أربع إذا كانت معك، فقد ملكت الدنيا بحذافيرها
ليعلم كل من متعه الله بالصحة، والعافية، أنه بصحته وعافيته، قد أُعطي ما لم يعطه أصحاب الأموال، والثروات، وصدق من قال: إذا عافاك، أغناك...
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
أيها المسلمون عباد الله، لقد خلق الله عباده فأحسن خلقهم، وصورهم فأحسن صورهم، ثم أخرجهم إلى هذه الدنيا؛ ليختبرهم، وليبلوهم أيهم أحسن عملًا.
كما قسَّم الله رزقه في عباده، فأعطى من شاء بفضله، وحرم من شاء بعدله، فنعم الله على عباده، لا تُعد ولا تحصى، ولكن أكثر الناس لا يشكرون، كما قال رب العالمين.
ولو تأمل الواحد منا في نعم الله عليه، وتفكر في خلق نفسه كيف جعله الله على هيئته، كيف رعاه، وحفظه في بطن أمه، ثم أخرجه إلى هذه الدنيا وتكفل برزقه، وحفظه من بين يديه، ومن خلفه، ثم حد له أجلًا ليعيش فيه حتى يلاقيه بعد ذلك؛ فيجازيه بما عمل تجاه هذه النعم الوافرة، فنعم الله كثيرةٌ، وغزيرة، ولقد أصبح الناس يئنون من حال هذا الزمان، ومن تدهور أوضاع هذه الأيام، وسُمع من بعضهم التأفف، والتضجر، والتسخط، مع أنهم لم يلاقوا عُشر معشار ما لاقاه آباؤهم، وأسلافهم من قتر العيش، ومتاعب الحياة، - نسأل الله الستر والعافية.
حريٌّ بنا في ظل هذه الغفلة التي يعيشها كثيرٌ من الناس، أمام نعم الله المنسية، أن نبرز أهمها، ونجعلها نُصب أعيننا، فإن الذي يتأمل في نعم الله على عباده، ثم ينظر في تعاملهم معها؛ ليعجب عجبًا ممزوجًا بالحسرة، والندم، وما ذاك إلا لجهلهم بحقيقتها، وبقدرها.
فحيَّ هلا بكم لنعيش في هذه اللحظات، مع هذه العبارات، وهذه الكلمات الجامعات، التي أخبرنا بها عليه الصلاة والسلام، والتي تبين لنا حقيقة الملك، وحقيقة النعم التي نحن فيها، والتي غفل عنها كثيرٌ من الناس، والله المستعان.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سربة، معافًى في جسده، عنده قوتُ يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»[1]
نسأل الله أن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، تعال معي يا عبد الله، لنتأمل في هذه الكلمات، ولنقف وقفةً تذكيرية، مع هذه العبارات، ومع هذه المفردات العظيمات، التي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: «من أصبح منكم»[2]؛ أي من أمة محمد- صلى الله عليه وسلم - إذا أصبحت مؤمنًا قائلًا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فاحمد الله، وقل بملء فيك: لك الحمد يا الله أن اخترتني، واصطفيتني من بين مليارات الناس، ووفقتني، وجعلتني من أهلها.
وتأمل بالله عليك لو لم تكن من أهلها، أين سيكون مصيرك؟ تأمل لو ولدت في بلاد الكفر، والإلحاد، وأُخرجت من صلب رجلٍ لا يعرف الإسلام، كيف يكون حالك؟ إلى أين سيكون مآلك؟ سيكون حالك معيشةً ضنكًا، وجحيمًا يتوقد في صدرك في كل وقتٍ وحين، تتمنى الموت في كل صباحٍ ومساء، وإن ملكت العقارات، والسيارات، والمليارات، وإن ملكت الدنيا بحذافيرها، وما أهل الانتحارات إلا أهل الأموال، والثروات، لماذا؟ لأنهم ما وُفِّقوا لهذه الكلمة؛ لأنهم لم يكونوا من أهل لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأنت وُفِّقت لها، وتموت عليها بإذن الله عز وجل.
هذه الكلمة التي حرمها مليارات الناس، هذه الكلمة التي حرمها أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه عمه أبو طالب، الذي كان يبذل ماله، وجاهه للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا حرَّم هذه الكلمة العظيمة، فدخل عليه رسول الله في مرض موته، وقال له: يا عم، قل: لا إله إلا الله! كلمة أشفع لك بها عند الله، وكان عنده وزراء السوء، يقولون: له أترغب عن ملة عبد المطلب يا أبا طالب؟ ستعيرك قريش، ورسول الله يقول: يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، ومع ذلك كله، ومع هذا الحرص من رسول الله على عمه، مات ولم يقلها!
فدخل العباس على رسول الله، فقال يا رسول الله: هذا عمك قد مات، فماذا أغنيت عن عمك يا رسول الله؟! قال: «يا عباس، إنه الآن في ضحضاحٍ من نار! ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» !
إذًا أحمد الله يا عبد الله، أن جعلك الله من أهل لا إله إلا الله، وإلا- والله - لكان مصيرك النار، وبئس القرار، ونعوذ بالله من النار، ولو أدخلت النار كم ستعيش فيها؟ آلاف السنين؟ ملايين؟ بلايين؟ أبدا، خالدين فيها أبدا، يكاد - والله - يطيش العقل، يوم يتفكر الإنسان بهذه الكلمة، وكم سيكون هذا الأبد؟! ملايين، بلايين، أكثر، وأكثر، خالدين فيها أبدًا!
إذن احمد الله يا عبد الله على نعمة هذه الكلمة العظيمة، ووالله لو لم يكن من شؤم وحرمان هذه الكلمة إلا الضنك، والشقاوة، وتمني الموت في كل وقتٍ لكفى، فكيف بالمصير الأبدي، والحياة النارية، الأبدية؟! عافانا الله منها.
فيا عبد الله، إذا نزل بك ما تكره، وحلَّ بك ما لا تطيقه، فتذكر نعمة الإسلام، إذا ارتفعت الأسعار، أو ضاقت معيشتك، وسكنت بالإيجار، فتذكر نعمة الإسلام، واعرف حقارة هذه الدنيا الدنيئة: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197].
فاللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض أن وفَّقتنا لهذه الكلمة، لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم!
من أصبح منكم آمنًا في سربه، وقفةٌ أخرى مع الكلمة، والعبارة الثانية، «آمنًا في سربه»[3] الأمان أمان أيها الناس، إن الأمان نعمةٌ لا يعرفها إلا من فقدها، لا يعرف الأمان إلا من أصبح، وأمسى على أزيز الدبابات، وأصوات الطائرات، فمن أعظم النعم يا عبد الله أن جعلك الله آمنًا مطمئنا، تخرج من بيتك في وقت ليلٍ، أو نهار بأمان، زوجتك، وأولادك، يخرجون، ويرجعون بأمان، تضع سيارتك في باب بيتك بأمان، تسافر لوحدك بأمان، تنام في غير مدينتك وقريتك بأمان، تترك زوجتك مدةً طويلة وأنت في غربتك بأمان، أليس الأمان نعمةً من نعم الله؟!
ولا يعرف قدرها إلا من فقدها، بعض إخواننا في بعض المدن، والدول، يصبحون، ولا يظنون أنهم سيمسون، يخرج أولادهم إلى مدارسهم يرجعون، وقد لا يرجعون، ولا تذهب بعيدًا، ربما جارك بينه وبين خصومه وأعدائه دماء، أو عِداء، ولهم في ذلك شهور، ودهور، ولعلهم قد عرفوا جميع المحاكم، والسجون، وانتقلوا من قضيةٍ إلى قضية، لا يهنئون في طعام، ولا يغمضون في منام، وأنت ما عرفت شيئًا من ذلك؛ فاللهم لك الحمد على نعمة الأمن والإيمان!
من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، العافية لا يعرفها إلا من فقدها، ونودُّ ونتمنى لو أذن لنا، أن ننطق، ونتكلم، ونعبر عن هذه النعمة، بجميع حواسنا، يوم نرى الأمراض على أسرة المستشفيات، يوم نرى أولئك الذين يتنقلون بين العيادات والسفريات؛ بحثًا عن العافية التي أنت تتقلب فيها، يوم نرى بعض الناس قد امتلأت بيوتهم بكراتين العلاجات، بل ربما يمشون وفي جيوبهم أوراق الفحوصات، وكثيرٌ منا لا يعرف شيئًا من ذلك، لا يهنؤون في طعام، ولا يغمضون في منام، بل ربما يعدون ساعات الليل لانتظار الصباح، يتمنى الواحد منهم نومةً ينعم بها، ويرتاح، فلا تعرف - أيها الصحيح - قدر العافية إلا إذا رأيت المريض! ادخل، وتأمل، وانظر، وتفكر، في المستشفيات، والعيادات، كم هم أولئك الذين يعيشون بين أنواع الأمراض، وأصنافها؟!
كم هم أولئك الذين قد سجنوا في بيوتهم سنوات، من أصحاب الشركات، والأموال، والثروات، ممن أصيبوا بالأمراض المزمنة، والأسقام المقعِدة، يتمنون، ويقولون بلسان حالهم، بل وبمقالهم: لو خيرنا الله بين أن يرد علينا صحتنا، وعافيتنا، وبين أن يأخذ منا جميع ممتلكاتنا لقبلنا، ورضينا، فاللهم لك الحمد على الصحة والعافية!
هكذا ليعلم كل من متعه الله بالصحة، والعافية، أنه بصحته وعافيته، قد أُعطي ما لم يعطه أصحاب الأموال، والثروات، وصدق من قال: إذا عافاك، أغناك.
فاحمدوا الله أيها الأصحاء على صحتكم التي تدب في أجسادكم، احمد الله أيها الصحيح على نعمة العافية، التي من خلالها تستعين بها على أمر دينك ودنياك!
بالعافية تستطع أن تدخل وتخرج، وتأكل، وتشرب، وبدونها قد لا تفعل شيئًا من ذلك، بل حتى الابتسامة، ستصعب عليك ابتسامتك، ويتعكر عليك مزاجك، بسبب مرضك، فاحمد الله على العافية!
واحمد الله إذا أصبحت وأنت تأكل بدون مشهيات، وإذا أمسيت وأنت تنام بدون منومات؛ فاحمد الله على العافية! ولنحمد الله جميعًا على الصحة والعافية. ونسأل الله أن يديمها علينا، ويجعلها عونًا لنا على طاعته، وعبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم!
عباد الله، ما زلنا معكم مع هذا الحديث العظيم الذي يبيِّن لنا قدر نعم الله علينا، وقد تكلمنا على قدر نعمة الإسلام، ونعمة الأمان، ثم نعمة الصحة والعافية، وما زال للحديث بقية، ثم ننتقل إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «عنده قوت يومه»، واسمحوا لي أن أُطيل النفس فيها، لحاجتنا إليها خاصةً في هذا الزمان، وفي هذه الأيام، لا سيما ونحن نعيش جنونًا في الأسعار، وطمعًا وجشعًا لدى التجار، من خلال الغلاء والاحتكار.
فنقول: أيها الناس، إننا نأكل في هذه الحياة لنعيش، لا نعيش لنأكل، وإن تحصيلنا للقمة عيشنا، وقوت يومنا، هو من أسباب مواصلة السير إلى ربنا، فهذه الدار ليست دارَنا.
فما بالنا نرى كثيرًا من الناس في هذا الزمان، لا تطمئن قلوبهم، ولا يقر قرارهم، إلا إذا كان عنده قوت عامه، وأعوامه، وأعوام أولاده، إلى غير ذلك من حب الدنيا، وطول الأمل الذي يعيشه كثيرٌ من الناس في هذا الزمان؛ والله المستعان.
ما بالنا نرى أناسًا حب الدنيا قد غُرس في قلوبهم، فأصبحت لا تراهم في كل وقتٍ إلا وهم يتحدثون عن الدنيا، حتى في مساجدهم التي يصلون فيها، نسأل الله السلامة والعافية، وترى بعض الناس معه ثروةٌ تعيِّشه، وتعيش أولاده، وأولاد أولاده، ومع هذا تراه يجري على الدنيا جري الوحوش، والعياذ بالله!
فيأيها المسكين، إلى أين؟! وكم ستعيش في هذه الدنيا؟ ولمن تؤمل، وتبني فيها؟! فإياك، ثم إياك، وحذار ثم حذار من طول الأمل في هذه الدنيا الدنيئة! وحمد الله على ما أنعم به عليك، وتفرغ لعبادته، إذا كان معك ما يكفيك، ووالله ما خلقت لتعمر الدنيا، ولكن لتعبرها، وخلقت لك، ولم تخلق لها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وأعظم قبحًا من هذا هو الذي يبني دنياه بالحرام، معه القوت والمسكَن، وتراه قد بنى فوق بيته من الحرام، أو أخذ أرضًا بجوار بيته ليوسعه بالحرام، وهكذا لا تراه عامًا بعد عام إلا وهو يشتري، ويبني من الحرام، والعياذ بالله!
رويدك يا مسكين، ويا قليل الدين، وحنانيك، حنانيك، فإنك والله ستموت، وسترحل عن كل ما لديك، ولن تأخذ شيئًا مما جمعته، وحصلته، ولن يبقى لك إلا ما قدمته وعملته، عماراتك، وعقاراتك، وجميع أموالك سترجع إلى غيرك، وما سيدخل منها شيءٌ في قبرك، أولادك الذين اجتهدت في تأمين مستقبلهم كما تقول في الدنيا، لن ينفعوك، ولعلك ستعذب في قبرك وهم سيتنعمون بمالك، فانتبه، ثم انتبه، «فأيما جسمٍ نبت من سحت فالنار أولى به، ولن تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة، حتى يُسأل عن ماله، من أين اكتسبه، وفيما أنفقه»، كما قال - عليه الصلاة والسلام - وترى بعض الناس عنده قوت عامه، وقوت حياته، وما معه قوت يومه، كيف ذلك؟! ترى معه من العقارات، والمبيعات، ما لو باع بعضه لكفته مع أولاده طوال حياتهم، لكنهم يعيشون في بؤسٍ وفقر، غالب أوقاتهم، فالناس يأتون له من كل مكان ليشتروا منه بعض ممتلكاته، لكنه يرفض، ويأبى أشد الإباء، ما السبب؟ قال: سيأتي زمان على هذا العقار الذي كان بكذا سيكون بكذا، وكذا، وهكذا تمر الأعوام، تلو الأعوام، وأولاده يحتاجون إلى شيءٍ من هذه الثروة التي مع أبيهم، لزوجاتهم، أو لدراستهم، وغير ذلك من ضروريات حياتهم، وربما يأتيه قبل ذلك أو يأتيهم الأجل، ونعوذ بالله من طول الأمل!
قال: عنده قوت يومه، ما هذا القوت؟ هو قدر ما يُغدِّيك، ويعشيك يا عبد الله، فإذا أصبحت مؤمنًا معافًى في جسدك عندك قوت يومك، فقد حِيزت لك الدنيا بحذافيرها.
قال أبو العتاهية رحمه الله:
رغيف خبزٍ يابسٍ *** آكله في زاويـــــــــهْ
ومصحفٌ أقـــرأه *** مستندًا لساريــــــــهْ
هو النعيم كلـــــه *** فالعفو ثم العافيـــــهْ
وقال بعضهم: إني لأصبح وما في جيبي إلا درهم، وكأن الدنيا قد حيزت لي، فإياك ثم إياك يا عبد الله أن يكون همك هو غداءَك وعشاءك:
الجوع يطرد بالرغيف اليابس *** فعلام تكثر حسرتي ووساوسي
فبعض الناس همه ما يأكله، وقيمته ما يخرجه، يفكر من حين أن يصبح ماذا سيكون الغداء اليوم؟ وما إن يفرغ من غدائه، إلا وتراه يتكلم عن موعد الأكلة الأخرى، وهكذا حال كثير من الناس؛ نسأل الله العافية!
فارفع – يا عبد الله - نفسك، واحذَر أن تشغل نفسك ببطنك، وأن تجعلها أكبر همك!
ولتعلم أن الذي يأكل ما لذ وطاب، الذي يعيش بين قتر العيش، وخشن الثياب، كلاهما يعيش على وجه الأرض، كلاهما يعيش ويتنفس، ويدخل ويخرج، بل إن من كثرت له، كثرت عليه، ومن كثُر نعيمه، عظم حسابه، والفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، أضف إلى ذلك أنه - كما قال ابن القيم رحمه الله -: «كلما كان طعامك أطيب، كان أذاك أنتن!».
ويقول الشافعي رحمه الله: «والله ما شبعت منذ ست عشر سنة! قال: لأن الشبع يقسي القلب، ويذهب الفطنة، ويجلب النوم، ويفترعن العبادة».
والأكل والشربُ لحتى تمتلي *** فإنه مفتاح باب العلــــــــل
فيها فساد الفهم والبــــــلادهْ *** وفترة الأعضاء عن العبادهْ
مر هارون الرشيد برجلٍ فقير، يظهر فقره من هيئته، ومن صورته، فتعجب هارون الرشيد من هذا الفقير، فقال الفقير: مهلًا يا أمير المؤمنين، لا تعجب مني، فو الله إني آكل كما تأكل، وألبس كما تلبس؛ أي: إنك تأكل ما يملأ بطنك، وتلبس ما يستر جسمك، وأنا أنا كذلك، وبغض النظر عن نوع هذا المأكول، والملبوس، ثم قال له: غير أنك يا أمير المؤمنين ستُسأل ولا أُسأل، فبكى هارون الرشيد رحمه الله!
معاشر المسلمين، والمسلمات، السعادة ليست - والله - بالمأكل، والمشرب، والراحة ليست بطيب الملبس، وجمال المسكن، فكم من رجل قد مُلئ بيته بما لذ وطاب، ومع ذلك يعيش في قسوةٍ، وضنكٍ، واكتئاب، بل وعذاب لا يعلمه إلا رب الأرباب، وكم من رجل ما معه من الطعام إلا غداؤه، وعشاؤه، وهو في سعادةٍ لا يجدها الملك وأبناؤه.
فالراحة، والسعادة – والله - ليست إلا في طاعة الله: {منْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. المال والدنيا ليسا علامةً ولا دليلًا على رضا الله وحبه لعبده، بل إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، وإلا بالله عليك انظر وتأمل إلى حال أكرم خلق الله على الله، رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر كيف كان يعيش في هذه الدنيا، فقد روى مسلمٌ رحمه الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: لقد رأيت نبيَّكم صلى الله عليه وسلم يظل يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه[4].
وروى البخاري ومسلم رحمهما الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما شبع آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين، حتى قبضه الله!» [5].
وروى البخاري ومسلم عن عروة عن عائشة أنها كانت تقول: «والله يا بن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهِلة، وما أُوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار! قلت: يا خالة، فما كان يعيِّشكم؟! قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنّه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا»[6].
وروى البخاري رحمه الله أن أبا هريرة رضي الله عنه: «مر بقومٍ بين أيديهم شاةٌ مصلية، فدعوه فأبى أن يأكل، وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير»[7].
ويقول أيضًا كما روى البخاري: «والذي لا إله هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد رأيتني وإني لأخِرُّ فيما بين منبر رسول الله إلى حجرة عائشة مغشيًّا عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنون، والله ما بي من جنون؛ وما بي إلا الجوع!» [8].
بالله عليكم هل نذكر يومًا من الدهر أننا قد سقطنا من الجوع؟ لو سئلنا، أو سئلت يا عبد الله، ما هي أصعب الظروف التي مرت بحياتك؟ ربما سيقول الواحد منا: ذلك اليوم الذي تغديت فيه على كذا، وكذا، أو عندما نمت مع أولادي مرةً من المرات بدون عشاء، قلت لك أبو هريرة كان يُصرَع من شدة الجوع، قلت لك أبو هريرة يربط بطنه بالحجارة، ومع ذلك ما ضر أبا هريرة أن تعب، وجاع، فها نحن نذكر أبا هريرة في المنابر والدروس والمجامع، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وروى الترمذي وصححه الألباني رحمهما الله: عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان إذا صلى بالناس يخر رجالٌ من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى يقول الأعراب هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم، فقال: «لو تعلمون ما لكم عند الله، لأحببتُم أن تزدادوا فاقةً وحاجة»[9].
والله إن الفقر قد يكون خيرًا لبعض الناس؛ فإن من عباد الله من لو أغناه الله لأفسد دينه!
وروى الترمذي وصححه الألباني رحمهما الله عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون ما يملأ بطونهم، وكان أكثر خبزهم الشعير» [10].
رسول الله، خير خلق الله، يبيت ليالي بدون عشاء، اسمع يا من ليس لك همٌّ إلا ما يدخل في بطنك، ولو بالحرام! اسمع يا من تأكل من هنا ومن هناك، وتدخل إلى بيتك الحلال، والحرام، وأهم شيء أن تأكل مع أولادك، انظر كيف عاش رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وروى البخاري رحمه الله عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله، حتى قبضه الله، فقيل له: هل كان لكم في عهد رسول الله مناخل؟ قال: ما رأى رسول الله منخلًا من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله، قيل كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه، وننفخه، فيطير ما طار، وما بقي ثريناه فأكلناه» [11].
هكذا فلتكن الحياة، هكذا عرف محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابه حقيقة وحقارة هذه الدنيا الدنيئة، هذا هو زاد رسول الله من هذه الدنيا، والآخرة خير وأبقى.
فاقتدوا - رحمكم الله بنبيكم - ولا تحملوا الدنيا فوق رؤوسكم، واعلموا أنكم عنها راحلون، وانظروا:
وانظر إلى من حوى الدنيا وزينتها *** هل راح منها بغير الحنط والكفن
أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا غاية رغبتنا، ونسأل الله أن يقنعنا بما رزقنا، ويكفينا ما أهمنا....
[1] رواه الترمذي (2346).
[2] رواه الترمذي (2346).
[3] رواه الترمذي (2346).
[4] رواه مسلم (2977).
[5] رواه البخاري (5423)، ومسلم (2970).
[6] رواه البخاري (2567)، ومسلم (2972).
[7] رواه البخاري (5414).
[8] رواه البخاري (6452).
[9] رواه الترمذي (2368).
[10] رواه الترمذي (2360).
____________________________________________________
الكاتب: يحيى بن حسن حترش