الثقافة الإسلامية وإسقاطات العولمة
وفي المقابل، فإنَّه كلَّما تدنَّى المصدر المعرفي، كانت السِّمة الظَّاهرة هي إعادة التَّمحيص ومداولة المحتويات مرارًا وتكرارًا؛ لأنَّ الخيوط التي تربط أطرافها أو فروعها بأصولها تكون واهية.
من المعروف أن الإنسان يحصُل على علومه وخبراته وسلوكيَّاته التي تبنى على أساسها حياته، ثمَّ تشْريعاته بعد ذلك، من عدَّة مصادر، وكلَّما تسامى المصدر المعرفي، ازداد تمسُّك المجتمع بكل جوانبِه وتفريعات علومه، ناهيك عن أصوله، ولا شكَّ أنَّ الثقافات التي تتَّكئ على مرجعيَّة إلهيَّة تكون أقوى، والتمسُّك بها أشد، حتَّى وإن حامت الشُّكوك في صحَّة هذه المرجعية ونسبتها إلى السَّماء.
وفي المقابل، فإنَّه كلَّما تدنَّى المصدر المعرفي، كانت السِّمة الظَّاهرة هي إعادة التَّمحيص ومداولة المحتويات مرارًا وتكرارًا؛ لأنَّ الخيوط التي تربط أطرافها أو فروعها بأصولها تكون واهية.
وبين هذا وذاك تتراوَح الثَّقافات المتنوِّعة، فيبقى بعْضها حينًا من الدَّهر، وتشكّل حضارات متكاملة إلى حدٍّ ما، ويتلاشى بعضُها فتكون أثرًا بعد عين، وفي كلّ الأحوال فإنَّ الثَّقافة أو الحضارة الَّتي لا تَحميها القوَّة تكون عرضة للذَّوبان والتفتُّت.
وبالنسبة للثقافة أو الحضارة الإسلاميَّة، الَّتي تتَّخذ مرجعيَّتها من كتاب يقول عنْه الله - سبحانه وتعالى -: {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، فإنَّ الحاجة إلى القوَّة التي تحميها أشدّ؛ لكثرة أعدائها من أعوان الشَّيطان، خاصَّة أنَّ هذه الحضارة هي المرشَّحة لقيادة الإنسانيَّة من عهد الرِّسالة إلى قيام السَّاعة، بشروط تعرَّض لها القرآن الكريم جملة وتفصيلاً.
لذلك؛ فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - نبَّه إلى هذه الجزئيَّة فقال آمرًا أصحاب هذه الحضارة: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، وبذلك وصَّى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: «المؤمن القويُّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف» ؛ (رواه البخاري).
وهذه القوَّة المطلوبة يجب أن تكون في مواجهة الخصوم فقط كلَّما لزم، فالله لا يُحبّ المعتدين، أمَّا فيما بين أصحاب الثَّقافة أو الحضارة، فإنَّ الأمر يختلف تمامًا - أو ينبغي أن يختلف - وقد مدح الله السَّلف بأنَّهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وإذا انعكسَت الأمور وأصبحت القوَّة والشدَّة موجَّهة إلى الدَّاخل - كما هو الحال في كثيرٍ من البلاد الإسلاميَّة - فإنَّ العكس يكون صحيحًا وحتميًّا، فتظهر المُداهنات والتَّراجعات أمام الخصوم، وتكون النَّتيجة تداعِي الأمم الَّذي حذَّرنا منه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الصَّحيح، وهو أيضًا ما نهانا عنه الله - سبحانه وتعالى - بقوله الخالد في محْكم التَّنزيل: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
وقد وضَّح الله لنا أنَّ الحضارة تُبنى على دعامتين رئيستين هما "الاقتصاد والأمن"؛ فقال - تعالى -: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4]، فإذا أراد - سبحانه - أن يمتحن أمَّة يكون الابتلاء في هذيْن الأمرين؛ كما يقول تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: 155].
كذلك إذا أراد اللهُ إهلاك أمَّة بما كسبت أيديهم، فإنَّ الضَّربة توجَّه أيضًا إلى نفس الرُّكْنين؛ يقول - تعالى - في سورة النَّحل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وبرغْم مرور أكثرَ من أربعة عشر قرنًا من الزَّمان على نزول هذه الآيات المحْكمات، إلاَّ أنَّنا لم نتفاعلْ معها أو بها كما ينبغي، فكاد المحْظور أن يقع - إن لم يكن قد وقع فعْلاً وصار أمرًا ملموسًا - ولقد تغافلْنا عن هذه الأسس التي قامت الحضارة الإسلاميَّة عليْها، مع أنَّنا انبهرْنا برؤية الفيلسوف الألماني "اشبنجلر" عندما ظنَّ أنَّه أتى بما لم يأْتِ به الأوائل وقال: "أهمّ دعائم الحضارة الأمن والاقتصاد"، ولم يردَّ أحدٌ منَّا بأنَّ القرآن الكريم عالج هذه القضيَّة وحسمها منذ مئات السنين قبله.
وهذا يأخذنا إلى الجهة الأُخرى حيث يقف خصوم الحضارة الإسلاميَّة موقفًا متناقضًا، فهم من ناحية يستنبِطون العلوم منها ويستفيدون بها أقصى استِفادة ويبنون عليها، ومن ناحيةٍ أُخرى يحاولون تقْويض الجوانب الَّتي لا تتَّفق مع ميولهم وأهوائهم من الحضارة الإسلاميَّة، خاصَّة فيما يتعلَّق بالجوانب العقديَّة والشَّرعيَّة والأخلاقيَّة، وكأنَّهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وهذا هو دأبُهم منذ عهد التَّنزيل، وكلّ همِّهم هو السَّيطرة وبسط النفوذ وفرض الوصاية بكلِّ الوسائل المشروعة وغير المشْروعة؛ لحاجة في نفوسهم لن يقضوها بإذن الله.
وفي سبيل ذلك نَجِدهم يناورون بالتَّلاعُب بالمصطلحات وتدْويلها بالشَّكل الَّذي لا يُثير حفيظة الآخَرين، فمن قبلُ كانت السَّيطرة على البلاد العربيَّة والإسلاميَّة تحت مسمَّى "الاستعمار"، وهي كلِمة مشتقَّة بعناية شديدة من "التعمير"، مع أنَّ حقيقة الوضْع كان التَّخريب والنَّهب والسَّلب وفرض الجهل والاستِعْباد، والمصيبة أنَّنا قبِلْنا هذا المسمَّى، ونردِّده إلى الآن عند الحديث عن تلك المرْحلة المظلِمة من تاريخنا.
واليوم جاؤوا بكلِمة "العولمة" كمصْطلح يُناسب العصر الحالي، ولكن بنفْس المضمون القديم، الَّذي يعني الاحتِلال الاقتِصادي والعسكري - والديني إن أمكن - وتعْتَبَر العولمة أو - العلمنة - هي الأداة الرئيسة في أيْدي الخصوم الَّذين يُحاولون النَّيل من الحضارة الإسلاميَّة، بتدْمير اقتِصادها وأمنها، وتدْويل ثوابتها الفكريَّة، وتَهميش معتقداتِها الدينيَّة، وتَمزيق ثقافتِها الإنسانيَّة، ولتحقيق هذه الأهداف كان لا بدَّ من تدْمير القوَّة الَّتي قد تحمي هذه الحضارة في مرحلةٍ ما من مراحل الصِّراع، وهذا هو ما يقومون به تحت مسمَّى خبيث هو "محاربة الإرهاب".
