تأملات في قوله تعالى: ( فاستقم كما أمرت )
أمر الله نبيه محمدًا ﷺ ومن معه من المؤمنين أن يستقيموا كما أُمروا، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع، ويعتقدوا ما أخبر الله به من العقائد الصحيحة، ولا يزيغوا عن ذلك يَمنة ويسرة...
- التصنيفات: القرآن وعلومه - الطريق إلى الله -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فقال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112].
قال الشيخ عبد الرحمٰن بن سعدي رحمه الله: أمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين أن يستقيموا كما أُمروا، فيسلكوا ما شرعه الله من الشرائع، ويعتقدوا ما أخبر الله به من العقائد الصحيحة، ولا يزيغوا عن ذلك يَمنة ويسرة، ويدوموا على ذلك، ولا يطغوا بأن يتجاوزوا ما حدهالله لهم من الاستقامة[1].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]، وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6]، وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى: 15].
روى مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عبد الله، قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّه ثُمَّ اسْتَقِمْ» [2].
في الآيات المتقدمة أمر الله عباده بالاستقامة، وفي آيتين منها قيدها بقوله: {كَمَا أُمِرَتُ}، ولم يقل: كما أردت، فالاستقامة التي أمر الله بها لا تكون اتباعًا لأهواء الشخص، بل مقيدة بأمر الله، فما هي الاستقامة وما حدودها التي من تجاوزها لم يكن مستقيمًا كما أراد الله، بل كما أراد هو وكما زيَّنت له نفسه؟ كما قال الله تعالى عن هؤلاء أو عن هذا وأمثاله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8].
ولذلك جاء التحذير من البدع في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأطبق على النهي عن ذلك أئمة الإسلام، مع أنها ليست محرمات تنتهك ولا ذنوب ترتكب، ولكنها عبادات يريد منها أصحابها أن يتقربوا بها إلى الله تعالى، والبدعة وإن كانت دون الكفر والشرك فهي أكبر من سائر الكبائر، وإلى حدود الاستقامة فتأمل:
أولًا: الاستقامة سلوك الطريق الذي لا اعوجاج فيه، الموصل إلى الله تعالى، ولا يعرف ذلك إلا عن طريق الوحي، ولا يكون العبد مستقيمًا إلا بأمرين:
أولهما: أن يكون سويًّا في نفسه.
ثانيهما: أن يكون الطريق الذي يسلكه صراطًا مستقيمًا؛ قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].
فكما أن الطريق إذا كان وعرًا فإن الرجل وإن كان سليمًا صحيحًا فإنه لا يستطيع سلوكه، فكذلك إذا كان الطريق مستقيمًا معبدًا فإن الرجل المعاق لا يستطيع المشي فيه؛ لأنه غير سوي.
قال ابن القيم رحمه الله: والأمر الذي يستقيم به القلب، تعظيم الأمر والنهي وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذمَّ من لا يعظم أمره ونهيه؛ قال تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13].
قالوا في تفسيرها: ما لكم لا تخافون لله تعالى عظمة؟ وما أحسن ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعظيم الأمر والنهي: هو ألا يعارضا بترخص جاف، ولا يعارضا بتشديد غالٍ، ولا يحملا على علة توهن الانقياد»[3].
ثالثًا: من أعظم ما يخرج العبد عن الصراط المستقيم تتبُّع الرخص، وقد سبق الكلام على هذا في كلمة سابقة [4].
رابعًا: هذه أمثلة تشرح ما تقدم ذكره، روى البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ علَى شِقِّكَ الأيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ وَجْهِي إلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أمْرِي إلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِن لَيْلَتِكَ، فَأَنْتَ عَلَى الفِطْرَةِ، واجْعَلْهُنَّ آخِرَ ما تَتَكَلَّمُ بهِ»، قالَ: فَرَدَّدْتُهَا علَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ آمَنْتُ بكِتَابِكَ الذي أنْزَلْتَ، قُلتُ: ورَسولِكَ، قالَ: «لَا، ونَبِيِّكَ الَّذِي أرْسَلْتَ» [5].
وروى الطبراني في معجمه الكبير من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:أنه مر على أُناس في المسجد ينتظرون الصلاة وهم حلق، وفي كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى، ورجل يقول لهم: سبحوا مائة فيسبحون، كبروا مائة فيكبرون، هلِّلوا مائة فيهللون، فقال لهم: عُدوا سيئاتكم فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبلَ، وآنيته لم تُكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم، أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير! قال: وكم من مريد للخير لم يصبه؟![6].
وروى البخاري في صحيحه من حديث وهب السوائي قال: آخَى رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وأَبي الدَّرْداءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبا الدَّرْدَاءِ، فرأَى أُم الدَّرْدَاءِ متبذِّلة، فَقَالَ: مَا شأْنك مُتَبَذِّلَةً؟ قَالَتْ: إِن أَخاك أَبا الدَّرْدَاءِ ليس لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، قَالَ: فَلَمَّا جاءَ أَبو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِليه طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ فإِني صَائِمٌ؛ قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تأْكل. قَالَ: فأكل، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ قَالَ لَهُ سلمان: قم الآن، فقاما فصلَّيا، فقال: إِن لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولضيفك عليك حقًّا، وإن لأهلك عَلَيْكَ حَقًّا، فأَعط لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فأَتيا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ»[7].
وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دَخَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقالَ: ما هذا الحَبْلُ؟ قالوا: هذا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ رضي الله عنها، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فَقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ»[8].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] تفسير الشيخ ابن سعدي رحمه الله ص496.
[2] برقم 38.
[3] صحيح الوابل الصيب لابن القيم رحمه الله تحقيق الشيخ سليم الهلالي، (ص17-18).
[4] انظر: موسوعة الدرر المنتقاة 6-7 للمؤلف الكلمة رقم (50)، (ص319-324).
[5] رقم (247).
[6] المعجم الكبير (9 /127) رقم (8636) وروي بألفاظ كثيرة.
[7] برقم (6139).
[8] برقم (1150).
_________________________________________________
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي