{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}
إن أردنا أن نتعلم العزة، فلن نتعلمها إلا ممن استقاها من العزيز الحميد، الذي ابتعثه ليعلم الناس معانيَ التوحيد، التي تؤدي بهم لمعاني العزة والعبودية لله تعالى وحده.
في صحراء مكة القاحلة تم سحبه على ظهره، ووَضْعُ الحجر على صدره، وتَرَكُوه بلا ماء ولا غذاء، بل بلا رحمة ولا شفقة، ناقمين عليه إيمانَه وعقيدته، وهو لا يجِدُ ما يردُّ به عليهم؛ إلا أن يقول: (أَحَدٌ أَحَدٌ)، وكأنه يرد عليهم، لن تستطيعوا الوصول إلى قلبي برغم إجهادكم لجسدي؛ إنه بلال بن رباح رضي الله عنه، خريج مدرسة العزة؛ مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم.
إنها العزة التي هي صِنْوُ الإيمان، فإذا قلَّ الإيمان قلَّت، وإذا ذهب ذهبت:
لا تَسْقِني ماء الحياة بذِلَّةٍ *** بل فاسْقِني بالعزِّ كأسَ الْحَنْظَلِ
فما هي العزة التي أرادها الله تعالى منَّا عباد الله؟ يُجلِّيها لنا ابن الجوزي والراغب الأصفهاني رحمهما الله تعالى، فيقولان: إنها تدور حول ثلاثة معانٍ: العظمة، والْمَنَعة، والحَمِيَّة؛ فالمؤمن يتعاظم بربه وبدينه، وبمبادئه وقيمه، ويمتنع عن الذل والعبودية لغير الله تعالى، وتكون له حَمِيَّة من أجل ربِّه ودينه ورسوله صلى الله عليه وسلم:
اجعل لربك كلَّ عـــــزّ *** زِكَ يستقر ويثبُتُ
فإذا اعتززت بمن يمو *** تُ فإن عزَّك ميِّتُ
وإن أردنا أن نتعلم العزة، فلن نتعلمها إلا ممن استقاها من العزيز الحميد، الذي ابتعثه ليعلم الناس معانيَ التوحيد، التي تؤدي بهم لمعاني العزة والعبودية لله تعالى وحده.
• فهو صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام لم يسجد لصنم قط، ولم يأكل مما ذُبح على النُّصُب؛ فقد كان بفطرته السليمة الطاهرة عزيزًا لا يقبل مثل هذه الأشياء.
• ولما جاءه عمُّه أبو طالب في بدايات دعوته راجيًا منه أن يكُفَّ عن قريش، ولا ينابذهم ولا يشكِّك في آلهتهم، وأن يترك دعوته، وهم يجمعون له المال والسلطان والجاه؛ فقال: «والله يا عمَّاه لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يُظهره الله، أو أهْلِكَ دونه».
• ولما كان صلى الله عليه وسلم يصلي في جوف الكعبة، فتوعَّده أبو جهل لعنه الله أنه سيطأ رأسه بقدميه، فلم يأبَهْ له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل قال لأصحابه: «لو اقترب مني لاختطفتْهُ الملائكة عضوًا عضوًا»، إنها العزة بالله عز وجل.
• وكذلك لما سخِر منه صلى الله عليه وسلم أهلُ مكة أثناء طوافه بالكعبة، فلما انتهى، التفت إليهم قائلًا: «يا معشر قريش، جئتُكم بالذبح»، وهذا كان في حالة الاستضعاف، ولكنها العزة والكرامة، يقول الراوي: "فما قابله أحد بعدها إلا وهو يقول: رويدك أبا القاسم، رويدك أبا القاسم".
• وموقفه صلى الله عليه وسلم مع أبي سفيان بعد غزوة أُحُدٍ؛ حيث أخبر أصحابه بأن يردوا عليه قائلين: «الله أعلى وأجَلُّ، والله مولانا ولا مولى لكم»، وهم في حالة الهزيمة؛ لكي يُشْعِرَهم ويعلمهم أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن المآل والعاقبة في النهاية ستكون لهم.
• ووقف صلى الله عليه وسلم في غزوة حنينٍ يعتز بنفسه وبرسالته قائلًا: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب»، فكان ذلك من أسباب عودة المسلمين، والتئام صفوفهم، ثم بعد ذلك كانت الكَرَّة لهم على عدوِّهم.
وإن ننتقل من المعلم، فلن نجد أفضل من تلامذته الأبرار؛ وهم الصحابة الأخيار، والتابعون الأطهار، والصالحون الأبرار.
• فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فتح بيت المقدس يرُد على أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، لما عاتبه في صفة لباسه، وكيفية دخوله للمدينة المفتوحة: ((نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة خارجه، أذلَّنا الله)).
• وهجرة صهيب الرومي رضي الله عنه شاهدة على العزة؛ فلقد لحِقه كفار قريش لإثنائه عن الهجرة، إلا أن يدفع لهم ماله، فأخبرهم عن مكانه، وخرج مهاجرًا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ فاستقبله صلى الله عليه وسلم قائلًا: «ربِح البيع أبا يحيى»، وكأنه بعزته أحيا قلبه، فصارت كُنيةً له، رغم أن لا ولدَ له.
• وهذا عبدُالله بن مسعود رضي الله عنه يُسمع قريشًا القرآنَ رغمًا عنهم، فقاموا عليه ضربًا، فلم يتوقف، ولم يتزعزع، بل قال: "والله لأسمعنَّهم غدًا".
• ويتكرر المشهد مع عزيز آخر؛ وهو أبو ذر الغفاري رضي الله عنه الذي يصرخ بلا إله إلا الله في مجامع قريش ونواديهم، وهو لا يأبه لهم ولقوته، فقاموا عليه قومة رجل واحد يضربونه، وبالحجارة يقذفونه، حتى كان كالنصب الأحمر من كثرة ما نزل منه من دماء؛ ولسان حاله يقول:
فليحرقوا كلَّ النخيلِ بساحِنا *** سنُطِل من فوقِ النَّخيلِ نخيلًا
وليهدمُوا كل المآذن فوقَنــــا *** نحن المآذنُ فاسمَعِ التهليـــــلا
نحن الذين إذا وُلِدْنا بُكْـــــرَةً *** كنا على ظهر الخيول أصيــــلًا
• وهذا ربعيُّ بن عامر رضي الله عنه يعلِّم العالمين العزةَ بالدين وبرب العالمين، فيخبر رستم قائد الفرس وهو في بلاطه، بعد أن أفسد عليه زينته ليظهر له عزته: "نحن قوم ابتعثنا الله لنُخرِج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَةِ الدنيا والآخرة".
• وفي غزوة الأحزاب لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسالمة غطفان بإعطائهم بعض ثمار المدينة؛ وذلك ليضمن سلامة جانبهم، وليجنِّب المسلمين عداوتهم، فقام السعدان العزيزان؛ ابن عبادة وابن معاذ رضي الله عنهما قائلَين: ((يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟ فقال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رَمَتْكُم عن قوس واحدة، وكالَبُوكم من كل جانب»، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة، إلا قِرًى أو بَيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم)).
• وسعيد بن جبير، وما أدراك ما ابن جبير؟ الذي قال له الحجاج: أنت تَعِيس بن كُسَير، فقال: بل أمي كانت أعلم باسمي منك، فقال له الحجاج بعد حوار طويل: أي قتلة تريد أن أقتلك؟ قال له سعيد: اخْتَرْ لنفسك يا حجاج، فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك قتلة في الآخرة، فقال له الحجاج: أتريد أن أعفو عنك؟ فرد سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عُذر.
• وانظروا - عباد الله - إلى المعتصم أحد خلفاء الدولة العباسية، الذي ما إن علم بأن أسيرة في بلاد الروم تنادي عليه: وا إسلاماه، وا معتصماه، حتى جيَّش الجيوش، ودمَّر على عَمُّورية أسوارها، ودخل على المرأة في زنزانتها، وقال: لبيكِ أختاه؛ كي تشهدي غدًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• وما تعلَّم المعتصم هذه العزة إلا من أبيه، الذي كتب له نقفور ملك الروم مستهزئًا به، وطالبًا منه رَدَّ الأموال والأراضي الرومية التي أخذها من الملكة السابقة التي كانت ضعيفة، ولا تصلح للملك، فرد عليه الرشيد بأن قال لكاتبه: "اكتب له على ظهر رسالته: من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، وصلتني رسالتك يا بن الكافرة، والأمر ما ترى لا ما تسمع"، وجيَّش له جيشًا أوله عند هارون وآخره عنده.
________________________________________________________________
الكاتب: رضا أحمد السباعي
- التصنيف: