإبداع، ويقول في ذلك: "أعطني اثني عشر طفلاً سليمًا ومعافًى، مع ظروف بيئية مناسبة؛ لأؤكِّد لك أنهم قادرون بمحض إرادتهم على تحقيق طموحهم، وستجد فيهم الطبيب، والمحامي، والفنان، والتاجر، والقائد، وحتى اللص والمتسوِّل، وذلك بغضِّ النظر عن ميولهم واستعداداتهم الفطرية أو موروثاتهم".
متى يظهر الإبداع؟
لعل القائلين بربط الإبداع بالفطرة يستندون إلى الكثير من الحالات التي تشير إلى ظهور الإبداع غالبًا في سنٍّ مبكرة، والتاريخ مليءٌٌ بالأمثلة، فقد بحث "أرسطو" في سرعة السقوط الحرّ وهو في التاسعةَ عشرةَ من عمره، وفاقت شهرةُ "ابن سينا" في الطبِّ شهرة معظم أطباء عصره، وهو لم يتجاوز السابعةَ عشرة، كما بدأ الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" بالكتابة في سنِّ الرابعةَ عشرةَ، والتحق الفيلسوف "ليبنتز" بالجامعة في سنِّ الخامسة عشرة، وأحرز الدكتوراه في سنِّ العشرين.
ولكن، تواجه أصحاب هذه النظرية مشكلةٌ صعبة، فهناك حالات أخرى لم تظهر فيها مواهب أصحابها إلا في سنٍّ متأخرة، إذ لم تظهر موهبة الشعر عند "النابغة الذبياني" إلا في سنِّ الأربعين، مما دفع قومه لتسميته بالنابغة، كما نذكر المفكر المعاصر "يوسف مراد" الذي ترك عالم الفكر والفلسفة في سنِّ الستين، بعد أن اكتشف موهبتَه في الرسم، أما الدكتور "جورج دوما" فقد اعتزل مهنة الطبِّ ليدخل صراعات الفكر والأدب في سنٍّ متأخرة أيضًا، وكتبت الكاتبة التشيلية الشهيرة "إيزابيل اليندي" روايتها الأولى "بيت الأرواح" في عمر يناهز الأربعين.
وماذا يقول العلم؟
يتفاوت سنُّ ظهور المواهب حسب ميول الأشخاص المبدعين، ففي الأدب تبدأ المواهب بالظهور في وقت مبكر جدًّا؛ أي: منذ ما قبل سنِّ المدرسة، بينما قد يتأخَّر سنُّ الإنتاج العلمي إلى سنِّ السادسةَ عشرةَ، وربما يحتاج التفكيرُ الفلسفيُّ إلى نضجٍ أكثرَ فيتأخر إلى سنِّ الخامسةِ والعشرين.
ولتحديد علاقة السنِّ بذروة الإنتاج الإبداعي، قام "جورج بيرد" في أواخر القرن التاسعَ عشرَ بدراسة أكثر من ألف سيرة شخصية للمشاهير، فوجد أن معظم نتاجهم الإبداعي قد ظهر في الفترة الواقعة ما بين سنِّ الثلاثين والخامسة والأربعين، كما استنتج "بيرد" أن الإبداع يرتبط بعاملين أساسيين هما: الخبرة والحماس، فالخبرة تتكون بشكلٍ تراكمي مع التقدُّم في السنِّ، أما الحماسُ فيكون أكثر وضوحًا في السنوات الأولى للشباب، ويؤكِّد ذلك اكتشافٌ حديث لخميرة MAO الموجودة في الدم، والتي تؤدي زيادة تركيزها إلى تراجع الحماس وروح المغامرة، وهي تنخفض غالبًا مع التقدُّم في السنِّ، وقد وجد "بيرد" أن التوازن المثالي بين هذين العاملين يحدث فيما بين الثامنة والثلاثين والأربعين.
هل فاتنا القطار إذن؟
بعد صراع طويل بين أنصار نظريتي الوراثة والتعليم، يمكننا - أخيرًا - القولُ بأن الاهتمام بدور البيئة والتعليم لا يعني تجاهل دور المورثات على الإطلاق، فقد مرَّ معنا ظهور الكثير من المواهب في سنٍّ مبكرة جدًّا، وقبل بداية تأثر الأطفال بالبيئة أو التعليم، ولكنه لم يثبُت أيضًا - حتى الآن - القولُ بوجود جينات وراثية مسؤولة عن كلِّ استعداد فطري يمكن اكتشافه.
إذن؛ فالإبداع يبدأ في التكوُّن منذ السنوات الأولى من أعمارنا، حيث تُخلق الاستعدادات الأولية لمواهبنا قبل أن نتأثر بالخارج، ولكنها تحتاج إلى التدريب والتطوير كي تؤتي ثمارها، وإلاَّ فقد تذهب أدراج الرياح، والعملية التربوية الصحيحة تكون قادرة على الكشف عن الاستعدادات الخاصة لدى الطفل بسرعة كبيرة، كما تقوم في الوقت نفسِه بتكوينها عندما تتوفَّر الرغبة والعزيمة؛ لذا فإنه من الخطأ القول بأن الإبداع محكوم بالسنوات الأولى من العمر؛ إذ لا يبعُد أن تنتظر كوامن الإبداع من يخرجها حتى سنٍّ متأخرة.
وسواء تمَّ اكتشافُ هذه المواهب أم لا، فإن ارتباطها بذروة الإنتاج الواقعة في منتصف العمر لا يعني أن نبْع الإبداع قابلٌ للنضوب على الإطلاق، إذ يرى بعض الباحثين أن انخفاض الإنتاج مع تقدُّم السنِّ لا يعود فقط إلى الضعف الجسدي، بل أيضًا إلى ما يعانيه مشاهير المبدعين من التزامات اجتماعية ومهنية تفرضها عليهم شهرتهم في المجتمع، ويحفظ لنا التاريخ عشرات الأعمال الإبداعية التي أنجزها أصحابها في سنِّ الشيخوخة، ومنها أعمال الطبيب "ابن النفيس"، والروائي "مارك توين"، والمخترع "غراهام بل".
خلاصة القول: إذا كان السؤال الذي افتتحنا به المقال ما زال يشغل بالك عزيزي القارئ، فتأكَّد من أن فرصة لحاقك بركب المبدعين ما زالت قائمةً، وأن الإرادة إذا التقت بالظروف الملائمة والاستعداد النفسي، فإنها قد تكون قادرة على تحقيق ما يبدو لك مستحيلاً، وذلك بعد توفيق الله.
__________________________________________________________________
المراجع:
- مالك حسين، الإبداع، دار علاء الدين، دمشق.
- ليلى داود، مبادئ علم النفس.
- سيرل بيرت وآخرون، كيف يعمل العقل، دار وحي القلم، دمشق.
__________________________________________
الكاتب: أحمد دعدوش