عبرة قارون
طغيانُ المالِ وسَكْرةُ الثَّرَاءِ من أقبحِ ما يسوءُ به حالُ العبدِ؛ وذلك حين تُقبلُ الدنيا عليه، ويُفتحُ له من زهرتِها، وقد تغلغلَ حبُّها في شغافِ قلبِه، والشيطانُ يَعِدُهُ ويمنِّيه ويخوِّفُه الفقرَ؛ فكانتِ الدنيا همَّه المُلازِمَ،
الحمدُ للهِ واهبِ العطاءِ، ومُسديِ النعماءِ، يَبتلي بالسراءِ كما يبتلي بالضراءِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ فاطرُ الأرضِ والسماءِ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه وصحبِه الأوفياءِ.
أما بعدُ. فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]...
أيها المؤمنون!
طغيانُ المالِ وسَكْرةُ الثَّرَاءِ من أقبحِ ما يسوءُ به حالُ العبدِ؛ وذلك حين تُقبلُ الدنيا عليه، ويُفتحُ له من زهرتِها، وقد تغلغلَ حبُّها في شغافِ قلبِه، والشيطانُ يَعِدُهُ ويمنِّيه ويخوِّفُه الفقرَ؛ فكانتِ الدنيا همَّه المُلازِمَ، وباعثَه الذي يُحرِّكُه أو يُقعدُه، والشاغلَ له عن غايةِ وجودِه، كما قال -تعالى-: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7].
هذا وقد عالجَ القرآنُ العظيمُ هذه الفتنةَ الخطرةَ بما يَحسمُ شرَّها ويُبقي خيرَها حسنةَ دنيا وآخرةٍ؛ يَنعمُ به صاحبُها إنْ تمسَّكَ بهُدى الوحيِ المعصومِ.
ومن معالجاتِ القرآنِ لهذه الفتنةِ الاعتبارُ بقَصِّ نبأِ مفتونٍ أعمتْهُ ثروتُه، واغترَّ ببَهرجِها، وحملتْهُ على البغيِ، وأَصَمَّتْ سمعَه عن نصحِ أهلِ العلمِ، حتى قادتْهُ إلى حَتْفِ الهلكةِ؛ فكان مضربَ المثلِ لمن أخسرَه مالُه الخسرانَ المبينَ؛ وذلك في نبأِ قارونَ الذي ذكرَه اللهُ في سورةِ القصصِ التي عالجتْ قضيةَ الاستضعافِ والتمكينِ، وبيانِ عاقبةِ طغيانِ المنصبِ والمالِ.
كان قارونُ من بني إسرائيلَ قومِ موسى -عليه السلامُ- الذين منَّ اللهُ عليهم بالاصطفاءِ، وبَعْثِ كليمِه، ورأى مصرعَ فرعونَ، وعاشَ فرحةَ الإنجاءِ من العذابِ المُهينِ، فلم يغنِ عنه ذلك الشرفُ شيئًا حين كانت نفسُه عَرِيَّةً من مقوماتِه. وقد أغدقَ اللهُ عليه العطاءَ الدنيويَّ من سائرِ أصنافِ المالِ التي عبَّرَ اللهُ عن كثرتِها برمزيةِ ثِقْلِ مفاتحِ الكنوزِ الخفيةِ التي أعيا حملُها جماعةَ الرجالِ الأشداءِ؛ فكيف بالكنوزِ ذاتِها، فضلًا عن المالِ الظاهرِ؟! {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76].
فهالتْهُ تلك الثروةُ، واغترَّ ببريقِ تمكينِها، وتملَّكتْ قلبَه وفكرَه وهمَّه؛ إذ كانت منتهى علمِه ومحلَّ فرحِه؛ فقادَه ذلك التعلقُ إلى نسيانِ حقيقةِ الدنيا وغيابِ حسابِ الآخرةِ، وتخلَّى عن القيودِ التي تَمنعُ من مقارفةِ القبيحِ؛ فلم يكن يردُّه مِن فِعْلِه مانعٌ من دينٍ أو حياءٍ أو عقلٍ. ومارسَ من قبيحِ القبائحِ أقبحَها؛ إذ كان يبغي على قومِه أقربِ الناسِ إليه؛ باحتقارِهم وتكبُّرِه عليهم، فضلًا عن منعِهم الحقَّ والرِّفدَ، بل بلغَ به البغيُ إلى أقصى مداه حين كفرَ برسالةِ نبيِّه وقريبِه موسى -عليه السلامُ-، كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر: 23، 24]. وكان قومُه يُمحِّضونَه النصحَ بالنهيِ عن الفرحِ ذي الأَشَرِ والبَطَرِ الحاملِ على الطغيانِ ومنعِ الحقوقِ؛ فاللهُ لا يحبُّ من كان ذا شأنَه: {لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}. ومَن فَرَحَ بغيرِ مفروحٍ به؛ استجلبَ حُزنًا لا انقضاءَ له.
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ** تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالًا
وما زال الناصحون من قومِه يَجْهدونَ النصحَ له بلسانِ الصدقِ البيّنِ؛ بأنْ تكونَ همَّتُه مصروفةً للدارِ الآخرةِ حيثُ بقاءُ النعيمِ السرمديِّ، وأنْ يُسَخِّرَ نعمةَ المالِ الذي لا بُدَّ له من مفارقتِه بإنفاقِه في وجوهِ البرِّ والإحسانِ؛ ليكونَ له زادًا يَنْعَمُ بخيرِه يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ، دون أنْ يكونَ هذا البرُّ مانعًا من الاستمتاعِ بما أحلَّ اللهُ من طيباتِ الدنيا التي تَغدو باحتسابِها عند اللهِ حسناتٍ يُثابُ عليها؛ {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]؛ فذاك سبيلُ بلوغِ الإحسانِ في العملِ والشكرِ نظيرَ إحسانِ اللهِ بالمالِ؛ {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، وحذَّرَوه من مَغِبَّةِ سلوكِ هاويةِ الفسادِ الذي طالما قادتْ إليه عمايةُ الثراءِ؛ {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، وحَسْبُك بحرمانِ المحبةِ الربانيةِ حسرةً وعذابًا وخذلانًا! ولمّا أنْ بلغَ صوتُ الحقِّ مسمعَ قارونَ انتفضتْ في نفسِه كبرياءُ الثراءِ وتناسى مُسدي النَّعماءِ، واختزلَ ردَّه في جملةٍ واحدةٍ، تَحمِلُ في طيَّاتِها باعثَ الفسادِ والبغيِ، وتَشي بسوءِ عُقباه حين جحدَ فضلَ ربِّه ورأى الفضلَ لنفسِه بحِذْقِه وحُسنِ رأيه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]؛ فكان ذلك الكبْرُ والنكرانُ حاجبًا عن تذكُّرِ مَصارعِ مَن فاقَهُ في المالِ والقوةِ، فضلًا عن الاعتبارِ بها والاتعاظِ، وصارَ إجرامُه مِن جليِّ أسبابِ العذابِ الذي لا يُسألُ عنه صاحبُه؛ {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78]، هكذا يُعمي الطغيانُ صاحبَه عن مواطنِ الاعتبارِ حتى يكونَ هو موطنَ العِبْرةِ!
عبادَ اللهِ!
وفي لحظةٍ مِن زَهْوٍ خرجَ قارونُ أمامَ قومِه مُتَبَخْتِرًا في موْكبِ زينةٍ، والأموالُ والخدمُ تُطيفُ به، وانقسمَ الناسُ إزاءَ هذه الفتنةِ حين رأوها إلى فريقين؛ فريقٍ تملَّكتْ الدنيا قلبَه حين كانت محلَّ إرادتِه ومبتغاه؛ فأعماهم حبُّ الدنيا عن رؤيةِ الحقيقةِ، وفاهتْ ألسنتُهم بمكنونِ ضمائرِهم حين تمنَّوْا عِيشةَ قارونَ مهما كانت ما دامَ له هذا الحظُّ العظيمُ من الثروةِ، دون نظرٍ إلى حكمةِ الابتلاءِ بالثراءِ، أو تأمُّلٍ لمسلكِ البغيِ والفسادِ وما يُفضي إليه من شؤمِ العاقبةِ، {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79]. والفريقُ الآخرُ ذو بصيرةٍ وصبرٍ؛ نظرَ بنورِ اللهِ الكاشفِ للحقائقِ؛ ووزنَ الواقعَ بميزانِ اللهِ الذي لا يَرُوجُ فيه بَهْرجٌ، ولا يُعظَّمُ فيه حقيرٌ، أو يُحقَّرُ فيه عظيمٌ؛ فكانت نظرتُهم للحقيقةِ لا الصورةِ الخادعةِ، فطفِقوا مذكِّرينَ قومَهم المفتونين بالحقيقةِ التي يجبُ أنْ تُستحضَرَ مع نعيمِ الدنيا ورؤيةِ أهلِه المنعَّمينَ؛ كيما يُخدعوا بها، ويصيروا من ضحاياها، {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص: 80]؛ هكذا يبرزُ دورُ العلماءِ حين تَعصِفُ بالناسِ عوادي الفتنِ، ويَبيتُ حِمَى دينِهم مُعرَّضًا للخطرِ؛ لما رأوا انجفالَ القلوبِ نحوَ تلك الفتنةِ، وعلموا بنورِ بصيرتِهم سيءَ مآلِها؛ طفِقوا مُحذِّرين لهم، ومُذكِّرين بما يجبُ أنْ تُمنّى به النفوسُ وما تسعى إليه؛ إذ المرءُ بهمتِه؛ وذلك بتذكيرِها بما يَبقى لهم، وما يكونُ فيه صلاحُ دنياهم وأخراهم حين يَظفرونَ بعظيمِ ثوابِ اللهِ وحُسنِ جزائِه إنْ هم حققُوا الإيمانَ باللهِ والتصديقَ بثوابِه والعملَ الصالحَ ذا الإخلاصِ ومتابعةِ الأمرِ المشروعِ. وقد بيّنَ -سبحانه- عظمةَ هذه النصيحةِ، وعلوَّ قدْرِها بقولِه: {وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]، مؤكِّدًا أنّ قبولَ هذه النصيحةِ والعملَ بها يَستدعي صبرًا على أداءِ الطاعاتِ وتركِ المنكراتِ والتسليمِ لما يَقضيه اللهُ على العبدِ من خيرٍ أو شرٍّ؛ إذ ثمارُ المعالي لا تُنال إلا بسلَّمِ الصبرِ.
أيها المؤمنون!
ولما لَجَّ قارونُ في طغيانِه وبغيه، وبلغَ أجلَ اللهِ الذي أمهلَه، وكان لكلِ طاغيةٍ نهايةٌ، وكان للبغيِ مَصرعٌ وخيمٌ؛ أَذِنَ اللهُ بحلولِ عذابِه على هذا العبدِ الحقيرِ؛ ليكونَ للناسِ عبرةً؛ وذلك حين خَسَفَ به وبثروتِه من دُورٍ وكنوزٍ أمامَ مَرْأى قومِه، فرأوه والأرضُ تبتلعُه وتبتلعُ ثروتَه التي لم يبقَ من أثرِها سوى الخسفِ، كما قال ابنُ عباسٍ -رضي اللهُ عنهما-: " كَانَ مُوسَى يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ بِكَذَا، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى قَارُونَ، فَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ مُوسَى يَقُولُ: مَنْ زَنَى رُجِمَ؛ فَتَعَالَوْا نَجْعَلْ لِبَغِيٍّ شَيْئًا حَتَّى تَقُولَ: إِنَّ مُوسَى فَعَلَ بِهَا؛ فَيُرْجَمَ، فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا خَطَبَهُمْ مُوسَى قَالُوا لَهُ: وَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ؟ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُ أَنَا، فَقَالُوا: فقد زَنَيْتَ! فجزعَ! فَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا جَاءَتْ عَظُمَ عَلَيْهَا مُوسَى وَسَأَلَهَا بِالَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا صَدَقَتْ؛ فَأَقَرَّتْ بِالْحَقِّ، فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا يَبْكِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَن تطيعَك؛ فَأْمُرْهَا بِمَا شِئْتَ، فَأَمَرَهَا فَخَسَفَتْ بِقَارُونَ وَمَنْ مَعَهُ " (رواه ابنُ أبي حاتمٍ وصححَه ابنُ حَجَرٍ).
وجاء في روايةِ الحاكمِ التي صححَها على شرطِ الشيخينِ ووافقَه الذهبيُّ أنَّ ابنَ عباسٍ قال: " لَمَّا أَتَى مُوسَى قَوْمَهُ أَمَرَهُمْ بِالزَّكَاةِ، فَجَمَعَهُمْ قَارُونُ، فَقَالَ لَهُمْ: جَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَجَاءَكُمْ بِأَشْيَاءَ، فَاحْتَمَلْتُمُوهَا؛ فَتَحَمَّلُوا أَنْ تُعْطُوهُ أَمْوَالَكُمْ؟ فَقَالُوا: لَا نَحْتَمِلُ أَنْ نُعْطِيَهُ أَمْوَالَنَا؛ فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَرَى أَنْ أُرْسِلَ إِلَى بَغِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنُرْسِلَهَا إِلَيْهِ، فَتَرْمِيَهُ بِأَنَّهُ أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَدَعَا مُوسَى عَلَيْهِمْ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَهُ، فَقَالَ مُوسَى لِلْأَرْضِ: خُذِيهِمْ! فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَعْقَابِهِمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا مُوسَى! يَا مُوسَى! ثُمَّ قَالَ لِلْأَرْضِ: خُذِيهِمْ! فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا مُوسَى! يَا مُوسَى! ثُمَّ قَالَ: لِلْأَرْضِ خُذِيهِمْ! فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا مُوسَى! يَا مُوسَى! فَقَالَ لِلْأَرْضِ: خُذِيهِمْ! فَأَخَذَتْهُمْ، فَغَيَّبَتْهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: يَا مُوسَى، سَأَلَكَ عِبَادِي، وَتَضَرَّعُوا إِلَيْكَ؛ فَلَمْ تُجِبْهُمْ! وَعِزَّتِي لَوْ أَنَّهُمْ دَعَوْنِي لَأَجَبْتُهُمْ "، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81]؛ خُسِفَ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى ".
هكذا هَوى في دركاتِ الأرضِ التي طالما علا فيها وطغى، وذهبَ ضعيفًا عاجزًا لا يَنتصرُ بنفسِه ولا يَنصرُه أحدٌ، وهوتْ معه الفتنةُ الطاغيةُ التي جرفتْ فئامًا من قومِه، وردَّهم ذلك المصرعُ راشدين تائبين إلى ربِّهم، وكشفَ عن قلوبِهم قناعَ الغفلةِ والضلالِ، وأبصروا عظيمَ نعمةِ اللهِ عليهم؛ إذ لم يُعاجلْهم بعقوبةِ مَن تمنَّوْا أنْ يكونوا مثلَه، وأدركوا عظيمَ حكمةِ اللهِ ببلاءِ بسْطِ الرزقِ وقَدْرِه، وخطرَ الافتتانِ بالمالِ حين يُطغي. {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 81، 82]. وهلاكُ الدنيا بالخسفِ على فظاعتِه أهونُ من خسْفِ الهلاكِ في الآخرةِ حين تُخسفُ الأعمالُ والموازينُ، وتكونُ دركاتُ النارِ هي دارَ القرارِ؛ فما غَناءُ الثروةِ حين يقولُ مَن أطغتْهُ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28، 29]؟!
لَعمركَ ما الثراءُ بمُجْدِ نفْعٍ ** إذا ما كانتِ النارُ المُقامَ
- التصنيف: