اصنع ثورتك الخاصة
حاتم أبو زيد
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
ما أشدَّ حاجتَنا للقيام بفِعل ثوري على مستوى حياتِنا الشخصية! فالكثير منَّا تستغرقه تفاصيلُ صغيرة روتينية يوميَّة في قالب جامد وباهت، يقضي عمره في التحرُّكِ داخله، ويدفن قدراتِه الحقيقيَّةَ في أعماقه.
الكثيرُ منا وضَع حواجزَ وهمية، واعتقد أنَّه لا يُمكنه تجاوزها، وكانت النتيجة أنَّنا نعيش حياةً أقل بكثير مما نستحقُّ، تداهمنا مشاعرُ الحُزن المرة بعدَ الأخرى، ونُلقي باللائمة على الظروف الخارجية، حتى صدَّقْنا تلك التبريرات، واستكنَّا للحياة الراكِدة التي ألِفْناها واعتَدْنا عليها.
وقديمًا كان هذا الإيلاف والاعتياد على نمطٍ معيَّن في الحياة والعبادة والعلاقات الاجتماعية الحائلَ الأكبر الذي حال بيْن مشركي مكة وبيْن الدخول في الإسلام، وهو ذات السبب الذي يجعلنا لا نَنتفِع بالقوَّة والطاقة العظيمة الناتِجة عن أثر الإيمان في القلوب؛ لأنَّنا اعتدْنا هذا الإيمان الذي ورِثْناه، فلم نبذل جهدًا ملْمُوسًا للتفكُّر فيه، هلاَّ تأملنا هذا الأثرَ المروي عن عبد الله بن مسعود: "مَن أراد خيرَ الأولين والآخرين، فليُثوِّر القرآن، فإنَّ فيه خيرَ الأولين والآخِرين"، والمقصود التعمُّق والبحث وتقليب الأمْر على وجوهه، وبذل الجهد الحقيقي في إعمالِ العقل، كما يُثوِّر الفلاح الأرض بتَقْليبها للزراعة والحرث.
على الإنسان أن يُثوِّر حياته نفسها، فيقلبها ويتأملها استعدادًا لتنظيمها.
الكثيرُ منَّا حياتُه مبعثَرة مُضطربة، مشوشة فوضوية، لديه أفكارٌ لم تخرجْ للنور، وأفكار توقَّفت بعد أن قضَى فيها الإنسان وقتًا، وكلُّ هذا بحاجة للثورة.
الكثيرُ منَّا لديه طاقات هائلة لم يستخدمْها، أو استخدم القليل منها، فحقَّق ما حقَّق في حياته، ولو أنَّه بذَل جهدًا في استخراج هذه الطاقة الكامِنة لغيَّر وجهَ التاريخ كله.
وإذا كانتِ الأمة هي مجموعة مِن الأفراد، فكل أمَّة غنيَّة بالمستوى الذي وصَل إليه أبناؤها، فالأمَّة القويَّة الفتيَّة لديها أبناء أشداءُ، لهم عزْمٌ قوي وهمة عالية وتطلُّع للمعالي، والأمة الضعيفة المتراخية لديها أبناء يَنظُرون للسفاسف، لا يهمهم غير الاستهلاك والتَّرَف، لا يثقون في أنفسهم ولا يظنُّون أنهم قادرون على فِعل أيِّ شيء.
التاريخ شاهدٌ على هذه النوعية مِن البشر التي لا تقبل الدَّنيَّة في هذه الحياة، ولعلَّ أبا بصير رجلٌ من هذه النوعية التي ترفُض السلبية وتصنع ثورتها الخاصة.
أبو بصير رجلٌ مؤمن كان يُعذَّب في مكة، ولكنَّه صنَع المستحيل وهاجَر إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في المدينة، وكان ذلك بعدَ إبرام صُلح الحديبية بيْن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمسلمين مِن جهة، وبين مشركي قريش من جِهة ثانية، وكان مِن ضمن بنود الصلح: ألاَّ يقبل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أيَّ عناصر جديدة مهاجِرة من مكة، فيرد مَن يأتي منهم لقريش، وكانتْ تلك المعاهدة فتحًا كبيرًا للمسلمين عندَ إمعان النظر فيها، ولكن هذا لا يمنع أنَّ المسلمين شعروا للوهلةِ الأولى بغضاضة وألَم مِن بعض البنود، ومنها هذا البند، فعندما هاجَر أبو بصير للمدينة -وكان رجلاً من ثقيف حليفًا لقريش- أرسل المشركون خلفَه رجلين لطلبه؛ فسلَّمه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لهم فأوْفَى بكلمة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وسار معهم، ولكنَّه لم يستسلمْ في نفسه، وأخَذ يفكِّر في حلٍّ يخلِّصه منهم دون أن يخلَّ بعهد الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، حتى كانوا ببعضِ الطريق تحايل عليهما فقتل أحدهما، وكاد يقتل الثاني الذي فرَّ للمدينة، ثم دخَل المدينة، وقال للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: يا نبيَّ الله، قد واللهِ أوْفَى الله ذِمَّتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، ولكنه أدرك أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم سيسلمه إنفاذًا لبنود المعاهدة، ففكَّر في حلٍّ إبداعي ثَوري، فخرَج حتى أتى سِيفَ البحر، وهناك لحِق به أبو جندل، الذي سبَق تسليمه أيضًا بعد الوصية له بالصبر ولم يستسلمِ الرجلان، بل كانَا في قمَّة الإيجابية وهما يستقبلانِ كل المعذَّبين الهاربين من مكَّةَ، حتى لا يَزيدوا من حرَج المسلمين في المدينة وفي الوقت نفسه قرَّروا التدخُّلَ في مسار الأحداث بشجاعة وإيجابية، واستلهموا تجرِبةَ المسلمين عندما اعترَضوا قافلة قريش إبَّان غزوة بدر -وهكذا المبدِعون يوظِّفون الخبراتِ السابقة- وكلَّما سمعوا بعِير خرجتْ لقريش إلى الشام اعترضوها فقتَلوا رجالها، وأخذوا الأموال، وهكذا أنهكوا اقتصادَ قريش، وأثاروا في قلوبهم الرعبَ، حتى أرسلت قريش إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم تُناشِده الله والرحِم ألاَّ يُرسِل لهم المؤمنين المهاجرين، وهكذا عاد أبو بصير وأبو جندل ومَن معهم رغمَ أنف قريش، كما أجبروها أن تسقط البندَ المرفوض مِن المسلمين، وفتحوا الطريقَ لغيرهم مِن المؤمنين للهجرة بلا قُيُود.
كان أبو بصير وأبو جندل يمتلِكان عقلاً ثوريًّا إبداعيًّا، وكانَا يملكانِ جهدًا ثوريًّا إبداعيًّا، وكل منَّا يستطيع في مجاله أن يصنع فعلاً ثوريًّا في حياته أو مجال تأثيره.
أعرِف أختًا ملتزمة، وهي متزوِّجة ولديها ثلاثة أبناء، وهي سيِّدة ريفية، لديها أعمال منزلية جمَّة مِن الطحن والخبز، وغير ذلك، ولا تمتلك أيةَ أدوات منزلية حديثة، وعلى الرغم مِن ذلك لديها عزيمة ثوريَّة، فلقد راعها أنَّ الأطفال في قريتها يظلون طيلةَ اليوم يلعبون في الطرقات ويتكلَّمون بالألفاظ النابية، ودور تحفيظ القرآن على الرغم مِن وجودها لا تستغرق إلا دقائقَ، فالشيخ يقرأ لكلِّ طفل الآياتِ التي سيحفظها والطفل يردِّد خلفه، ثم ينصرف ليحفظها في البيت، ويعود في اليوم التالي ليسمِّعَها ويأخذ الآياتِ الجديدةَ وهكذا، وهو يقضي في دار التحفيظ مدَّة لا تزيد عن خمس عشرة دقيقة فقط، فقامتْ على الرغم من مسؤوليتها الضخْمة بفتْح دار تحفيظ جديدة يَقضي فيها الطفلُ ثلاثَ ساعات كاملة وَفق منهج موضوعي في الحِفظ؛ بحيث يحفظ الطفل كتاب الله تعالى في مدَّة زمنيَّة محدَّدة، وتقسم هذه الساعات بيْن تَكْرار الآيات حتى يخرج الطفل وقد حفظ المطلوب منه وبيْن تعليم مبادئ التجويد وبيْن تعليم الطفل طريقةَ القراءة الصحيحة من المصحَف؛ ولأنَّها لا تملك الوقت والجهد الكافي للقيام بهذا المشروع وحْدَها فقدْ قامت بتدريب عددٍ مِن الفتيات للقيام بهذا العمل؛ بحيث تكون كلُّ فتاة مسؤولة عن مستوى معيَّن، ثم إنَّ هذه السيدة التي قامتْ بهذا المشروع لا تتردَّد في أن تذهبَ بنفسها للمتابعة وللالتقاء بأمهات الأطفال؛ لتشجيعهم على الاستمرار، خاصَّة أيام الدراسة حيث يتراخَى الأطفالُ في الحِفظ، كما تُعطي للأمهات نصائحَ لتربية الأطفال وغير ذلك.
أليس هذا جهدًا ثوريًّا إبداعيًّا رغمَ الظروف غير المشجِّعة والمسؤوليات الضخْمة، لا عُذرَ لأحد في القعود والخمول مهما كانتِ العقبات، فنحن بحاجة للنهضة، بحاجة للثورة، بحاجة للهِمَّة، بحاجة لتجديدِ أمَّتنا مِن جديد، واستعادة المجد السليب، وكلٌّ منَّا جزءٌ مِن هذه النهضة المنشودة، فلا يستهِن أحد بنفسه، ويقلِّل منها، وليبدع في صناعة ثورته الخاصَّة.