تفسير آيات إفساد بني إسرائيل في الأرض مرتين

قال الله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 4 - 8].

بنو إسرائيل هم أولاد النبي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فيعقوب هو إسرائيل، وكان له اثنا عشر ابنا، وهم يوسف وإخوته[1]، فجميع نسلهم هم بنو إسرائيل، وكان منهم أنبياء وصالحون، وأكثرهم فاسقون، كما قال الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 112، 113].

وقد فَضَّل الله بني إسرائيل على العالمين في زمانهم، وكثر فيهم الأنبياء، كموسى وأخيه هارون، وداود وابنه سليمان، وأعطى الله بني إسرائيل ملكا عظيما، كما قال الله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54]، وقال الله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]، ولكنَّ بني إسرائيل كفروا وتمردوا، ولم يشكروا الله على ما أعطاهم من نِعَمٍ دينية ودنيوية، وجحدوا الحق وهم يعلمونه، فغضب الله عليهم ولعنهم، واستحقوا عذابه في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية: 16، 17].

وأول فساد في الأرض وعلو لبني إسرائيل كان بعد عهد النبي موسى عليه الصلاة والسلام بزمن طويل، وكان تحديدا بعد موت النبي سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، الذي أعطاه الله مُلكا عظيما، فكفر أكثر بني إسرائيل وعصوا، وبلغ من طغيانهم أنهم اتهموا النبي سليمان بالكفر، فسلط الله عليهم من أهلكهم عقوبة لهم، ثم رحمهم الله بعد ذلك، وأعاد لهم دولة وقوة، فأفسدوا في الأرض مرة أخرى في عهد الأنبياء زكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، فقتلوا يحيى بن زكريا، وقيل: إنهم قتلوا أيضا زكريا، وأرادوا قتل عيسى، فرفعه الله إليه، وطهره الله منهم، وبلغ اليهود في ذلك العهد مبلغا عظيما في الكفر والطغيان، فسلَّط الله عليهم من أهلكهم مرة أخرى، وقد ذكر الله في التوراة التي أنزلها الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم هذين الإفسادين من بني إسرائيل وما سيكون عليهم بعده من عقوبة لهم، وذكر الله ذلك في القرآن الكريم فقال تعالى:  {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}، ومعنى الآية كما قال المفسرون: أي: وأعلمنا بني إسرائيل في التوراة بما سبق في علمنا من إفسادهم في أرض الشام مرتين عظيمتين بالكفر والمعاصي ومخالفة أحكام التوراة. ولتستكبرن - يا بني إسرائيل - على الله بمخالفة أمره وتتجبروا على عباده، وتعتدوا عليهم استكبارا وطغيانا شديدا[2].

وقد اتفق المفسرون القدامى على أن هاتين المرتين من الإفساد قد وقعتا من بني إسرائيل، ونقل ابن جرير الإجماع على أن المرة الثانية هي فسادهم الذي وقع فيه قتل النبي يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام، قال ابن جرير: "وأما إفسادهم في الأرض المرة الآخرة فلا اختلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا"[3].

وقال ابن تيمية: "كانت الأولى بعد سليمان، وكانت الثانية بعد زكريا ويحيى والمسيح لما قتلوا يحيى بن زكريا الذي يسميه أهل الكتاب يوحنا المعمداني"[4].

وذهب بعض المفسرين المعاصرين إلى أقوال مختلفة، بعضها محتمل، وبعضها بعيد جدا، فمن ذلك:

ذهب سعيد حوى إلى أن الفساد الأول هو الذي سلط الله عليهم بسببه بختنصر، والفساد الثاني هو بعد تفرقهم في الأرض كلها إلى وقتنا الحاضر حيث سيطروا بخفية على بعض بلدان العالم، واجتمع لهم سلطان ودولة[5].

قال سعيد حوى: "النص يحدثنا عن إفسادتين لبني إسرائيل يرافقهما علو كبير، وهذا مهمّ جدا في فهم هذا الموضوع، لقد أفسد بنو إسرائيل إفسادات كثيرة، ولكن لم يرافق كل ذلك علوّ كبير لهم ودولة، كما أنهم قد علوا علوّا كبيرا في مراحل كما حدث في زمن داود وسليمان عليهما السلام، ولكنه علو لا يرافقه فساد، ولعل ما هم فيه الآن نموذج على علو وفساد: فها هم لهم دولة، وهاهم لهم سلطان وهيمنة عالميان، وهم يستعملون ذلك في إفساد كل شيء"[6].

وذهب الشعراوي إلى أن الفسادين كلاهما في ظل الإسلام، فالفساد الأول هو ما حصل من اليهود المعاصرين للنبي محمد صلى الله عليه وسلم من تكذيبه ومحاربته، والفساد الثاني هو الموجود في عصرنا من قيام دولة لهم في فلسطين"[7].

والراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه المفسرون الأولون، وهو أن المرتين من إفساد بني إسرائيل قد وقعتا، ويدل عليه ما سيأتي من قوله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8]، ففيه إشارة إلى تكرر الإفساد منهم في الأرض أكثر من مرتين، وإنما ذكر تلك المرتين في الكتاب - والله أعلم - لكونهما إفسادين عظيمين واقعين من بني إسرائيل، وأما الإفساد العظيم الحاصل من اليهود في عصرنا الحاضر فليس حاصلا من بني إسرائيل، فأكثر اليهود المعاصرين ليسوا من نسل النبي يعقوب (إسرائيل)، فكثير منهم أصلهم من الخَزَر أو الأرْمَن أو الروس أو الأوربيين وغير ذلك من الأمم، ثم إن كثيرا من اليهود المعاصرين ملاحدة لا يؤمنون أصلا بالله ولا باليوم الآخر، ولا بالأنبياء، ولا حتى بموسى عليه الصلاة والسلام، وكثير منهم يُصرِّحون بأنهم علمانيون، وهم في نظر اليهود المتمسكين بدينهم المحرَّف مرتدون[8].

قال الدكتور المتخصص في تاريخ اليهود عبد الوهاب المسيري: "يوجد ملايين من اليهود الملاحدة أو غير المكترثين بالدين الذين يسمون أنفسهم مع هذا يهودا!"[9].

وقال المسيري أيضا: "اليهودية كتركيب جيولوجي تراكمي تحوي داخلها طبقات عقائدية غير متجانسة بل متعارضة... بل أصبح بإمكان اليهود الملاحدة أن يؤدوا الشعائر دون الإيمان بالإله!"[10].

وقال الدكتور المسيري أيضا: "يرى دعاة الصهيونية الإثنية العلمانية أن أزمة المجتمع الصهيوني ليست كامنة فيه، وإنما في وجود هذه الكتلة البشرية اليهودية المتمسكة بالعقائد الدينية الجامدة والآخذة في التكاثر، وهم يرون أن عصر النظام العالمي الجديد وما بعد الحداثة يتيح فرصة ذهبية أمام الدولة الصهيونية لتعقد تحالفات مع أعضاء النخب الحاكمة ضد الأصوليات الدينية، إسلامية كانت أم يهودية، وهذا المنطق ينطوي على خلل أساسي، فالدعوة لإسرائيل الكبرى ـ على سبيل المثال ـ ليست مقصورة على المتدينين الجامدين، وإنما تضم عدداً كبيراً من الملاحدة، أو اليهود الإثنيين كما يسمون أنفسهم، وإيريل شارون ونتنياهو قد يرتدون غطاء الرأس اليهودي، ولكنهم لا يؤمنون بالإله، ولا يقيمون أبسط الشعائر اليهودية، وحينما يفعلون ذلك فإنهم يفعلونه من قبيل التمسك بالفلكلور[11]، وحروب إسرائيل ومشروعها الاستيطاني تمت تحت ألوية الصهيونية الإثنية العلمانية، المتطرفة في علمانيتها"[12].

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}.

اتفق المفسرون القدامى أنَّ هؤلاء المسلَّطين على بني إسرائيل قوم كفار، قال السعدي: "اختلف المفسرون في تعيين هؤلاء المسلَّطين إلا أنهم اتفقوا على أنهم قوم كفار"[13].

ولا حاجة لتعيين أولئك القوم الكافرين الذين سلَّطهم الله على بني إسرائيل في المرة الأولى التي وقع فيها فساد وعلو من اليهود، قال الفخر الرازي: "اعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلَّط عليهم أقواما قتلوهم وأفنوهم... والله أعلم بأحوالهم، ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام"[14].

ولا يُشكِل على هذا أن الله سبحانه وصف الذين بعثهم على بني إسرائيل بأنهم عباد له، فكل الخلق عباد لله مسلمهم وكافرهم، كما قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم: 93، 94].

قال ابن عاشور: "البعث مستعمل في تكوين السير إلى أرض إسرائيل وتهيئة أسبابه حتى كأن ذلك أمرٌ بالمسيرِ إليهم كما في قوله: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]، وهو بعثُ تكوينٍ وتسخير، لا بعثٌ بوحي وأمر"[15].

ومعنى الآية كما قال المفسرون: فإذا حان وقت عقوبتكم - يا بني إسرائيل - على أول الإفسادين أرسلنا إليكم جندا من خلقنا أصحاب قوة شديدة، فطاف الجنود الذين سلَّطهم الله على بني إسرائيل بين بيوتهم يبحثون عنهم ليقتلوهم، وكان تسليط الله على بني إسرائيل الجنود الذين يقتلونهم ويدخلون بيوتهم قضاء كائنا لا بد من وقوعه[16].

قال ابن تيمية: "بيت المقدس خُرِّب مرتين، فالخراب الأول لما جاء بختنصر وسباهم إلى بابل وبقي خرابا سبعين سنة، والخراب الثاني بعد المسيح بنحو سبعين سنة،... فبعد الخراب الثاني تفرقوا في الأرض ولم يبق لهم مُلك"[17].

وقال ابن عاشور: "هذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين: حوادث بينهم وبين البابليين، وحوادث بينهم وبين الرومانيين... فالمرة الأولى هي مجموع حوادث متسلسلة تُسمَّى في التاريخ بالأَسْر البابلي، وهي غزوات بختنصر ملك بابل وآشور. والغزو الأول كان سنة 606 قبل المسيح، أسر جماعات كثيرة من اليهود، ويُسمَّى الأَسْر الأول. ثم غزاهم أيضا غزوا يُسمَّى الأسر الثاني، وهو أعظم من الأول، كان سنة 598 قبل المسيح، وأسر ملِك يهوذا وجمعا غفيرا من الإسرائيليين، والأسر الثالث المبير سنة 588 قبل المسيح، غزاهم بختنصر، وسبى كل شعب يهوذا، وبقيت أورشليم خرابا يبابا،... وأما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلاد أورشليم"[18].

وذهب بعض المفسرين المعاصرين إلى أقوال أخرى محتملة، وبعضها بعيد، فمن ذلك ما يلي:

ذهب سيد طنطاوي إلى أن المسلَّط على بني إسرائيل في المرة الأولى هم جالوت وجنوده، وفي المرة الثانية هم الرومان بقيادة تيطس سنة 70 م[19].

وذهب أبو بكر الجزائري إلى أن المسلَّط على بني إسرائيل في المرة الأولى هم جالوت وجنوده، وفي المرة الثانية هم بختنصر وجنوده[20].

وذهب سعيد حوى إلى أن المسلَّط على بني إسرائيل في المرة الأولى هم بختنصر وجنوده، وأن المرة الثانية لم تقع إلى الآن، وسيسلط الله على بني إسرائيل المسلمين[21].

وذهب الشعراوي إلى أن المسلَّط على بني إسرائيل في المرة الأولى هم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في أول الإسلام، وأن المرة الثانية لم تقع إلى الآن، وسيسلط الله على بني إسرائيل المسلمين[22].

والراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه أكثر المفسرين، وتقدم تحقيقه في كلام ابن تيمية وابن عاشور، وهو أن المسلَّط على بني إسرائيل في المرة الأولى بختنصر البابلي، وفي المرة الثانية الرومانيون، ويدل عليه أن الله سبحانه أخبر أن بني إسرائيل إن عادوا إلى الإفساد في الأرض بعد تلك المرتين فسيسلط الله عليهم من يشاء من عباده، وهذا هو الموافق لظاهر القرآن وللواقع والتاريخ، قال الله تعالى عن بني إسرائيل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167]، فسلَّط الله عليهم بعد تلك المرتين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فنصرهم على يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وأهل خيبر وفدك، وغيرهم من اليهود الذين كانوا في المدينة النبوية وما حولها[23]، ثم سلط الله عليهم المسلمين بعد ذلك في عهد الخلفاء الراشدين والدول الإسلامية التالية لهم، فكان المسلمون يأخذون من اليهود الجزية وهم أذلة، وعاشوا في ظل حكم المسلمين قرونا عديدة، إلى أن وقع من اليهود هذا العلو العظيم والإفساد المستطير في عصرنا الحاضر بمعاونة ودعم كثير من الدول النصرانية وغيرها والقوى العالمية العلمانية الملحدة، قال الله سبحانه عن اليهود المغضوب عليهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 112]، ولا زال الله سبحانه يسلط على اليهود المسلمين المستضعفين في أرض فلسطين، تحقيقا لوعد الله في قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167]، وسيسلط الله عليهم المسلمين في آخر الزمان فيستأصلونهم كما جاء في الأحاديث الصحاح، منها حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقاتلكم اليهود فتُسلَّطون عليهم، حتى يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله»[24].

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}

أي: ثم أعدنا لكم - يا بني إسرائيل - الغلبة ونصرناكم على أعدائكم لـمَّا تبتم وأطعتم الله ورسله، وأعطيناكم الأموال والبنين بزيادة وكثرة، وصيَّرناكم أكثر جندا من أعدائكم[25].

قال ابن عاشور: "رجوع بني إسرائيل إلى أورشليم كان بتغلب ملك فارس على ملك بابل، وذلك أن بني إسرائيل بعد أن قضوا نيفا وأربعين سنة في أَسْر البابليين، وتابوا إلى الله وندموا على ما فرط منهم؛ سلَّط الله ملوك فارس على ملوك بابل الأشوريين، فإن الملك كورش ملك فارس حارب البابليين وهزمهم، فضعف سلطانهم، ثم نزل بهم داريوس ملك فارس وفتح بابل سنة 538 قبل المسيح، وأذن لليهود في سنة 530 قبل المسيح أن يرجعوا إلى أورشليم، ويجددوا دولتهم، وذلك نصر انتصروه على البابليين إذ كانوا أعوانا للفرس عليهم"[26].

﴿ { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}

أي: إن آمنتم وأطعتم الله - يا بني إسرائيل - فبإحسانكم تنفعون أنفسكم في الدنيا والآخرة، فيزيدكم الله من الرزق والقوة، ويدافع عنكم، ويدخلكم الجنة. وإن كفرتم وعصيتم الله فعلى أنفسكم ضرر إساءتكم، فيسلط الله عليكم في الدنيا أعداءكم، ويعذبكم في الآخرة. فإذا حان وقت عقوبتكم - يا بني إسرائيل - على إفسادكم في المرة الثانية بعثنا عليكم أعداءكم ليفعلوا بكم ما يُقبِّح وجوهكم بقتلكم وقهركم، وسبي نسائكم وأولادكم، وأخذ أموالكم وتشريدكم. وليدخل الجنود المسجد الأقصى كما دخلوه في المرة الأولى حين عاقبناكم على إفسادكم الأول، فدخلوا المسجد بالغلبة، وخرَّبوه، وليدمر الجنود الذين سلطناهم عليكم - يا بني إسرائيل - كل ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرا، فيخربوا مسجد بيت المقدس وبيوتكم ومزارعكم[27].

أخبر الله في هذه الآية عما قضاه على بني إسرائيل في التوراة من وعدهم بالخير إن آمنوا واتقوا الله، ولكنهم أساءوا العمل فاستحقوا عقوبة الله، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْمِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 65، 66].

وقد ذكر الله في أول سورة الإسراء المسجد الأقصى فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، ثم ذكر المسجد في هذه الآية التي تحدثت عن عقوبة الله لبني إسرائيل على الإفساد الثاني الواقع منهم، وهو المسجد الأقصى بإجماع المفسرين، وقد ذكر المؤرخون والمفسرون والمتخصصون أن بيت المقدس خُرِّب مرتين، الخراب الأول على يد بختنصر البابلي، والخراب الثاني على يد الرومانيين، وبعده تفرق اليهود في الأرض وتشتتوا، ولم يبق لهم مُلك[28]، كما قال الله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، ومن اليهود في عصر الشتات من كان صالحا متمسكا بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، منتظر بعثة النبي محمد المبشر به في كتابهم ليؤمن به، ومنهم من أدرك بعثته فآمن به كعبد الله بن سلام سيد اليهود في المدينة النبوية، ولا تزال قلة قليلة جدا من اليهود يتوبون إلى الله، ويعلنون الإيمان بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام وبالقرآن الكريم، وأنه نسخ شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، ويتبرءون من دين اليهود المحرَّف، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص: 52، 53]، وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وغالب علماء اليهود يكتمون الحق وهم يعلمون، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146]، وأكثر اليهود لا يعلمون ما في التوراة، ولا يتأملون ما فيها من تحريفات واضحة، ولا يفهمون ما فيها من البشارات بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78]، ومن البشارات التي تزال موجودة في التوراة التي بأيدي اليهود:

ورد في سِفْر التثنية ما نصه: (قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا. أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به)[29].

وفي سفر التكوين: (حتى يجيء الذي له الكل، وإياه تنتظر الأمم)[30].

وأكثر اليهود معرضون عن القرآن الكريم، مع وجود كتب ترجمات معاني القرآن بلغاتهم المختلفة، واليهودي إذا قرأ القرآن الكريم يتفاجأ من كثرة ذكر موسى صلى الله عليه وسلم في أكثر من مائة موضع في القرآن الكريم، والمنصف منهم يعلم أن في القرآن بيان الحق والهدى، وأن فيه ما يبين لهم الصواب في أكثر ما يختلفون فيه، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76].

فائدة: ذهب الشعراوي إلى أن المراد بهذه الآية دخول المسلمين المسجد الأقصى فاتحين كما دخلوه أول مرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال الشعراوي: "قوله تعالى: {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: أن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصى وسينقذونه من أيدي اليهود،... دخول المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن الأقصى وقتها في أيدي اليهود، بل كان في أيدي الرومان المسيحيين. فدخوله الأول لم يكُنْ إساءةً لليهود، وإنما كان إساءة للمسيحيين، لكن هذه المرة سيكون دخول الأقصى، وهو في حوزة اليهود، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى، ونُطهِّره من رِجْسهم"[31]. والراجح - والله أعلم - في تفسير الآية ما تقدم، ويدل عليه ما سيأتي من إخبار الله أن اليهود إن عادوا إلى الفساد بعد تلك المرتين عاد للانتقام منهم، ولا بد من وقوع ما ذكره الله ورسوله من تعذيب اليهود بأيدي المسلمين، بسبب رجوع اليهود إلى الفساد والعلو في الأرض، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}.

أي: لعل الله - يا بني إسرائيل - يرحمكم بعد انتقامه منكم، فيُعزكم بعد ذِلَّكم، ويجعل لكم دولة وقوة. وإن رجعتم إلى الإفساد في الأرض بالكفر والمعاصي بعد رحمتي لكم انتقمت منكم في الدنيا، فسلطت عليكم مرة أخرى من يقتلكم ويذلكم، وجعلنا نار جهنم للكافرين فراشا يُحبسون فيها، ولا يستطيعون الخروج منها أبدا[32].

قال ابن جُزي: "وقد عادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته يقتلونهم ويذلونهم إلى يوم القيامة"[33].

كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167].

وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].

وقال عز وجل: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 26، 27].

وقال الله سبحانه: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا * وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 21 - 23].

فوائد وهدايات من الآيات:

1- قال سيد طنطاوي: "فإن قال قائل: وما فائدة أن يخبر الله تعالى بني إسرائيل في التوراة أنهم يفسدون في الأرض مرتين، وأنه يعاقبهم على ما كان منهم من استعلاء وطغيان، بأن يسلط عليهم من يذلهم ويقهرهم ويقضى عليهم؟ فالجواب: أن إخبارهم بذلك يفيد أن الله عز وجل لا يظلم الناس شيئا، وإنما يعاقبهم على ما يكون منهم من إفساد، ويعفو عن كثير، وأن رحمته مفتوحة للعصاة متى تابوا وأنابوا وأصلحوا مِن شأن أنفسهم. وهناك فائدة أخرى لهذا الإخبار، وهو تنبيه العقلاء في جميع الأمم أن يحذروا من مواقعة المعاصي التي تؤدي إلى الهلاك، وأن يُحذِّروا أممهم من ذلك، ويُبصِّروهم بسوء عاقبة السير في طريق الغي، حتى لا يُعرِّضوا أنفسهم لعقاب الله عز وجل"[34].

2- قال أبو زهرة: "يلاحظ أنه ذكر الفساد مرتين، ولم يذكر عدد العلو؛ لأنه لا عدد له إن وُجِدت أسبابه"[35].

3- قال الفخر الرازي: "لما عصوا سلط عليهم أقواما قصدوهم بالقتل والنهب والسبي، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة، وأعاد عليهم الدولة، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصروا على المعصية فقد أساءوا إلى أنفسهم"[36].

4- قال ابن تيمية: "نصر الله وإظهاره هو بسبب اتباع النبي، وأنه سبحانه يريد إعلاء كلمته ونصره ونصر أتباعه على من خالفه، وأن يجعل لهم السعادة، ولمن خالفهم الشقاء، وهذا يوجب العلم بنبوته، وأن من اتبعه كان سعيدا، ومن خالفه كان شقيا، ومن هذا ظهور بختنصر على بني إسرائيل فإنه من دلائل نبوة موسى إذ كان ظهور بختنصر إنما كان لما غيروا عهود موسى، وتركوا اتباعه، فعوقبوا بذلك، وكانوا إذ كانوا متبعين لعهود موسى منصورين مؤيدين كما كانوا في زمن داود وسليمان وغيرهما"[37].

5- قال ابن تيمية: "لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار،... وكان بعض المشايخ يقول: هولاكو ملك الترك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جدا يقال: قتل منهم ألف ألف وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ كان بعض الشيوخ يقول: هو للمسلمين بمنزلة بختنصر لبني إسرائيل، وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع"[38].

6- قال السعدي: "في هذه الآيات التحذير لهذه الأمة من العمل بالمعاصي لئلا يصيبهم ما أصاب بني إسرائيل، فسنة الله واحدة لا تبدل ولا تغير، ومن نظر إلى تسليط الكفرة على المسلمين والظلمة، عرف أن ذلك من أجل ذنوبهم عقوبة لهم، وأنهم إذا أقاموا كتاب الله وسنة رسوله مكَّن لهم في الأرض، ونصرهم على أعدائهم"[39].

7- قال سعيد حوى: "حدث لأمتنا ما حدث لبني إسرائيل من إفساد وبغي، فعُطِّلت شريعة الله، وعُطِّلَت حدوده إلا قليلا، فسلَّط عليها المغول والتتار والصليبيون، ثم المستعمرون الغربيون والشيوعيون واليهود، وليس أمام هذه الأمة خيار: إما التوبة والاستغفار والعودة إلى شريعة الواحد القهار، وإما الدّمار والبوار، ولكن من يسمع ومن يعقل؟"[40].

8- في بيان إفساد بني إسرائيل في الأرض وتسليط الله عليهم من يقتلهم ويذلهم عبرة لهذه الأمة، ولا سيما لحكامها الذين مكن الله لهم في الأرض ليقيموا دينه، ويصلحوا أحوال الناس في دينهم ودنياهم، ويحكموا بينهم بالعدل، ويأمروا رعيتهم بعبادة الله وتحكيم شريعته، وشكره على نعمه، والصبر على بلائه.

9- كمال تصرف الله في خلقه كيف يشاء، والملك بيد الله يؤتيه من يشاء من العباد، كما قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].

10- تحذير من أعطاهم الله الملك والرئاسة من الاغترار بقوتهم وعلوهم في الأرض، فالأيام دول، ولكل دولة بداية ونهاية، كما قال الله سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].

11- ما أصاب المسلمين من الذل والهوان هو بسبب بعدهم عن طاعة الله، والتمسك بشريعته، وقد أخبر الله في نفس هذه السورة أنه ما من قرية إلا وسيعذبها الله في الدنيا بسبب ذنوبهم فقال الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58].

12- الله لا يحابي أحدا، ولو حابى أحدا لحابى أولاد النبي يعقوب عليه الصلاة والسلام، ولكنه غضب عليهم ولعنهم حين تركوا عبادته، وعطلوا شريعته، وأفسدوا في الأرض بالكفر والمعاصي.

13- الله لا يحب الفساد في الأرض والعلو فيها بغير حق، سواء كان الفساد أخلاقيا أو ماليا أو بالقتل وتغيير الدين الحق أو غير ذلك من أنواع الفساد والظلم والتعدي على الناس.

14- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيه صلاح للأمة، وفي تركه تعريض الأمة للعقوبة العامة، كما قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]، فقد كان من بني إسرائيل من هو صالح، لكن حين ظهر الفساد عمت العقوبة جميعهم فاسدهم وصالحهم، وكل يبعثه الله على نيته.

15- من اتقاء الفتن العامة والعقوبات الدنيوية إفشاء العدل، ونهي الظالم عن الظلم، ولو كان ملكا أو أميرا، ويجب على الأمة القيام بردع الظالم عن الظلم، والعاصي عن المعصية بحسب استطاعتهم، وإلا كانوا آثمين مستحقين لعقوبة الله سبحانه بسبب سكوتهم عن الإنكار عليهم.

16- حرمة معاونة الظالمين والمفسدين في الأرض، وشؤم مجاورتهم، فقد تنزل عليهم عقوبة تعم المخالطين لهم، فالعقوبة تعم الساكت عنهم، فكيف بمن يعينهم أو يقعد معهم؟! قال الله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113].

17- إذا كانت الأمة أفرادا وجماعات تحرص على التناصح فهي تسعى لكل ما ينفعها في دينها ودنياها، ومن أعظم أسباب النصر: أن ينصر المسلمون الله بنصر دينه، فيأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.

18- من رحمة الله بعباده أنه بعد عقوبتهم عقوبة عامة يجعل لهم فرصة أخرى للتوبة كما رحم بني إسرائيل بعد أن عذبهم في الدنيا، فقال لهم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8]، وقال الله لهذه الأمة في نفس هذه السورة: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [الإسراء: 54].

19- على جميع المسلمين حكاما ومحكومين أن يتوبوا إلى الله سبحانه، ويتمسكوا بكتابه وسنة رسوله، ويتعاونوا على إقامة دينه، ويخافوا بطشه وعذابه.

20- لا عز للمسلمين إلا بالإسلام، ومن أراد العزة بغير طاعة الله ورسوله والتمسك بدينه أذله الله من حيث لا يحتسب، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].

21- أهمية معرفة التاريخ وأخذ الدروس والعبر من الأحداث كما قال الشاعر:

اقرأوا التاريخ إذ فيه العِبَر   ***   ضل قومٌ ليس يدرون الخبر 

22- معرفة عظمة القرآن الكريم وفضله، وأنَّه يهدي الأمة للتي هي أقوم في جميع أمورها، وأنَّ فيه عز المسلمين وقوتهم وصلاحهم في دينهم ودنياهم، فيجب الحرص على تعلمه، وتدبره، والعمل به.

[1] يُنظر: المعارف لابن قتيبة (1/ 39، 40)، تاريخ الطبري (1/ 317).

[2] يُنظر: تفسير ابن جرير (14/ 454، 469)، الوجيز للواحدي (ص: 628)، تفسير ابن عطية (3/ 437)، زاد المسير لابن الجوزي (3/ 10)، تفسير القرطبي (10/ 214)، تفسير ابن كثير (5/ 47)، تفسير السعدي (ص: 453)، تفسير ابن عاشور (15/ 28)، التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 301)، التفسير المحرر (14/ 41 - 43).

[3] تفسير ابن جرير (14/ 469). وينظر: تفسير الماوردي (3/ 229).

[4] يُنظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (6/ 338).

[5] يُنظر: الأساس في التفسير لسعيد حوى (6/ 3044).

[6] يُنظر: الأساس في التفسير (6/ 3038، 3039).

[7] تفسير الشعراوي (13/ 8352 - 8369).

[8] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لعبد الوهاب المسيري (13/ 4).

[9] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لعبد الوهاب المسيري (13/ 13).

[10] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لعبد الوهاب المسيري (20/ 258، 259).

[11] هو التراث الشعبي والمقصود به مجموعة من العادات والتقاليد والمعتقدات التي تنتقل بطريقة شفهية بين الناس.

[12] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لعبد الوهاب المسيري (14/ 40).

[13] تفسير السعدي (ص: 454).

[14] تفسير الرازي (20/ 300، 302). ويُنظر: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير لأبي شهبة (ص: 239، 240).

[15] التحرير والتنوير (15/ 30).

[16] يُنظر: تفسير ابن جرير (14/ 469 - 471، 476)، الوسيط للواحدي (3/ 97)، تفسير القرطبي (10/ 216، 217)، تفسير البيضاوي (3/ 248)، تفسير النسفي (2/ 246)، تفسير ابن كثير (5/ 47)، تفسير السعدي (ص: 453)، التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 291، 292)، التفسير المحرر (14/ 43 - 45).

[17] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (5/ 94، 95).

[18] تفسير ابن عاشور (15/ 29، 30) باختصار.

[19] يُنظر: التفسير الوسيط (8/ 297 - 301).

[20] يُنظر: أيسر التفاسير (3/ 177).

[21] يُنظر: الأساس في التفسير (6/ 3044).

[22] يُنظر: تفسير الشعراوي (14/ 8352 - 8369).

[23] يُنظر: مغازي الواقدي (1/ 363 - 375)، (2/ 496 - 529، 633 - 707)، سيرة ابن هشام (2/ 143، 144)، تاريخ المدينة لابن شبة (1/ 176 - 195)، تاريخ الطبري (2/ 479 - 480).

[24] رواه البخاري (3593) ومسلم (2921)، واللفظ له.

[25] يُنظر: تفسير ابن جرير (14/ 477)، الوسيط للواحدي (3/ 97)، تفسير القرطبي (10/ 217)، تفسير البيضاوي (3/ 248)، تفسير السعدي (ص: 454)، التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 292)، التفسير المحرر (14/ 45، 46).

[26] يُنظر: تفسير ابن عاشور (15/ 32).

[27] يُنظر: تفسير يحيى بن سلام (1/ 117)، تفسير ابن جرير (14/ 478، 504)، تفسير القرطبي (10/ 217، 223)، تفسير أبي حيان (7/ 16)، تفسير ابن كثير (5/ 48)، تفسير أبي السعود (5/ 157)، فتح البيان للقنوجي (7/ 358)، تفسير السعدي (ص: 454)، تفسير ابن عاشور (15/ 37)، أضواء البيان للشنقيطي (3/ 14، 15)، التفسير المنير للزحيلي (15/ 20)، التفسير المحرر (14/ 46 - 48).

[28] يُنظر: تاريخ الطبري (1/ 571، 590)، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/ 94، 95)، تفسير ابن عاشور (15/ 29، 30)، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للمسيري (3/ 47، 78) و (4/ 288) و (5/ 63).

[29] التوراة: سِفْر التثنية (18/17-18).

[30] التوراة: سِفْر التكوين (49/10).

[31] يُنظر: تفسير الشعراوي (14/ 8364).

[32] يُنظر: تفسير ابن جرير (14/ 505، 510)، البسيط للواحدي (13/ 266)، تفسير القرطبي (10/ 223)، تفسير البيضاوي (3/ 249)، تفسير ابن كثير (5/ 48)، تفسير السعدي (ص: 454)، تفسير ابن عاشور (15/ 39)، أضواء البيان للشنقيطي (3/ 17)، التفسير المحرر (14/ 49 - 51).

[33] يُنظر: تفسير ابن جزي (1/ 442). ويُنظر: أضواء البيان للشنقيطي (3/ 15، 16).

[34] التفسير الوسيط لطنطاوي (8/ 291، 292).

[35] زهرة التفاسير (8/ 4334).

[36] يُنظر: تفسير الرازي (20/ 301).

[37] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (6/ 416).

[38] مجموع الفتاوى (13/ 179، 180).

[39] يُنظر: تفسير السعدي (ص: 454).

[40] يُنظر: الأساس في التفسير (6/ 3038).

_________________________________________________________
الكاتب: د. محمد بن علي بن جميل المطري