عـزّ يُوقِـظ عـزًّا من سباته
ما الذي يدفع الولايات المتحدة أن تُرسل حاملة طائراتها إلى المنطقة على وجه السرعة؟ ما الذي يجعل بريطانيا ترسل سفينتين هي الأخرى؟ وألمانيا تَعِد بإرسال طائرات؟ إنه خشية لحظة تتسرّب فيها روح المقاومة واليقظة إلى جسد الأمة.
ذلّ يُوقظ ذلًا من سباته بعد نصف قرن، في يوم سبتهم نفسه، ويوم عيدهم، صدمة الوقت والمكان، وصدمة القوة من منطلق الضعف، وصدمة الخذلان وهوان أجهزتهم ومؤسساتهم، وكل جُدُر القوة المُحصّنة التي يُقاتلون من خلفها.. هكذا يمكن وصف العبور الثاني، وإن كان أشد، وأعداد القتلى والخسائر تتقارب وربما تزيد.
سؤال الموت والحياة مصدر تشغيب للمتهاونين والمهوّنين من نصرٍ حقَّقته المقاومة؛ بغضّ النظر عن مآلات الأيام القادمة، منذ سؤالهم الأول عن صواريخ الحماس الأولى التي لا تكاد تُصيب شيئًا، ولا تنكأ للعدو جرحًا، ولا تُهوّن له قوة وقتها.
لسان مقالهم: ماذا تغني صواريخ حماس في مقابل آلة القتل الصهيونية؟ كم قتلاهم! وكم شهداؤنا! تتمادى وقاحتهم إلى القَدْر الذي يتم فيه وصف عمليات المقاومة وصواريخها بـ«العبثية».
ويأتي انتصار اليوم ليكون أكبر إجابة عن أصغر سؤال.
وكأن نصر المقاومة الفلسطينية اليوم، كان جنينًا في رحمها حتى حانت لحظة ميلاده لتُخْرِس كل ألسنة المتصهينين.
والحقيقة أن المسلمين لا يعرفون هزيمةً ولا فشلًا، فلا يعرف الموت لهم طريقًا؛ وذلك لأن شهداءهم أحياء عند ربهم يُرزقون، وذلك لأن قبورهم لا تقبرهم بل تزرعهم، فكل شهيد هو نواة غُرست في أرضٍ لتُثمر بعد ذلك وتُنتج آلاف الأبطال؛ كلهم يَطمح للشهادة.
نحن -المسلمين- لا تُرهبنا، ولا تُزلزل قلوبنا، النعوش التي تحمل الأجساد؛ لأننا لا ننقلهم للفناء، بل إلى مرحلة أخرى من مراحل العزّ التي عاشوا عليها، فالموت لا يجزعنا في أنفسنا ولا في أحبابنا.
نصرٌ كان يستوطن الخيال، لكنَّه صار واقعًا اليوم، نعيشه ونلمسه بأيدينا، فاليوم غزتهم المقاومة قبل أن يغزوها، وأخرجتهم قبل أن يُخرجوها، في يوم عيدهم، وفي نشوة احتفالاتهم أتتهم المنية، ترفع من حمولة النصر العسكري بالحسابات العسكرية، إلى ما هو أعمق من خسائر العدو التي ما زالت تترى إلى وقت كتابة تلك الكلمات، أو إثبات هشاشة العدو الأمنية والاستخباراتية والعسكرية.
لقد قامت حكومة نتنياهو الأخيرة على سردية دينية، ترى أن تاريخ الدولة اليهودية الماضي تعامَل مع الأغيار بشيءٍ من اللين لم يستحقوه، وحانت لحظة الحقيقة لأحزابٍ رآها المجتمع المتصهين نفسه قبل أشهر قليلة أنها متطرِّفة قبل أن يقبل بها أخيرًا في سدّة الحكم، فصارت تُطعم المجتمع من تطرُّفها وحقدها البغيض، وهو المملوء بقيح الحقد.
من هنا كانت حمولة لحظة النصر أشد ضراوة؛ إذ انفجرت نشوة النصر في وجه أشد الحكومات الصهيونية تطرفًا وأكثرها قتلًا وتشريدًا للفلسطينيين وأكثرها قربًا من السردية الدينية الصهيونية في رؤيتها للصراع مع الفلسطينيين.
أكسب النصر حالة من انتعاش ذاكرة القوة ليس لدى المقاومة ولا الفلسطينيين وحدهم، بل لدى الشعوب العربية التي تعاني من حالة إحباط شديدة من فشل عمليات التغيير التي حاولت القيام بها؛ فأعقبتها أوضاع انتكاسية شديدة الوطأة، أماتت في نفوسهم أو أوشكت أن تقطع قطرات الندى أن تصل إلى بذور الأمل في قلوبهم، إلى أن جاءت معركة طوفان الأقصى بكل نتائجها المذهلة؛ لتحيي الأمل لا في نفوس الفلسطينيين وحدهم في صراعهم مع الصهاينة، بل في نفوس الشعوب الإسلامية جميعها في صراعهم مع الباطل الذي أحاط بهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
أدرك الغرب ذلك ووعاه قبل أن نعيه نحن؛ تلك الحالة من الاصطفاف الدبلوماسي الرسمي غير المسبوق في دعم إسرائيل، إعلانات رسمية شديدة الصراحة والوقاحة في دعم الدولة اللقيطة، إعلام فاضح يغلي بالكذب ويشنّع على فعل النصر، حظر على كل وسيلة من وسائل التأييد أو الدعم للشعب الذي تصبّ فوق رأسه الطائرات قنابل الموت والهدم ليل نهار.
ما الذي يدفع الولايات المتحدة أن تُرسل حاملة طائراتها إلى المنطقة على وجه السرعة؟ ما الذي يجعل بريطانيا ترسل سفينتين هي الأخرى؟ وألمانيا تَعِد بإرسال طائرات؟ إنه خشية لحظة تتسرّب فيها روح المقاومة واليقظة إلى جسد الأمة. وإلا فلا طائرات ولا دبابات ولا مدرّعات تمتلكها المقاومة، لتكون إسرائيل في حاجة إلى هكذا أسلحة متطوّرة.
ولنا أن نتخيل أن تلك الدولة اللقيطة تسقط، ويحمل يهودها المغتصبون ركائبهم، وينفضّوا عن أرضنا بجنسياتهم التي ما زالوا يحتفظون بها إلى أوطانهم التي انحدروا منها.
ساعتها، كيف سترى الشعوب العربية والإسلامية هذا النصر التليد؟! ستتجلى الحقيقة وقتها؛ فنصر يُوقظ نصرًا من سباته، وعزّ يُورث عزمًا مضى لكنه لم يَمُت، فتُدرك ساعتها الشعوب كم هي هشَّة عروش الطغاة!
- التصنيف: