مشروع إيقاظ العملاق

منذ 2023-12-02

بطل عملاق مَهيب، اسمه الحَميَّة الإسلامية، وفي ظل هذا البطل عاشت أمة الإسلام رَدَحًا من الزمن عزيزةَ الجانب، مَهيبة، يُحسَب لها ألف حساب، قولُها فِعلٌ...

سطَّر تاريخُنا الإسلامي بمِداد العزِّ والفَخار قصصًا مدهِشة ومؤثِّرة عن التفاعل الوجداني، والحَميَّة الإسلامية في أُمتنا الإسلامية، إنها القَصص الحق، وليست من نَسْج الخيال، وهي مستوحاة من آيات وأحاديثَ، وأخلاقٍ وشيم، ونخوة وكرامة، وشجاعةٍ وتضحية، ونَجدة ونُصرة، ورجالٍ ومواقفَ.

 

قَصص أبطالُها أرواحٌ حرَّة أَبيَّة، تأبى الضَّيم، وتأنَف الذل، وتبذُل النفْس والنفيس، تتحرَّك كلاًّ كالبُنيان والجسد الواحد، يَتداعى بكلِّيته لألَم عضو منه ولو كان صغيرًا، فيرعاه، ويَحميه، ويسهر على خِدمته، ويسعى في دوائه وشفائه.

 

قَصص حفِظناها وردَّدناها، حتى حسِبْنا أن صيحاتها الشريفة قد نُقشِت في سواد العيون، وشَغاف القلوب، وأعماق المُهَج.

 

علَّمَنا إياها كلامُ ربنا في وصْفٍ لا ندَّ له أو مثيل، وصْف ساحر آسِر يأخذ بعقلك وقلبك ورُوحك، ويَجذِبك ويشدُّك وينقلك إلى عمْق الحدَث، إلى مَيدان الشهادة، وشهادة المَيدان؛ حيث الجواب الحاسم الصريح بلا خوف ولا تردُّد أو تسويف: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: 1 - 5]، أسود ضوارٍ تطير على صَهوات الخيل، يخاف منها الخوف، نداؤها: لبيك اللهم لبيك، وفي مسمَعها استغاثة: وامعتصماه، وحُداؤها:

أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّـــــــــهْ   ***   لَتَنْزِلِنَّ أَوْ لَتُكْرَهِنَّـــــــــــــــهْ 

إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرَّنَّهْ   ***   مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّــــهْ 

يَا نَفْسُ إلاَّ تُقتَلي تَمُوتـــــــي   ***   هذا حِمامُ الموتِ قد صَلِيتِ 

فإمَّا حياةٌ تَسُرُّ الصَّدِيــــــــقَ   ***   وَإمَّا مَماتٌ يَغِيظُ العِــــــــدَا 

 

يا له من قَصص، وما أجملَه وأعزَّه وأشرَفه! قَصص يرسُم في مُخيِّلة مَن يقرؤه ويُذاكره صورة عجيبة، فيُسائل نفْسه بحُرْقة وحسرة: أين ذهبتْ تلك الصورة؟

 

إنها صورة لبطل عملاق مَهيب، اسمه الحَميَّة الإسلامية، وفي ظل هذا البطل عاشت أمة الإسلام رَدَحًا من الزمن عزيزةَ الجانب، مَهيبة، يُحسَب لها ألف حساب، قولُها فِعلٌ، وجوابها ما سوف تراه، هو بطل واحد، وإن تعدَّدت أسماؤه في تاريخنا، هو أبو بكر وعمر وخالد وحمزة وعثمان وعلي، وحسن وحسين، وهارون والعِز بن عبدالسلام، وموسى وطارق وعبدالرحمن، وصلاح الدين وسيف الدين، ونور الدين وابن تاشفين، ومحمد الفاتح وعبدالحميد، وعمر المختار، ولكنَّه في أصله وجوهره واحد، لم يتغيَّر ولم يتبدَّل، إنه عملاق الحَميَّة الإسلامية.

 

إن أمَّتنا لتشتاق لهذا البطل، والكل يستغرِب غَيبته الطويلة، ويسأل: أين عملاق الحميَّة الإسلامية؟ ما أخباره؟ لماذا غاب؟ أسئلة عديدة تتأرجَح بين اليأس والأمل، فسائلٌ يقول: هل مات؟ أم هو مريض هزيل؟! وآخر يقول مُستبشِرًا: لا تَقلَقوا، فسوف يعود، سوف يعود لا محالة، ويردُّ عليه الأول: كيف يعود؟ فيُجيبه قائلاً: سيعود، سيعود، ولكن بشرط، لن يعود حتى تعرف الأمة - أجمع - أسباب غَيبته، وضعْفه المزعوم، وموته الموهوم، أسباب من داخِلنا، وأخرى من خارجنا، وإصلاح النفس وتغييرها أصعب وأشد، ولَوم العدو - كان ولم يزل - مخرَجًا سهلاً للكُسَالى والمتنصِّلين، فهو لا يكلِّف صاحبَه عملاً يُذكَر، ولكن سُنة الله في خلْقه جارية لا تتبدَّل ولا تتحوَّل: غيِّر وأصلِح ما بالنفْس - أولاً - يصلح الحال.

 

تعالَوا يا مَن تحمِلون هذا الهم، ولنبحث سويًّا عن إجابة لهذا السؤال المهم: أين ذهَب، ولِمَ غاب عملاق الحميَّة الإسلاميَّة؟

 

غاب عِملاق الحميَّة الإسلامية حينما نَسِينا وتناسينا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].

 

غاب حينما أخذْنا بأذناب البقر.

 

 غاب عندما أصابَنا الوَهَنُ، فأحبَبْنا الدنيا وكرِهنا الموت.

 

 غاب عندما لم نفهم {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]، {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

 

غاب؛ لأننا لم نعمل بأمر إلهي: {وَأَعِدُّوا} [الأنفال: 60].

 

غاب حين وادَدْنا ووالَيْنا مَن يُحادُّ الله ورسوله.

 

غاب؛ لأننا لم نفقَه درسًا إلهيًّا معصومًا: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67].

 

غاب حينما جَهِلنا أسباب قوَّتنا: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

 

غاب ذلك العملاق حينما صدَّقنا أوهام العدو عن قوَّته التي لا تُقهر.

 

غاب حينما جهِلنا ضعْف عدوِّنا الكامن في حَيده عن الصراط المستقيم، وحُبِّه للدنيا، وكراهيته للموت.

 

غاب حينما لم نقرأ ونَفهم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249].

 

غاب حين لم نعلِّم أبناءنا سيرة آبائهم وأجدادهم وأسباب عِزتهم، ونُنشِّئهم على مِنوالها.

 

غاب حين أصبح هَمُّ البعض الحِفاظَ على العروش، فقدَّموه على كل مصالح الأمة المعتبَرة.

 

غاب حين جهِل بعض من وَلِيَ أمرَ المسلمين - هداهم الله - أسبابَ العِزة، فظنُّوها في جمْع ما يزول، والتمسُّك بألقاب ضاعت مَضامينُها، وقطْع لسان الأمين الناصح الرفيق، والطَّرَب للنُّباح والنَّعيق والنهيق، والارتماء في أحضان من لا يريد الخير لنا.

 

غاب عملاق الحَميَّة الإسلامية حينما انْطلَت علينا حِيل الحدود الوهمية المُبتدَعة، والكِيان الممزَّق، والانشغال بالهموم الإقليمية والعِرقية، وما يُسمَّى - زورًا - بحكمة عدم التدخل في شؤون الآخرين.

 

غاب حين خدعونا - برِضانا - بدعواهم حول نشْر الديمقراطية والدفاع عن الحرية.

 

غاب حينما أسرَعنا - كالفراش البريء تَجذِبه النار إلى حَتْفه - لكي نكون أعضاء بلا حقوق - في المنظَّمات والمؤسسات الدولية.

 

غاب عملاق الحَميَّة الإسلامية حين ارتأينا الحَلَّ في تَدويل كل قضية، واستِجداء العدل من عُصْبة الظُّلم الدولية ومُلاك قَرار الفيتو المَعيب.

 

غاب الحل حين وصَمْنا المقاومة المشروعة وحق الدفاع عن النفْس بالإرهاب المعيب.

 

غاب عملاق الحميَّة الإسلامية حينما أضعَفْنا اقتصاد دُولِنا بأيدينا، فأصبحنا عالَة وأسارى في سجون صندوق النقد الدولي المُسيَّس.

 

غاب هذا البطل حينما تفنَّنا في فن الفُرقة، وأتقنَّا فِقه الاختلاف فيما بيننا.

 

غاب هذا العملاق حينما أحسَسنا بالعار والخجَل من صلاتنا وعفَّتنا وحجابنا وأُسرنا المتماسكة، فيمَّمنا غربًا باحثين عن مدنيَّة زائفة، وتقدُّم مزعوم، وتَحرُّر شيطاني من كل فضيلة.

 

غاب هذا العملاق حينما نَسِينا وتناسينا ضرورة التخطيط والعمل للمستقبل، وسلَّمنا هذه الأمانة لمن لا يرى وَفاءها إلا في تأمين مستقبله في البنوك السويسرية، فالمهم نَجاته، وللأمة من بعده الطُّوفان.

 

غاب هذا العملاق حين أصبح الخوف والتخويف والوَهَن والتوهين جزءًا رئيسًا من تكوين بعض وَرَثة الأنبياء وغالب الأمة.

 

غاب عملاق الحمية الإسلامية حينما شوِّهت وتشوَّهت بعض فصول السياسة الشرعية، وأعانها بعض أدعياء الفقه السياسي الانتقائي المبتسر، فجعل البعض همهم الأوحد في ولاية فقيه معصوم، وعاب فِعلَهم الآخرُ وشنَّع عليهم، ولكنه - ويا للأسف - سار على نهجه وإن لم يُسمِّه بذات الاسم، فالكل معصوم على كل حال، واستمرَّ جُرم تبرير سوء الحال والدعوة لقَبوله، وقتْل الأمل، والتخويف من مآل كل مَن رامَ إصلاح الحال، وتوريث الذل واليأس والوَهَن لأمة تفتتِح صلاتها خمس مرات في اليوم والليلة بكلمة: الله أكبر، فيا ليت شِعري ماذا تَعني هذه الكلمة؟

 

هذه محاولات أولية ومحدودة للبحث عن إجابة السؤال: أين ذهَب عملاق الحَميَّة الإسلامية؟

 

والقرَّاء - بشتى مستوياتهم - مدعُوّون للبحث عن الإجابة، والزيادة على ما سبَق طرْحه كلٌّ حسَب استطاعته وجُهده، وكل منا على ثَغرة من الثغور.

 

ليس الغرض من هذا البحثِ المزيدَ من التنظير الجامد الراكد، والغرَق في بعض ما اعتَدنا من التَّرف الفكري العقيم، إنما الغرض هو العِلم للعمل الفوري، ومصارحة الذات ومكاشَفتها، فنحن الملومون لغَيبة عملاق الحميَّة الإسلامية عن واقعنا، ولا يكفي إقرارنا بالذنب، ولا ينفع التلاوم، ولا بد من أن يكون العمل الفَردي والجماعي عملاً مُمنهجًا ومُتناسِقًا ومُنظَّمًا ودؤوبًا، ويهدف الى إحياء عملاق الحَميَّة الإسلامية في نفوسنا وواقعنا.

 

إن خيرَ ما يُختم به المقال، الصلاة على المصطفى والصحب والآل؛ فهم مَن علَّمنا أن الحَميَّة الإسلامية ليست مجرد شعار أو مقال، إنما هي هَمٌّ كبير كبير كبير، يولِّد همَّة وعزيمة عظيمة تدفَعان صاحبها للعمل والتضحية والبذل والفِداء، وصاحب هذا الهمِّ والهمة والعزيمة ليس غريبًا أو بعيدًا عنا، فهو أنا وأنت، وهو وهي، وهم وهنَّ، وكلنا - إذا فهِمنا وعمِلنا - هذا البطل العملاق، فاستعِن بالله، وشمِّر عن ساعِد الجد، فقد دقَّت ساعة العمل للإسلام، ولا تَحقِرن من العمل والمعروف شيئًا، ولا يضيع الله أجر مَن أحسن عملاً.

_________________________________________________________________
الكاتب: هشام محمد سعيد قربان

  • 1
  • 0
  • 367

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً