أسباب البعد عن المعاصي
الصبر عن المعصية أفضل أنواع الصبر؛ لأنه من وظائف الصدِّيقين، كما قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صدِّيق.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيا عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله وطاعته، فقد أوصانا ربنا بها، فقال جل جلاله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام، فالصبر مقام عظيم من مقامات السائرين إلى الله تعالى، ولا بد للعبد من استصحابه في طريقه إلى الله جل جلاله، فالصبر نصف الدين؛ وذلك لأن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ: 19]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذى نفسى بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له: إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن» ، فمنازل الإيمان كلها بين الصبر والشكر.
وقد ذكر الله سبحانه الصبر في كتابه في نحو تسعين موضعًا، فمرة أمر به، ومرة أثنى على أهله، ومرة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر به أهله، ومرة جعله شرطًا في حصول النصر والكفاية، ومرة أخبر أنه مع أهله، وأثنى به على صفوته من العالمين؛ وهم أنبياؤه ورسله، فقال عن نبيِّه أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]، وقال تعالى لخاتم أنبيائه ورسله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]، وقال يوسف الصديق، وقد قال له إخوته: {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]، وهذا يدل على أن الصبر من أجَلِّ مقامات الإيمان.
معاشر المؤمنين، الصبر ثلاثة أقسام:
إمَّا صبر عن المعصية فلا يرتكبها، وإمَّا صبر على الطاعة حتى يؤديها، وإمَّا صبر على البلية فلا يشكو ربَّه فيها، وإن كان العبد لا بد له من واحد من هذه الثلاثة، فالصبر لازم له أبدًا لا خروج له البتة.
هذا وأحب أن أشير ههنا إلى مسألة عظيمة؛ وهي أي الصبرين أفضل: صبر العبد عن المعصية، أم صبره على الطاعة؟
وقد رجح طائفة من العلماء أن الصبر عن المعصية أفضل؛ لأنه من وظائف الصدِّيقين، كما قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صدِّيق.
قالوا: ولأن داعي المعصية أشدُّ من دواعي ترك الطاعة، فإن داعي المعصية إلى أمر وجودي تشتهيه النفس وتلتذُّ به، والداعي إلى ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة، ولا ريب أن داعي المعصية أقوى.
قالوا: ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعي النفس والهوى والشيطان وأسباب الدنيا وقرناء الرجل وطلب التشبُّه والمحاكاة وميل الطبع، وكل واحد من هذه الدواعي يجذب العبد إلى المعصية ويطلب أثره، فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب؟ فأي صبر أَقوى من صبر عن إجابتها؟ ولولا أَن الله يصبره لما تأتَّى منه الصبر.
ولأجل هذا على العبد أن يُصبِّر نفسه على البعد عن المعصية، وسوف أذكر لك أيها الأخ الكريم عشرة أسباب للبعد عن المعصية:
السبب الأول: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءَتها، وأن الله إنما حرَّمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره، وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يُعلَّق عليها وعيد بالعذاب.
السبب الثاني: الحياءُ من الله سبحانه، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه، وأنه بمرأَى منه ومسمع- وكان حيًّا حييًّا -استحى من ربه أن يتعرض لمساخطه.
السبب الثالث: مراعاة نِعَمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنبًا إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصَرَّ لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة نعمة حتى تسلب النعم كلها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وأعظم النعم الإيمان، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة يزيلها ويسلبها.
وقال بعض السلف: أذنبت ذنبًا فحرمت قيام الليل سنة، وقال آخر: أذنبت ذنبًا فحرمت فَهْم القرآن.
وفي مثل هذا قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها = فإن المعاصي تزيل النعم
وبالجملة فإن المعاصي نار النعم تأْكلها كما تأْكل النار الحطب، عياذًا بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته.
السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله، وهذا السبب يَقْوى بالعلم واليقين ويضعف بضعفهما، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقال بعض السلف: كفى بخشية الله علمًا وبالاغترار بالله جهلًا.
السبب الخامس: محبة الله سبحانه المقرونة بالإجلال والتعظيم، وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدَّر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها، وفرق بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده.
فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه.
السبب السادس: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتحقرها، وتسوي بينها وبين السفلة.
السبب السابع: قوة العلم بسوءِ عاقبة المعصية، وقبح أثرها والضرر الناشيء منها.
فللمعصية أضرار وخيمة منها:
•سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمه، وحزنه وأَلمه، وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه، وتمزُّق شمله.
•ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، ومنها ضعف بدنه، ومنها زوال المهابة والحلاوة التي لبسها بالطاعة، فتبدل بها مهانة وحقارة، ومنها حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس، ومنها ضياع أعز الأشياءِ عليه وأنفسها وأعلاها، وهو الوقت الذي لا عوض منه، ولا يعود إليه أبدًا.
•ومنها إعراض الله وملائكته وعباده عنه، فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه فأعرضت عنه ملائكته وعباده، كما أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، وأقبل بقلوب خلقه إليه، ومنها أن الذنب يستدعي ذنبًا آخر، ثم يقوى أحدهما بالآخر فيستدعيان ثالثًا، ثم تجتمع الثلاثة فتستدعي رابعًا، وهلم جرًّا حتى تغمره ذنوبه وتحيط به خطيئته.
•ومنها علمه بفوات ما هو أحَبُّ إليه وخير له منها من جنسها وغير جنسها، فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات في الدنيا ولذة ما في الآخرة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]، فالمؤمن لا يذهب طيباته في الدنيا، بل لا بُدَّ أن يترك بعض طيباته للآخرة.
وأما الكافر فإنه لا يؤمن بالآخرة فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته في الدنيا، ومنها علمه بأن أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته، فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة، وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته، ومنها علمه بأَن عمله هو وليُّه في قبره، وأنيسه فيه، وشفيعه عند ربه، والمخاصم والمحاج عنه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه.
•ومنها علمه بأن أعمال البر تنهض بالعبد وتقوم به وتصعد إلى الله به، فبحسب قوة تعلقه بها يكون صعوده مع صعودها، وأعمال الفجور تهوي به، وتجذبه إلى الهاوية، وتجره إلى أسفل سافلين، وبحسب قوة تعلقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلى حيث [تستقر] به، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40]، فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أُغلقت عنها، وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله سبحانه، فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه تعالى، وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها في عليِّين.
السبب الثامن: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها، فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من التسويف وطول الأمل.
السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأُ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفًا فيضيق عليها المباح فتتعدَّاه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضُرُّه ولا بُدَّ.
السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها: ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبرُه أتمَّ، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، فإن مَنْ باشَرَ قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له، وتحريمه لما حرم عليه، وبغضه له، ومقته لفاعله، وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار، وامتنع من ألَّا يعمل بموجب هذا العلم.
فيا عباد الله، لا سعادة البتة في معصية الله ومخالفة أمره، بل السعادة كلها والهناء وطمأنينة القلب في طاعة الله وامتثال أمره.
فيا عباد الله، آثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علمًا، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علمًا، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته، وفى بعض الآثار يقول الله سبحانه وتعالى: من ذا الذي أطاعني فشقي بطاعتي؟ ومن ذا الذي عصاني فسعد بمعصيتي؟[1].
ألا فلنرجع إلى الله تعالى بالتوبة والأوبة، ولنبدأ صفحة جديدة مع الله، فبالتوبة النصوح تُمحى الذنوب، وتتبدل السيئات إلى حسنات، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يغفر لنا ذنوبنا، ويكفر عنا سيئاتنا، ويتوفنا مع الأبرار، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] لخصت هذه الخطبة من كتاب طريق الهجرتين للإمام ابن القيم -رحمه الله- مع تصرف كثير.
__________________________________________
الكاتب: جمال علي يوسف فياض
- التصنيف: