القاعدون من المؤمنين والمجاهدون
{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما}
- الكاتب: إسلام ويب
إذا كانت أركان الإسلام والإيمان هي القاسم المشترك بين المؤمنين، فإن القيام بتفاصيل التكاليف الشرعية، ومدى الالتزام بها، هو ما يميز بعض المؤمنين عن بعض، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات؛ فقائم الليل قانتاً وساجداً ليس كنائمه، وصائم النهار صابراً محتسباً ليس كمفطره، والمتصدق على الأرملة والمسكين ليس كالبخيل الشحيح، والمجاهد في سبيل الله نصرة لدينه وإعلاء لشأنه ليس كالقاعد عن الجهاد الراكن لملذات الدنيا وشهواتها.
وقد جاء في هذا المعنى قول الباري تعالى: {{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما}} (النساء:95). ورد في سبب نزول هذه الآية بضع روايات، موضوعها واحد وألفاظها مختلفة، نذكر فيما يلي أهم ما صح من الروايات الواردة في سبب نزولها.
الرواية الأولى: روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنهما؛ قال: لما نزلت: {{لا يستوي القاعدون من المؤمنين}} ؛ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً؛ فجاءه بكتف، فكتبها، وشكا ابن أم مكتوم ضرارته؛ فنزلت: {{غير أولي الضرر}} .
هذه الرواية أصح ما جاء في سبب نزول هذه الآية، وهي رواية مختصرة تبين أن سبب نزول هذه الآية ما كان من شكوى ابن أم مكتوم -وكان رجلاً أعمى- لا قدرة له على الجهاد في سبيل الله، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاله، مبيناً أن ما يمنعه عن الجهاد، ويضطره إلى القعود إنما هو ما به من مصاب.
الرواية الثانية: روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه؛ أنه قال: «رأيت مروان بن الحكم جالساً في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا: أن زيد بن ثابت أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى علي » {{لا يستوي القاعدون من المؤمنين} {والمجاهدون في سبيل الله}} ، قال: «فجاءه ابن أم مكتوم، وهو يملها علي؛ فقال: يا رسول الله! لو أستطيع الجهاد لجاهدت -وكان رجلا أعمى-؛ فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وفخذه على فخذي، فثقلت علي؛ حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سُرِّي عنه -أي: رُفِعت عنه الشدة التي كانت تصيبه عند نزول الوحي- فأنزل الله عز وجل» : {{غير أولي الضرر}} .
هذه الرواية انفرد به البخاري، وهي لا تخرج عن سابقتها، بل تؤيدها، وتؤكدها، وتفصلها بعض التفصيل.
الرواية الثالثة: روى الترمذي في "جامعه" والنسائي في "التفسير" وغيرهما عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: {{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر}} عن بدر -المراد غزوة بدر- والخارجون إلى بدر، لما نزلت غزوة بدر، قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله! فهل لنا رخصة؟ فنزلت: {{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله}} ؛ فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر، {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما}.
هذه الرواية فيها زيادة أن المشتكي كان عبد الله بن جحش -وكان أعمى أيضاً- إضافة إلى ابن أم مكتوم، جاءا يطلبان الرخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى مبيناً الرخصة لأصحاب الأعذار عن القعود عن الجهاد، ومبيناً أن التفضيل الوارد في الآية إنما هو بين المؤمنين المجاهدين والمؤمنين القاعدين من غير عذر يحملهم على القعود.
الرواية الرابعة: عن الفَلَتان بن عاصم رضي الله عنه؛ قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأُنزل عليه -وكان إذا أُنزل عليه؛ رام بصره، مفتوحة عيناه، وفَرَّغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله- قال: فكنا نعرف ذلك منه، فقال للكاتب: اكتب: {{لا يستوي القاعدون من المؤمنين...والمجاهدون في سبيل الله}} قال: فقام الأعمى، فقال: يا رسول الله! ما ذنبنا؟ فقلنا للأعمى: إنه ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فخاف أن يكون ينزل عليه شيء من أمره؛ فبقي قائماً يقول: أعوذ بالله من غضب رسول الله، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب: {{غير أولي الضرر}} .
هذه الراوية أخرجها ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": "رواه أبو يعلى؛ ورجاله ثقات". وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة": "هذا إسناد رجاله ثقات". وسكت عليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". وصححه الشيخ الألباني في "صحيح موارد الظمآن".
والملاحظ أنه لم يرد في هذه الراوية اسم الرجل الذي طلب الرخصة في القعود عن الجهاد، لكنها وصفته بأنه أعمى صاحب عذر، وهو يريد أن يستفسر من النبي صلى الله عليه والسلام عما إذا كانت المفاضلة ها هنا تشمله وأمثاله أو لا؟
الرواية الخامسة: روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في المراد من هذه الآية؛ قال: هم قوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغزون معه؛ لأسقام وأمراض وأوجاع، وآخرون أصحاء لا يغزون معه، وكان المرضى في عذر من الأصحاء.
وثمة روايات أُخر، رويت عن أنس بن مالك، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن شداد رضي عنهم وعن سائر الصحابة أجمعين.
وهذه الروايات في مجموعها لا تعارض بينها، بل يشد بعضها أزر بعض، وهي في مجموعها تبين فضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، وأنهم في درجات فوق المؤمنين القاعدين عن الجهاد لغير عذر يبيح لهم القعود، أما أصحاب الأعذار فغير داخلين في هذه المفاضلة، بل هم معذورون في قعودهم عن الجهاد؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها؛ ولأن الأمر إذا ضاق اتسع.
- التصنيف:
- المصدر: