وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار
السالك إلى الله لابد له من هاتين القوتين، القوة العلمية والقوة العملية، أو ما يسمى بالعلم النافع والعمل الصالح.
السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية، وقوة عملية.
فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك، ويتبين له أسباب الهلاك ومواطن العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل؛ فهي كالنور الذي يضيء ظلمة الطريق، والهادي الذي يهديه عند سيره فيه، وهذا شطر السعادة، ولكنه كلا شيء إذا لم يتوفر الشطر الثاني وهو القوة العملية، بأن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً في الطريق قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة.
وهذا الذي ذكرناه هو ما بينه الله في كتابه، حين قال لنبيه: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَار . إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ . وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ} [ص:45ـ47].
يعني واذكر يا محمد هؤلاء الأنبياء الثلاثة الطيبين والسادة المرسلين: إبراهيم، إمام الحنفاء وأبا الأنبياء، وولده إسحاق، وولد ولده يعقوب عليهم جميعا صلوات الله وسلامه. وقد وصفهم الله تعالى بعدة صفات: وذكرهم بالذكر الحسن والثناء الجميل:
العبودية:
فوصفهم أولا بأشرف صفة يوصف بها إنسان، وهي عبوديتهم لله {عِبَادَنَا}
وممــا زادني شــرفا وتيــــهـا .. وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي .. وأن صـيرت أحمـد لي نبيا
والله تبارك وتعالى إنما نسبهم إليه تشريفا لهم، وتعظيما لقدرهم، وشهادة لهم بأنهم حققوا هذا المقام وقاموا به حق القيام.. ولا شك أن الأنبياء هم أحق الخلق بهذا الوصف فإنهم عباد الله حقا، القائمون بهذا المقام صدقا.
فحققوا عبوديات القلب من إيمان تام ويقين كامل، ومحبة لله وخوف ورجاء، وتوكل وإنابة، وتسليم واستجابة لأمره الشرعي وحكمه الديني، ورضى بأمره القدري وقضائه الكوني..
كما حققوا عبادات الجوارح من صلاة وصيام، وزكاة وحج، ودعوة لله وجهاد بالقول واللسان والسيف والسنان، وقيام ليل وطول ذكر.. وغير ذلك، حتى كانوا أئمة الخلق في ذلك كما قال الله فيهم في سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73].
قوة علمية وقوة عملية:
ثم بين سبحانه أنهم إنما حصلوا ذلك بأمرين وصفهم الله بهما في قوله {أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَار}، وهما القوتان العلمية والعملية كما قال أهل العلم، فالقوة العملية في قوله {أُولِي الأيْدِي}: ومعناها القوة في العبادة وطاعة الله.. والقوة العلمية في قوله أولي {الأبْصَار}: يعني البصيرة التامة والفقه في الدين..
والسالك إلى الله لابد له من هاتين القوتين، القوة العلمية والقوة العملية، أو ما يسمى بالعلم النافع والعمل الصالح.
والناس في هذا أربعة أقسام:
. قسم وهبه العلم ووفقه للعمل، فجمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح، فهم أفضل الأقسام وأكرم الأنام {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107].
.. وقسم حصل العلم ولكنه محروم من العمل، فهو عند العلم فارس الميدان، فإذا أتى العمل كأنه من أجهل الأنام، فهو يعلم فضل قيام الليل ولا يقوم، وفضل الذكر والتسبيح ولكنه عديم الذكر أو قليله، وهكذا بقية الأعمال..
وقد ذم الله هذا الصنف بقوله: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2، 3].. وقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
... والقسم الثالث عنده قوة عملية وحب للعمل الصالح، ولكنه جاهل خال من العلم، فمثل هذا إن وفقه الله لمرافقة عالم أو طالب علم يدله كان أقرب من القسم الأول.. وإلا كان عمله عن جهل، فهو محب للعلم ولا علم عنده فيخترع ويبتدع ويفسد أكثر مما يصلح، كما قال عمر بن عبد العزيز: "من عمل بلا علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه".
.... وأما رابع الأقسام: فلا علم ولا عمل، لا قوة علمية ولا قوة عملية، فهو جاهل وعاطل، وهؤلاء أسوأ الأقسام الأربعة، وأضعفهم سيرا، إن ساروا أصلا، وإن لم تقطعهم القواطع، وتأخذهم عن الله بنيات الطريق والمعاطب والمهالك.
ذِكْرَى ٱلدَّارِ:
فمن أراد السير إلى الله تعالى والوصول إلى رضوانه، لابد له من هاتين القوتين: علمية وعملية، علم نافع وعمل صالح..
فإذا أراد به الخير جعل ذكر الآخرة والحساب والجنة والنار نصب عينيه؛ كما وصف الله الأنبياء الثلاثة: {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ٱلدَّارِ} [ص: 46].
أي اختصصناهم من بين الناس بميزة عظيمة وهي دوام ذكر الآخرة، فهم يذكرونها ويذكِّرون بها، يستحضرون الثواب على الطاعة فيقبلون عليها، ويستحضرون العقاب على المَعصية فيفرّون منها. فإذا رآهم الناس ووقفوا على أعمالهم، تذكر بأحوالهم المتذكر، واعتبر بأفعالهم المعتبر، وذكروهم بأحسن الذكر.
وهذا لا يكون إلا لمن اصطفاه الله واجتباه كما قال سبحانه: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلأَخْيَارِ} [ص:47]. أي: الذين اصطفيناهم، واخترناهم وقدمناهم على غيرهم لما فيهم من الخيرية، التي تؤهِّلهم لهذا الاصطفاء.
فمن أراد أن يكون منهم ومعهم، فليقتد بفعلهم وليعمل بعملهم، وليجعل له فيهم قدوة وأسوة حسنة كما أمر الله تعالى: {أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ۚ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ . أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقْتَدِهْ} [الأنعام:89، 90].
فاللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح، واجعلنا من المصطفين الأخيار.
- التصنيف: