{ ليس لها من دون الله كاشفة }
قد وردت النصوص الكثيرة التي تبين غربة الدِّين وكثرة الفتن وقلة الناصر في آخر الزمان، وحال المؤمنين آنذاك، وما ينالهم من الأجر العظيم إن صبروا واستقاموا على طاعة الله وثبتوا على الحق...
- التصنيفات: - آفاق الشريعة - نصائح ومواعظ -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فقد وردت النصوص الكثيرة التي تبين غربة الدِّين وكثرة الفتن وقلة الناصر في آخر الزمان، وحال المؤمنين آنذاك، وما ينالهم من الأجر العظيم إن صبروا واستقاموا على طاعة الله وثبتوا على الحق؛ فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» [1].
{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58]
وبيَّن للناس صلى الله عليه وسلم صفة هؤلاء الغرباء، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الل عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أُنَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ»[2].
فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنهم قلة، فكلما تمسك المؤمن بالسنة علمًا وعملًا ازدادت غربته وقل متبعوه وكثر معادوه.
قال الشاعر:
فَقَدْ كُنَّا نَعُدُّهمُ قَلِيلًا ** وَقَدْ صَارُوا أَقَلَّ مِنَ القَلِيلِ
قال سفيان الثوري: استوصوا بأهل السنة خيرًا فإنهم غرباء [3]، وقال: «إذا بلغك عن رجل بالشرق صاحب سنة، وآخر بالغرب، فابعث إليهما السلام وادع لهما، ما أقل أهل السنة والجماعة»[4].
وقال أبو بكر بن عياش: «السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان»[5].
{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58]
وقد رُوي عن الإمام أحمد أنه قال: «ما أغرب السنة وأغرب منها من يعرفها»، فهذا في زمن الإمام أحمد وهو في القرون الثلاثة المفضلة فكيف بما بعده؟!
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، يَبِيعُ قَوْمٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍمِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ، الْمُتَمَسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ أَوْ قَالَ: عَلَى الشَّوْكِ» [6].
وروى الطبراني في المعجم الكبير من حديث عتبة بن عمرو أخي بني مازن بن صعصعة - وكان من الصحابة - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»، قَالُوا: يَا نَبِيَّ الله، أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «بَلْ مِنْكُمْ» [7].
وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّهُ لمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَليْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلى خَيْرِ مَا يَعْلمُهُ لهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلمُهُ لهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِل عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيَنْزَلِقُ أَوْ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر، وَلْيَأْتِ إِلى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِليْهِ»[8].
قد يقول قائل: ما موقف المسلم وما حاله عند اشتداد الفتن، وغربة الدِّين، وكثرة المنكرات، فأقول مستعينًا بالله:
وردت نصوص كثيرة في ذلك، منها قوله تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [لقمان: 23]، قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله: «لأنك أدَّيت ما عليك من الدعوة والبلاغ، فإذا لم يهتدِ فقد وجب أجرك على الله، ولم يبق للحزن موضع على عدم اهتدائه؛ لأنه لو كان فيه خير لهداه الله، ولا تحزن أيضًا على كونهم تجرؤوا عليك بالعداوة ونابذوك بالمحاربة، واستمروا على غيِّهم وكفرهم، ولا تتحرق عليهم بسبب أنهم ما بودروا بالعذاب، فإن: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان: 23]،من كفرهم وعداواتهم وسعيهم في إطفاء نور الله، وأذى رسله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [لقمان: 23]» [9].
روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وحول الكعبة ثلاث مائة وستون نصبًا، فجعل يطعنها بعود كان بيده ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81][10].
وروى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم، فجاء به فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعه على ظهره بين كتفيه وأنا أنظر لا أغيِّر شيئًا، لو كان لي منعة لرفعته...»[11]؛ الحديث.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم[12].
قال ابن حجر: وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضهم ولا يصرِّح به خوفًا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصِّبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة [13].
فهذه النصوص السابقة تدل على أنه إذا خاف المؤمن على نفسه من الأذى كالضرب أو القتل أو الحبس، فإنه ينكر بقلبه، قال النووي: فإن خاف من ذلك على نفسه أو ماله، أو على غيره، سقط الإنكار بيده ولسانه، ووجبت كراهته بقلبه، هذا مذهبنا ومذهب الجماهير[14]؛ ا.هـ.
والمخرج من هذه الفتن التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» [15]. والصبر والثبات، والبعد عنها عصمة منها، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَتَكُونُ فِتَنٌ؛ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ» [16].
قال ابن حجر رحمه الله: في هذا الحديث التحذير من الفتنة والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها [17].
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَالِ فَلْيَنْأ مِنْهُ، مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَالِ فَلْيَنْأ مَنْهُ؛ فإنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيْهِ يَحْسَبُ أنَّهُ مَؤْمِنٌ فَلَا يَزَالُ بِهِ لِمَا مَعَهُ مِنَ الشُّبَه حَتَّى يَتْبَعَهُ»[18].
وفي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر الدجال قال: «فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، إنَّه خَارِجٌ خَلَّةً بينَ الشَّامِ والعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا»[19]؛ (الحديث).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُكثر أن يقول: «اللَّهُمَّ يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَاعلى دِيْنِكَ» [20].
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] برقم (145).
[2] (11/ 231) برقم (6650)، وقال محققوه: حديث حسن لغيره.
[3] سير أعلام النبلاء (7/ 273).
[4] اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/ 66).
[5] اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/ 66).
[6] مسند الإمام أحمد (15/ 34) برقم (9073)، وقال محققوه: حديث صحيح.
[7] معجم الطبراني الكبير (17/ 117) برقم (289)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم (494).
[8] برقم (1844).
[9] تفسير الشيخ السعدي (ص910).
[10] صحيح البخاري (2478) وصحيح مسلم برقم (1781).
[11] صحيح البخاري (240)، وصحيح مسلم برقم (794).
[12] برقم (120).
[13] فتح الباري (1/ 216).
[14] شرح صحيح مسلم (12/ 433).
[15] جزء من حديث صحيح مسلم (1218) ومستدرك الحاكم (1/ 284) وزاد: وسنتي، وصححه الشيخ الألباني۴ في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 125) برقم (40).
[16] صحيح البخاري برقم (3601)، وصحيح مسلم برقم (2886).
[17] فتح الباري (13/ 31).
[18] (33/ 107) برقم (19875)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[19] برقم (2937).
[20] (19/ 160)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم، وأصله في صحيح مسلم.
_______________________________________________________________
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي