مفاهيم ما قبل القيادة
مفاهيم ما قبل القيادة
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجة
ثلاثة عقود من الجدل، جعلت من قيادة المرأة نقطة توتر اجتماعي وثقافي..
ولكي نخفف من حدة الاحتقان، نود التأكيد على:
أن من حرّم القيادة، فما حرّمها لذاتها، إنما حرّمها تحريم الوسائل والذرائع؛ أي لما تؤول إليه من مفاسد كبيرة، وسدّ الذرائع أصل شرعي معتبر، حين تكون الذريعة محققة أو غالبة على الظن.
معنى ذلك: أنه لو انتفت كافة المحاذير والمحظورات، فحصل "الضمان الأكيد" سلامة المرأة جسديا وخلقيا ووظيفيا فإنه لن يبقى ممانع من أهل العلم.
وما دام موقف الممانعين من القيادة بهذه المرونة، فلم لا يتقرب المؤيدون إليهم بالرأي، فيعملوا سويا جادين على إجراء دراسات موسعة مدققة؛ لمعرفة مدى جدوى القيادة: أمنية، اجتماعية، ثقافية، أخلاقية، بلدية، مواصلات، صحية.
وبحسب نتائج تلك الدراسات يكون الحكم في القيادة، بناء على أن صيانة المرأة بند أساس في قانون كل مجتمع مسلم، بالأخص في مجتمع شرفه الله بخدمة ومجاورة الحرمين الشريفين، حتى لا تكون القيادة أداة ووسيلة لتحرير المرأة، والوصول بها إلى حال مثيلاتها المسلمات في البلاد العربية والإسلامية المجاورة والبعيدة، مما لا يخفى على أحد، ولا يرضي أحد.
هذا الحل على سهولته، لم يقبل به المؤيدون، وهم يصرون على مطلب إقرار القيادة من غير دراسة، أو تهيئة، أو إصلاح، هكذا بجرة قلم، يصبح الناس على وقع القيادة؟!!
لو صح أن المانعين فيهم استبداد بالرأي، فالمؤيدين ليسوا بأقل استبدادا، بل أكثر وأسوأ، فإنهم لا يتورعون عن وصف مخالفيهم بالجهل ونحوه، مع أن فيهم كبار العلماء والدعاء.
هذا التناحر جعل من قضية القيادة معركة حاسمة، من فاز بها كسب الجولة!!
وما هكذا تدار قضايا الأمة.. خصوصا بعدما انضم إلى صف المؤيدين طائفة من ذوي الاتجاه الشرعي؛ الذين لا يتهمون بتغريب الأمة، فكانوا هم والمتشبعون بالثقافة الغربية يدا واحدة، في مقابل أهل العلم والرأي والدعوة والإصلاح من كافة طبقات المجتمع.
هذا الاختلاف والتغير في مواقف هؤلاء الشرعيين، يحتاج إلى فهم؛ فالمعركة ما عادت بين تيار متدين ومستغرب، بل تيار مقاوم للتغريب، وآخر تغريبي معه شرعي يعين على التغريب من حيث لا يدري، وإن زعم أنه مدرك، وأنه لا تغريب.
وإذا كان الجميع يتفق على أن القيادة غير محرمة لذاتها، لكن يختلفون في كونها ذريعة إلى تغريب المرأة، وحلقة من حلقات التحرر، فهذا يراها ذريعة، وهذا لا يراها كذلك.
هنا ينبغي وجوبا ألا يتسرع المؤيد بنفي أن تكون القيادة ذريعة لتحرير المرأة، لمجرد تقديره الشخصي، بل يجب أن يترك الحكم للدراسات والوقائع والتجارب؛ لتثبت ذلك أو تنفيه.
فالمانع يقول: إن قيادة المرأة إنما هي أحد مشروعات التغريب الكثيرة، مثل:
الاختلاط، والتعليم والعمل المماثل للذكور، والمشاركات الرياضية، والبيع في الأسواق، والبحث في الخلاف في وجه المرأة وجلبابها، والتمثيل، وغير ذلك.
وهو يؤيد قوله بدراسات سابقة كثيرة، في دول كثيرة، وتجارب واقعة عديدة في العالم، ويخشى ويظن أن تدور العجلة ذاتها في بلادنا، على ذات النسق الذي دارت عليه في أوربا أولا، ثم في تركيا، ثم مصر والشام والعراق والمغرب حتى دول الخليج؛ لتكون النتيجة: النساء في كل مكان فيه الرجال بلا حجاب، وصداقة مع الأجنبي.
فالمانع متمسك بأدلة حية وقائمة، تدل دلالة واضحة كاشفة عن فساد المشروعات القائمة على فكرة المساواة المطلقة بين الجنسين، وما يترتب عليها من الإلغاء التام للحواجز والفوارق بينهما، فهو يحتاج إلى أدلة مضادة ومناقضة، تثبت:
أننا في السعودية، سنكون حالة استثناء مقابل سائر الدول، فلا تكون القيادة معينة ولا ذريعة لمزيد من التحرر النسوي، الذي بدأ يظهر وبقوة في مجالات شتى: في الإعلام، والعمل، والمشاركات الثقافية، والأنشطة الرياضية، وأخيرا التعليم..
والظن بكل متدين أنه حريص على منع تكرار تجربة تحرير المرأة، فهل يعجز هؤلاء المؤيدون عن الاتفاق مع الممانعين على كلمة سواء في هذه القضية: ألا تبنى الأحكام على مجرد انطباعات وآراء شخصية، أو لأجل إرضاء الدول الغربية، إنما وفق أسس علمية عملية مدروسة بحيادية تامة، من أطراف متعددة، مختلفة المشارب صادقة النية؟
الشيء الذي نراه من المؤيدين عموما، سواء كانوا شرعيين أو تغريبين، أنهم لا يأبهون لشيء إلا أن يقرروا: أن القيادة جائزة شرعا، وحق من حقوق المرأة، ولها فوائد جمة.
في آذانهم شيء مانع عن سماع وفهم ما ينبغي فعله، وهذا من شديد إعجابهم برأيهم، وابتذال وتسفيه رأي مخالفيهم، والحط من شأنهم؛ أنهم يعيشون متخلفين عن العصر.
فما كنا نسمعه من ليبرالي علماني، اليوم نسمعه من معمم، أو داعية، أو متدين، أو آخر انقلب إصلاحيا مثقفا متنكرا لماضيه أو تخصصه الشرعي، يكتب ما يطعن به في العلماء والفقهاء، ويحط من قدرهم في عناوينه ومضامينه بإعجاب وغرور بالغ.
فما أسهل تبدل المواقف، ولا بأس، فلكل وجهة هو موليها، ولكل إنسان عقل يهديه السبيل، يملي عليه أن يفكر قبل أن يقدم على تغيير، ويتخذ ميزانا به يزن المواقف، وأحسب أن كثيرا ممن تناول قضية القيادة مؤيدين لم يترووا، أو يفكروا، أو يزنوا آراءهم بأصول الشريعة وقواعدها المتعلقة بالمرأة، والتي ملأت الكتاب والسنة.
كثير من القضايا تطرأ على المرء في شئونه الشخصية، ثم بعد النظر والفحص يترجح لديه عدم صلاحيتها، فيتخلى عنها ويحذر من العمل بها، ولو كانت مباحة في نفسها.
فكيف بقضية تتعلق بما لا يقل عن مليوني امرأة، هن في سن القيادة، هل يجوز أن نتعجل إقرارها قبل أن نفهم وندرس مدى صلاحيتها، ونحن نرى الهلع السائد لكل ما هو امرأة، وأكثر وسائل الإعلام تنفخ في الغرائز، فتخرج الحرائر من البيوت هائمات؟!
إن من الموازين التي نحتاج الرجوع إليها: النظر إلى قضية المرأة من جهة كلية لا جزئية؛ أي من كافة زوايا النظر، وليس من زاوية واحدة.
فمن نظر إلى المرأة، وهي تركب سيارة حديثة، تسير لتقضي حاجتها، ثم تعود بلا عوائق، فيحكم وفقا لهذه الحالة بالتحسين والجواز، فهو ينظر من زاوية واحدة؛ حيث قصر نظره على هذه الفئة التي تملك سيارات حديثة نادرة التعطل، وأحوال مثالية ليس فيها عوائق.
والصحيح النظر إلى أحوال غالب النساء، وما يعرض لهن من مشكلات، سواء منها ما تعلق بأعطال المركبة، أو بكونها امرأة محل التطلع والرغبة من الشباب، أو ما تحتمله من تكاليف إضافية على وظيفتها الرسمية، وعملها في بيتها، كإيصال الأولاد وقضاء الحوائج.
جهة أخرى، الذين ينظرون إلى القيادة وسيلة مباحة تقضي بها المرأة شئونها، ويقفون عند هذا الحد، هم ينظرون من زاوية ضيقة، وليست واحدة فقط؛ لأنهم يهملون النظر إلى المشروع التغريبي للمرأة بالكامل، وهو مشروع قائم ويسير بوضوح؛ ومن تردد في إنكار هذه المؤامرة، فما عليه سوى النظر حوله، فقد سبقت في بلاد إسلامية أخرى، واسألوا أهلها، بل اقرءوا ما كتبوا، فإذا أتى أحد يقول: هذا هوس، ولا مؤامرة إلا في الأذهان.
فأحد رجلين؛ إما أنه تكلم في قضية دون أن يعي جوانبها، أو أنه أحد أدوات التغريب.
قيادة المرأة أحد بنود مشروع التغريب، هذا لا شك فيه، ذلك المشروع الذي قطع شوطا، وهو يمضي نحو هدفه، وقد يبلغه إلا أن يشاء الله تعالى: {وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
وإن من الموازين في الحكم على القضية: الاعتبار بأن الرجل عليه صون المرأة والقيام بشئونها، والمرأة اليوم قد تحملت عملين: في البيت، والوظيفة خارج البيت، فإذا ما قادت فعليها عمل ثالث: القيام بدور الرجل خارج المنزل: توصيل الأبناء، وقضاء حاجيات البيت.
وبهذا يفرط الرجل في الواجب عليه من القيام بشئون محارمه، بتحميل المرأة أعمالا مضافة.
ثم إنها بقيادتها تجد نفسها بمفردها بين أنواع منوعة من الرجال، ممن لهم علاقة بخدمة وصيانة وتزيين المركبات، وتعرضها في هذه الأحوال للتحرش والأذى متصور، لا يحتاج إلى إقامة شاهد ودليل، والمحرم بعيد، وبهذا يفرط في الواجب الثاني، وهو الصون والحفظ.
يقول ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «الرجل راع في أهل بيته، وهو مسئول عن رعيته».
واليوم تعاني المرأة من كل هذا، بسبب تخفف كثير من "الذكور" مما عليهم بالسائق، الذي صار محرما ورجلا في البيت، فكيف إذا ما قادت؟!
إن قيادة المرأة انطلقت – أول ما انطلقت – على أيدي فئة تعتقد بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، ونفي الفروق كافة بينهما، سواء في الواجبات أو الحقوق، وهذا مبدأ بني عليه المطالبة بالقيادة، وهو باطل بنص القرآن: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ} [آل عمران: 36]، فما بينهما مطلق المساواة (= المساواة مع وجود الفوارق)، لا المساواة المطلقة (= نفي أي نوع من الفوارق).
فبينهما فروق لا شك؛ شرعا وعقلا وفطرة، فمن ذلك: أن الذي عليه السعي لجلب الرزق هو الرجل وليس المرأة؛ لذا عليه النفقة وليس عليها، والمركبات آلات وضعت لتيسير السعي في الرزق بدل الدواب، فالذي يسعى هو الذي يقود، وهو الرجل، وسعي المرأة اليوم في الرزق كالرجل، سواء بسواء بلا أي فرق، هو قلب للشريعة والفطرة؛ وقيادتها زيادة انقلاب، فالذي هو حق للمرأة ليس أن تقود، حقها: إن كلفت بعمل خارج البيت، أن يخفف عنها.
تنبيه: المسألة تدور القيادة المقننة المنظمة في المدن والتجمعات، ليس في المناطق النائية.