وإسقاطات العولمة تنهمِر على رأس الحضارة الإسلاميَّة من خلال عدَّة محاور، وفينا سمَّاعون لهم يهيِّئون لهم السَّاحة ويُمهِّدون لهم الطريق، ومن هذه المحاور:
• تَهميش دور المسلمين في كلِّ المحافل المؤثِّرة، والمداولات السياسيَّة والاقتصاديَّة.
• السَّيطرة على المقدّرات التنموية والتقنية، واحتِكار التَّصنيع العسكري.
• تَمويل أطراف النزاعات وتطْويل أمد الخلافات.
• نشر الفِتَن وتأْجيج الصراعات الفكريَّة والمذهبيَّة وتفْتيت الكيانات.
• بثّ روح اليأس، ووضع ما شأْنُه قطع الصلة بين ماضي الأمَّة وحاضرها في كلّ المجالات.
• التَّصفية الجسديَّة لمن يقف حائلاً ضدَّ مخطَّطاتِهم بقصد أو دون قصد.
وأعداء الحضارة الإسلاميَّة يتحركون بهمَّة لتحقيق أهدافهم بشكل علني في بعض المحاور، وبشكْل سري في المحاور الأخرى التي لا تتحقَّق إلاَّ في الخفاء، فمِن علانيتهم أنَّهم يسمّون المداولات الدَّائرة بين الحضارة الإسلاميَّة والحضارة الغربيَّة بكلمة (صراع الحضارات)، وهم محقُّون في ذلك وواقعيُّون، أمَّا نحنُ فنُسمِّي المداولات نفسها بمصطلح آخر (حوار الحضارات)، حسب المثل العلْيا أو المفروض الأخلاقي، أدواتهم المدْفع والصَّاروخ، وأدواتُنا القلم والكلمة على استحياء!
ولم نسأل أنفُسَنا - ولو من باب الاحتياط - كيف يكون الحوار بين حضارة مبنيَّة على التقنية، ورصيد أصحابها من الدين والأخلاق لا شيء، وبين حضارة مبنيَّة على الدين والأخلاق، ورصيد أصحابِها من التَّقنية لا شيء؟!
وما يزيد الأمر تعقيدًا أنَّ الَّذين يديرون شؤون صراع أو حوار الحضارات في الغرْب هم رجال الفكر، في حين يتصدَّر لهذا الأمْر عندنا رجال السياسة والأمن.
نقطة أخيرة عن إسقاطات العوْلَمة على الثَّقافة العربيَّة والإسلاميَّة، وهي أنَّ التَّرجمة من اللغات الأوربيَّة إلى العربيَّة لها مؤسَّسات وتمويل مفتوح من جهات عديدة، ولكن التَّرجمة من اللغة العربيَّة إلى اللغات الأوربيَّة عبارة عن جهود أفراد فقط، وبدون تمويل يعوَّل عليه - باستثناء ترجمة معاني القرآن الكريم وما يقوم به مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في هذا الصدد - وهذه ليست من قبيل المصادفة؛ بل مقْصودة مع سبق الإصرار والترصُّد.
وهذا التَّجاهل المتعمَّد لمعطيات الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، وهذه الطَّريقة المبتكرة في توجيه دفَّة المعارف المتنوِّعة إلى اتجاه واحد دون غيره، تُعادل مقولة أجدادِهم الَّتي رواها لنا القرآن الكريم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
بناءً على ما سبق؛ فإنَّ الَّذين ينادون بتجْديد الحوار الديني عليهم أن يفطِنوا إلى ما دسَّ لهم من حيث لا يُعلمون، وعلى من يروِّجون للعولمة مثل ذلك، وعلى كلِّ مثقَّف الحذَر من أن يؤتى الإسلام من ثغره، وعلى الأغنِياء أن يجعلوا أموالَهم لسانًا لمن أراد فصاحة وسلاحًا لِمَن أراد قتالاً، وعلى كلِّ أفراد الأمَّة أن يأخذوا حذرهم.
{فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35].
____________________________________________________
الكاتب: محيي الدين صالح
- التصنيف: