من أجل سلامتك النفسية

منذ 2023-11-11

أدت ضغوط الحياة إلى انتشار القلق والاكتئاب، وحالات التوتر والخوف، والعديد من ألوان الأمراض النفسية، والمشاكل الاجتماعية، خاصة المتمثلة في حالات الطلاق والانفصال، أو ابتعاد الأبناء عن آبائهم، نفسيًّا أو مكانيًّا.

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:

فأنا لست طبيبًا نفسيًّا، لكني سأساعدك من خلال تجاربي، وتجارب من حولي، وقراءاتي الكثيرة في مجال علم النفس والأمراض النفسية أن تفهم كيف تحافظ على أهم جزء فيك؛ نفسك.

 

فلا يكاد يخفى على أحد في هذا العصر أن الأمراض النفسية هي أكثر الأمراض انتشارًا بين الناس، ولعل أشهرها هو مرض الاكتئاب، الذي يُهلِك صاحبه تمامًا، بل يدفعه في أسوأ حالاته إلى الانتحار وقتل النفس.

 

ولقد انتشرت جدًّا الكتب التي تتحدث عن الأمراض النفسية؛ كالاكتئاب والقلق والتوتر، وكيفية السيطرة عليها وعلاجها، خلال السنوات العشر الماضية، بل أصبحت هذه النوعية بمثابة موضة الكتب لدور النشر، وللقرَّاء، مع أن هذه النوعية من الكتب لم يظهر بهذا الشكل والتنوع إلا في الغرب، ولم يكن منتشرًا بهذا الشكل والتنوع في المكتبات العربية والإسلامية، أعني أن تكون الكتب باللغة العربية، لكن سارعت المكتبات إلى ترجمة هذه الكتب الموجهة في الأصل إلى الإنسان الغربي، وانتشرت كالفراش المبثوث في مكتباتنا العربية.

 

وانتشر في الوقت ذاته دراسةُ الطب النفسي السريري والمعرفي، وانتشرت بدورها عيادات المعالجين، مع زيادة انتشار الأمراض النفسية، وهو الأمر الذي يحتاج إلى وقفة وتأمل ومساعدة أيضًا.

 

دعونا الآن نبدأ سريعًا من دون مقدمات مطوَّلة رحلةَ سلامتك النفسية، وأول عناوين هذا الكتاب:

(1) ضغوط الحياة:

ضغط رهيب تلعبه الحياة الحديثة علينا متمثلة في سرعتها، ومحاولات كسب العيش المستمرة يوميًّا لساعات عشر تزيد أو تقل، فلا يبقى في اليوم ساعة للتفرغ لله أو حتى للترفيه؛ من أجل تأمين حياة تملؤها الزينة، بغض النظر عن ضرورة هذه الزينة، إلا أنها أصبحت – في كثير من الأحيان - أهم من ضرورات الحياة، فيدخل الإنسان بسبب جهاده لتحصيلها في مشاكل وصراعات لا حصر لها، سواء مع نفسه أو مع بيئته الداخلية كالأهل والأولاد، أو بيئته الخارجية كعمله وأقربائه وأصدقائه، كل ذلك من أجل أن يكون مشابهًا لأمثاله من الأحياء، الأثرياء خاصة، الذين يبحثون مثله عن زينة الحياة الدنيا بكل ما أُوتوا من قوة وحيلة، فمن لا يجد، يجاهد من أجل الحصول على الضرورات، وشيء من زينة الحياة، ومن كان عنده، فإنه يجاهد لتأمين ذلك وتكثيره، هذا الضغط الهائل الذي يسببه كثرة المعروض من زينة الحياة الدنيا، مع ضعف الدخل والاحتياج لسد شهوة الاستهلاك، أو العكس، وفرة المال وحالة الملل من توفر كل شيء، يسبب حالة من التوتر والقلق المستمرين، حتى يحصل الإنسان ما يريد، أو أن يجد تسلية جديدة تقضي على حالة الملل، لكن مع الأسف، بمرور الوقت، تزيد الاحتياجات، أو ربما لا يقدر الرجل على تحصيل ما يريد، وكذلك ربما يمل كل شيء حال كونه قادرًا على توفير أي شيء، فيدخل في نوبات اكتئاب، يصحبها صراعات مع النفس ومع من حوله؛ لينتهي الأمر بفشل في إدارة الأمور، وانهيار عائلي، وتحطم نفسيته على صخور زينة الحياة الدنيا.

 

ثم يكون لهذا السعي الحثيث وراء الدنيا تَبِعات خطيرة، فينسى الولد أباه وأمه خلال رحلة سعيه على نفسه وبيته، ولا يكاد يراهم أو يسأل عنهم، فيُصاب الوالدان بالإحباط والكآبة، وينسى الأب أبناءه، الصغار خاصة، في رحلة الكسب؛ ليوفر لهم احتياجاتهم، ويغفُل عن احتياجاتهم النفسية، وأنهم يحتاجون أيضًا أن يسمعهم ويتحدث إليهم ويوجههم، ويحتضنهم، القليل من يفعل ذلك الآن، فيشب الأبناء متمردين على أبويهم، مخالفين لهم، باحثين عن عوض الحرمان العاطفي في أي مصدر خارجي، متهمين الوالدين بالتقصير، وقلة الرعاية، أو أنهم لم يُلبُّوا كل طلباتهم، ولم يهيئوا لهم معيشة الملوك، ولمَ لا، وقد عوَّد الآباء الأبناء على الأخذ، وتوفير ما يحتاجونه، لا على العاطفة والعطاء وتحمل المسؤولية؟

 

ناهيك عن قطع عن انهيار العلاقات الأخرى بين الأقارب، بل بين الأصدقاء، ولأسباب كثيرة، لكن يبقى أعظمها ضغوط الكسب والإنفاق من أجل زينة الحياة الدنيا، فلا وقت لأي أحد إلا لنفسي، وإن وجدنا الوقت، فليكن في الأعياد، والمناسبات، لدقائق أو سويعات حين نضيف إلى ذلك حالة العالم من حولنا، والأخبار السلبية والمتناقضة، ومؤشرات الاقتصاد، والحالة السياسية، والأخبار المحلية المتعلقة بالجريمة والفساد والانحلال، وضياع الحق وسط أمواج لا تنتهي من الفتن، لا يجد المرء بدًّا من شعور اللامبالاة، الذي يسببه الإحباط من كل ما يدور حوله، وفي أحسن الأحوال، يحاول أن يحمي نفسه ومن يعول من كل ذلك، وربما هو يقول في قرارة نفسه أثناء ذلك: لا فائدة على أي حال.

 

نعم، أدت ضغوط الحياة إلى انتشار القلق والاكتئاب، وحالات التوتر والخوف، والعديد من ألوان الأمراض النفسية، والمشاكل الاجتماعية، خاصة المتمثلة في حالات الطلاق والانفصال، أو ابتعاد الأبناء عن آبائهم، نفسيًّا أو مكانيًّا.

 

ولا أبالغ إن قلت – كما سنرى بعد - إن ضغوط الحياة أدت كذلك إلى المرض البدني، عافانا الله وإياكم، والذي ربما يدخل بسببه المريض في حالات من الاكتئاب واليأس، تقطع بصاحبه، وبمن حوله أيضًا.

 

وأشهر أمراض ضغط الحياة الاكتئابُ، وطبقًا للإحصائيات العالمية، فإن النساء يُصَبْنَ به أكثر من الرجال، وهو في منتصف العمر أكثر منه في غيره، وله أنواع كثيرة؛ منها اكتئاب الحمل، وما بعد الولادة، والاكتئاب الموسمي، وثنائي القطب، والاكتئاب الذهاني الذي يصاحبه هلاوس أو تهيؤات أو شك، وهكذا.

 

أما الأكثر شيوعًا لأعراض ضغوط الحياة في الحقيقة هو أن يُصاب الناس بالقلق والتوتر، وفقدان التركيز والحماس، وهي إن كانت أعراضًا نفسية المفترض أنها موجودة في كل البشر، وتتفاوت من شخص لآخر، وهي أعراض طبيعية، لكن منها ما يكون شديدًا يحتاج أحيانًا إلى علاج وتدريب للسيطرة عليه.

 

ثم تكون النتيجة الطبيعية لهذه الضغوط والأوجاع النفسية هي انتشار الأدوية، والمنشطات، ووصول البعض لإدمان ذلك، لا أملك حقيقة إحصائيات دقيقة عن نسبة تعاطي الناس للأدوية والمنشطات والمخدِّرات، التي يأخذونها من دون وصفات طبية، إلا إنني أظن أنها نسبة ليست بالقليلة، فالكثير يتلهَّف من أجل أن يظل نشيطًا ساعاتٍ أطول، ومتيقظًا، أو من أجل التهدئة العامة للأعصاب، وقتل القلق والتوتر، للشعور بحالة من الاسترخاء والهدوء المصطنَعَينِ لساعات محددة، ينتهي بعدها مفعول الدواء، ليدخل بعدها الإنسان في حالة مزاجية مرتبكة وقلقة وعصبية غير محمودة على الإطلاق؛ لتكون المنشطات والمثبطات بدورها من أشهر أسباب انتشار العديد من الأمراض النفسية، المتوسطة والشديدة، بل الأمراض العضوية أيضًا، إذا تم تعاطيها على المدى الطويل، وسوف نتعرض في أحد الفصول إن شاء الله إلى قضية المنشطات والمهدئات، ومخاطرها وفوائدها.

 

(2) قضية الإيمان:

إن الذي خلق الشيء وصنعه هو أعلم به.

 

فراكب السيارة كي يحافظ عليها، تجده حريصًا أن يستعمل نوع المياه والزيوت التي ينصح بها صانع السيارة، ولا يستطيع أن يضبط أو يصلح فيها شيء إلا بعد أن يرى ماذا يقول كتيب صانعها، وإرشادات ذلك، أو يذهب بها إلى صانعها أو وكيله المعتمَد؛ لأنه أعلم بها، وبما ينفعها، ويصلحها.

 

والله عز وجل خلق الإنسان، وصوَّره، وركَّبه، وعدَّله، فسبحانه؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، بلى ربنا أنت أعلم بنا وبما ينفعنا ويصلحنا، وبما يهدينا أو يضلنا، وبما يشفي صدورنا أو يؤججها.

 

لذلك كانت قضية الإيمان هي أعظم قضايا الإنسان؛ لأن الإيمان ينير له الظلمات في الدنيا، وينجيه من عذاب الآخرة، فالمؤمن يؤمن بوجود خالقه، يدبِّر الكون كيف شاء، يرزق من يشاء بغير حساب، ويقدر على من يشاء رزقه، يمرض ويشفي، ويهدي ويضل، من لجأ إليه بصدقٍ آواه وكفاه، ومن هرب منه وكفره، تركه لوحوش الدنيا تنهش منه قطعة قطعة حتى تهلكه، ثم هو في الآخرة من الخاسرين.

 

المؤمن مطمئن، فالإيمان مشتق من الأمن والأمان، والله عز وجل جعل الملائكة تناديه يوم يموت: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27]؛ قال ابن عباس: "المؤمنة، المصدِّقة"، وقال قتادة: "هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله تبارك وتعالى"، وهو في حياته مطمئن، يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن كل ما أصاب المؤمن خير؛ كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابه خيرٌ شكر، فكان خيرًا له».

 

والمؤمن يتبع كتاب الله، ليصلح نفسه، تمامًا كما يتبع صاحب السيارة كتيب مصنع سيارته، ليحافظ عليها، ويتبع سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي النموذج العملي لتطبيق كتاب الله، فكل الهدى والخير في اتباعهما.

 

ولما خلق الله عز وجل الدنيا، جعلها دار ابتلاء وامتحان؛ لذلك لا نعيم فيها ولا سعادة تدوم، بل هي دار مشقة، وكبد وتعب، ولحظات السعادة فيها قليلة، لكنه سبحانه أعطى لمن آمن به إرشادات ونصائح كي ينجو من كدر الدنيا، فلا تهلكه، نعم... سيصيبه ما يصيب الناس، فالمؤمن يمرَض ويحزن، ويفقد أحباءه ويتألم، ولقد مرِض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجُرِح، وفقد زوجته، ومات أبناؤه في حياته، وأصابه الغم، والهم، والحزن، فهو بشر كسائر البشر، والمؤمن أيضًا بشر، يصيبه مثل ذلك، لا محالة، لكن الفارق بين المؤمن وغيره، أن مثل هذه الأعراض (الحزن، والهم، والغم، والقلق، والتوتر، والكآبة) لا تستمر معه طويلًا، ولا تصحبه إلا قليلًا، ولا تؤثر عليه فتفقده إيمانه أو تركيزه أو قدرته على السعي وإكمال حياته بالشكل المطلوب، فكل ذلك لا بد منه، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]؛ يعني: حياته معظمها يكون في مكابدة للأمور ومشاقها، وأنت تحاول جاهدًا أن تتمتع بها، فإن سألت لماذا؟ قال ربنا سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] ليرى الله أيشكر الإنسان أم يكفر، يصبر المرء أو يعصي، فالدنيا دار ابتلاء وفتنة، وليست دار راحة واستقرار، فإما أن تعمل فيها بما يُرضِي ربك، فيربط على قلبك ويعينك، وإما أن تُعرِض عنه وعن ذكره: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]، والقلق والتوتر والاكتئاب من ضنك العيش ولا شكَّ، حتى لو كان للإنسان أموال الدنيا، ولم يؤمن بالله، أصابه همٌّ وغم لا مثيل لهما، وهو الأمر الذي يدفع الكثيرين من أصحاب الدخول المرتفعة في الدول الغربية، وكذلك الملحدين، إلى الانتحار وقتل أنفسهم في النهاية، لرفضهم أو فشل وصولهم إلى الغاية الكبرى من خلقهم والهدف من الحياة، وهل تستحق الحياة كل هذا العناء؟ فلقد علموا وتيقنوا أن متاع الدنيا قليل، ولو حصلته كله، فإن شيئًا في النفوس يظل جائعًا، عَطِشًا، يريد الحياة الحقيقية؛ حياة القلوب بالإيمان.

 

والإيمان بالقدر هو أعظم أسباب سلامك النفسي، وهو أن تؤمن أن الله عز وجل خلق كل شيء وقدره تقديرًا، وجعل لكل شيء قدرًا؛ أي: وقتًا يحدث فيه، بمقدار دقيق، فالمؤمن يعلم أن الله عز وجل قدر عليه أمورًا لا بد منها، وما يحدث في كونه لا يغيب عنه سبحانه، فالقدر هو علم الله عز وجل وسره، لا ندخل فيه بجدال، ولا نسأل عنه، ولا نقول كيف يكون، أو لماذا؛ لأننا آمنَّا أن الله عز وجل حكيم عليم، لن يسألنا عن القدر، وإنما يسألنا عن أعمالنا وإيماننا.

 

تأمل هذا الحديث الذي يقول فيه أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ قط، وما قال لشيء صنعته: لِمَ صنعته؟ ولا لشيء تركته: لِمَ تركته؟))، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقًا، لم يعنِّفه رسول الله على تركه لشيء، أو فعله لشيء، ربما يذكره، كما جاء في حديث مسلم: «يا أُنَيسُ، اذهب حيث أمرتك» يذكِّره، لكن لا يعنف، لماذا؟ لأنه علم صلى الله عليه وسلم أن كل شيء بقدر، وأن الغضب من فعل فلان أو عدم فعله، لن يفيد شيئًا، ولن يغير شيئًا، وهو ما تسميه كتب علم النفس "التقبُّل"؛ يعني: إذا حدثت مصيبة لإنسان، يقول علم النفس: تقبل الأمر وتعايش معه؛ لأنه وقع ولا مفر من تغييره، فالحل كي لا تسوء حالتك أن تتقبل الأمر، وتكمل حياتك، نعم، صحيح، لكننا كمسلمين نتقبل الأمر بالرضا، وهو ما لم تدركه كتب علم النفس بعدُ، أو يشيروا إليه بعد ما توصلوا إليه، بعد بحثٍ حثيث، لكن بغير مصطلح الرضا، الأمر الذي يدلك على أن سعي الإنسان للوصول إلى الحقائق لا بد أن يقوده في النهاية إلى الفطرة السليمة، التي أرشد الله إليها في القرآن، ووضَّحتها سُنَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول: إذًا ليس فقط فكرة التقبل، ولكن الرضا والتسليم؛ وهما حقيقة الإسلام الذي يعني كمال الاستسلام لله، وأن يعلم الإنسان أن كل ذلك خير له، ليس شرًّا.

 

يعني الإنسان يكون أمام ما يصيبه من كدر الدنيا على ثلاثة أحوال:

الأول: أن تتقبل النفس ما يحدث لها، وتقول: الحمد لله، وترضى بقضاء ربها، وهذا خير الأحوال وأحسنها للنفوس، فيكون راحة لها في الدنيا، وخير جزاء يكون بمقتضاه في الآخرة، وهذا لا يكون إلا للمؤمنين.

 

الثاني: أن ترفض وتسخط، وتحزن وتغضب، فتمرض وتجحد فيقسو قلبك، وربما تكفر ربك بعد أن كنت مؤمنًا، عياذًا بالله.

 

الثالث: وهو فكرة التقبُّل في كتب علم النفس، وهي فكرة مقاربة للرضا، لكن لا تساويه؛ لأن التقبل لا يشترط أن تكون راضيًا بما يحدث لك، ولا يشترط أن تكون مؤمنًا أن رضاك له جزاء من ربك، فهو أسمى من فكرة التقبل ولا شك.

 

وفي الحديث الصحيح ((مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله واصبري» ، قالت: إليك عني؛ فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»، وهذا من أعظم أحاديث الإيمان بالقدر، فإن الفواجع تُحزِن الإنسان، ولا بأس أن تحزن وتدمع عينك، ويتألم قلبك قليلًا، لكن الإشكال أن يتمادى الإنسان في حزنه، وهو يعلم أنه لن يغير شيئًا بانهياره وبكائه، ولن يعيد من مات طولُ الحزن، وكثرةُ البكاء والعويل، والجلوس على قبره.

 

كذلك كل المصائب التي تصيب الإنسان، مهما كان حجمها، ومرارتها، لا بد أن يؤمن الإنسان أن هذا هو قدر الله فيه، وأمره بالغ سبحانه وتعالى، فما الحل معها؟

 

كان الجواب واضحًا، قصيرًا، شافيًا من رسول الله للمرأة ولنا جميعًا: ( «اتقي الله، واصبري» )؛ يعني: إنما أنتِ لله، والله خالق كل شيء، فاتقيه، يعني لا تتعرضي لغضب الله عليكِ، بسخطكِ، واعتراضكِ، ورفضكِ ما حدث، واصبري على مصيبتكِ بالإيمان، وأن ما أصابكِ بلاء، يصيب البشر، فمن رضِيَ وآمن فله الرضا، ومن سخط فله السخط.

 

ثم كانت النصيحة الثانية العجيبة والفريدة: ( «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» )، لو تأملت، لعلمت صدق هذه المقولة، وأنها من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فإن لحظة استقبال الخبر هي الفارقة، نعم، لحظة، مجرد لحظة، أقل من الثانية، حين يصطدم الخبر بقلبك وعقلك، فإن تماسكت، وصبرت، واسترجعت؛ يعني: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلمت أن ذلك قدر الله ولا رادَّ له، أصبح الأمر هينًا عليك، ربما تحزن، ويصيبك بعض الهم، لكن لا انهيار، ولا سخط، ولا مرض.

 

لحظة ينهار فيها كثيرون، إذا ما أتاه خبر خسارته لمال، أو تعرض بيته أو سيارته لحادث، أو مرض عزيز لديه، أو وفاته، لو تمالك نفسه عند الصدمة الأولى، هان عليه الكثير، ولو ترك نفسه للانهيار وعدم التصديق والإيمان، أدخل نفسه نفقًا مظلمًا لا آخر له، ابتداء من سؤال: لماذا يحدث لي هذا؟ حتى: لن أنجو من هذا، وتجد كثيرًا من الناس يصيبه داء السكري بسبب خبر، عافانا الله وعافاكم، ومنهم من يموت، فيتوقف قلبه، ومنهم من يدخل في حالة اكتئاب لا يكاد يخرج منها، كل ذلك، إنما سببه الغفلة عن الإيمان بالقدر، وعدم الصبر عند الصدمة الأولى.

 

وهذه هي أحسن طرق الصبر، وتقبل الواقع والصدمات، نعم، هناك طرق يتبعها مؤلفو كتب علم النفس؛ مثل مسألة التقبل التي أشرنا إليها، ويتدرج التوجيه ابتداء من تمارين التنفس، حتى يصل إلى الصدمات الشديدة ليوجه علماء النفس الناس إلى العلاج المعرفي السلوكي، وهو قائم على المنطق وتفكيك المشكلات، والوصول بالشخص إلى نتيجة واحدة هي التفكير العقلي والمنطقي، ثم أخيرًا إلى أطباء النفس، في المراحل العسيرة، التي تطلب علاجًا كيميائيًّا، إلى جانب العلاج النفسي.

 

نعم، تتعقد الأمور كثيرًا على النفس إذا تخلَّت عن إيمانها بربها، وإيمانها بالقدر خيره وشره، فالمشكلة إذًا مشكلة تأسيس، من أسَّس نفسه على الإيمان، لم يضره حادث، ولم تَفجَعه واقعة، ومن ترك ذلك وأهمله، وقع في شَرَكِ الهم والقلق والتوتر والخوف والكآبة، لا يكاد يفلت من واحد إلا تبِعه الآخر.

 

إذًا الاعتدال في الانفعال مطلوب، وهذا إرشاد من ربنا ابتداء في كتابه، مخاطبًا الناس في آية فذة؛ يقول عز من قائل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23]، اشتملت الآيات على أمرين؛ الأول: أن كل ما يحدث في هذا الكون إنما قدره الله عز وجل وكتبه، كما جاء عند مسلم: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فكل حادث يحدث في هذا العالم إنما هو من تقدير الله عز وجل، وهذا القدر والإيمان به واجب كما قدمنا، لا نسأل ما كتب الله لنا، ولكن نعمل بما أراد الله منا، فنحن لا نعلم ما كتب الله ولا ندري ماذا سيحدث، وإنما نعلم أنه طلب منا أن نعمل ونؤمن، وهذا ما سيسألنا عنه، وقد حسم الله هذه المسألة؛ يعني مسألة القدر والاحتجاج به، وقول البعض: إذا كان قدَّر علينا فلماذا يحاسبنا؟ وذلك في قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148، 149]، احتجَّ المشركون بالقدر، أن الله قدر عليهم ذلك، فهم مشركون بقدر الله، كما يقول العصاة: أنا عاصٍ بقدر الله، وما زال يقول ذلك حتى يموت، فيعذبه الله، فرد الله عليهم حجتهم الباطلة فقال: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]؛ يعني: من أين علمتم أني قدرت عليكم أن تكونوا مشركين، وتموتوا على الشرك؟ هل عندكم علم بذلك حقًّا؟ أخرجوه للناس أو لي؟ هل اطلعتم على اللوح المحفوظ ومعكم نسخة منه؟ بل أنتم لا تتبعون إلا ظنونكم وأنتم كاذبون، على أنفسكم وعلى الناس.

 

فلا دخل لنا بما علمه الله منا وفينا، وما قدره الله عز وجل من مصائبَ وحوادث، فلقد ترك لنا الخيار في كل شيء، هل لو عرضنا على من يحتج بالقدر على كفره أو معصيته قذارةً ما ليأكلها، هل سيأكلها؟ بل سيتركها خيارًا وإرادة وقصدًا وعزمًا، ولن يحتج بالقدر حينئذٍ.

 

الأمر الثاني: أن الله عز وجل أرشد الإنسان إلى أمر غاية في الأهمية؛ وهو الاعتدال في الانفعال: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23]؛ يعني: إذا كنت قدرت عليكم الحوادث، والرزق، وما إلى ذلك، فلا تأسَ فينقطع قلبك من أجل فوات شيء، ولا تفرح كل الفرح من أجل تحصيلك شيئًا، فإن الأمر كله بيدي، أرزق من أشاء بغير حساب، وأضيِّق على من أشاء، لحكمة عندي، فإذا ما أصابك خير أو شر، فقل: الحمد لله، فإني لا أحب هذا المختال الفخور، الذي يظن أن النعمة التي به، إنما هي من عند نفسه؛ كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78].

 

ليست النِّعَمُ فحسب المطلوب فيها الاعتدال في الانفعالات، أعطاها ربنا أو منعها، بل أيضًا في المصائب، يقول علماء النفس إن القلق والتوتر مطلوب بنسبة معتدلة؛ كي تحفز الإنسان على العمل، وتجنُّب المخاطر، فالإنسان يحزن ولا بد، بل هو مطلوب، لكن لا يخرج حزنه عن الحد المطلوب، ليتجاوز ذلك، فيؤثر في نفسية الإنسان فيمرض، فالمسألة إذًا مسألة اعتدال في الانفعال، بكى النبي صلى الله عليه وسلم وحزِن عند وفاة صغيره إبراهيم، فقال صلى الله عليه وسلم كلمة غاية في الاعتدال، ونموذج على الانفعال المطلوب: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، والله إنا بك يا إبراهيم لمحزونون»، فالقلب يحزن، والعين تدمع، وهذا لا بد وضروري، لكن لا نقول إلا ما يرضي الله قولًا لا نكفره به سبحانه، ولا نعترض به على قضائه كأن يسترجع الإنسان، ويترحم على الميت، فهو يعلم أن هذه دار ابتلاء، وليست دار فناء، وإن كان الفراق شديدًا، فاللقاء في الآخرة قريب.

 

والأمر على هذه الوتيرة، سواء فقدت عملك، أو ضاق رزقك، أو واجهتُم مشاكل أسرية، أو عكس ذلك، أن فتح الله عليك أبوابَ رزق واسعة، أو أتاك أمر لم تكن تحسبه ليحدث لك، في كل ذلك؛ الخير والشر، اعتدل في انفعالك، واستعِنْ بحمد الله، والرضا بما أتى، والعمل بطاعته في كل الحال، فإن الدنيا تعمل على تشتيت تركيز الإنسان عن طاعة الله، وهذه فتنتها، والسعيد من لم يشغله هذه التشتيت عن عبادة ربه وطاعته، وظل قلبه معلقًا بالله في الضراء والسراء.

______________________________________________________
الكاتب: محمود بن أحمد أبو مسلّم

  • 2
  • 0
  • 1,230

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً