غزوة تبوك وجهاد المسلمين في فلسطين
هكذا هم أهل النفاق والخذلان والتصهين اليوم مع أهل الجهاد فلسطين، لا يزالون ينهَشون في أعراضهم ونياتهم، ويطعنون في مصداقيتهم وغاياتهم طوال أيام عدوان اليهود على غزة، دون حياء ولا خوف من سوء عاقبة أفعالهم
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في المدينة، وذلك في رجب من السنة التاسعة للهجرة، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم، فعند ذلك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم ولأول مرة عن مقصِدِهِ ووُجهته؛ وذلك ليستعدَّ الناس لذلك المقصِد البعيد، واستنفر المسلمين للخروج إلى تبوكَ، التي تبعُد أكثر من ثمانمائة كيلومترٍ، وسمَّى ربنا تلك الغزوة بالعُسرة؛ فهي كانت عسِرة في زمانها؛ حيث الصيف وشدة الحر، وعسِرة في بُعْدِ المسير، وعسرة في العُدة والعتاد.
خرج صلى الله عليه وسلم مع جيشه المبارك في ثلاثين ألفًا؛ ليواجه الروم ومواليهم من العرب في أعداد هي أضعاف مضاعفة لجيش المسلمين، ولو عاصر الْمُرْجِفون المخذِّلون اليومَ تلك الغزوةَ، لقالوا: كيف يخرج المسلمون لملاقاة الروم وهم أقل عددًا وعُدةً؟ هذا إلقاء بالنفس إلى التهلكة، ويرددون ما قاله سلفهم المنافقون: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49].
وهكذا هم المنافقون المخلَّفون، الذين لا يتركون دسائسهم وإرجافهم في أي موطن من مواطن الجهاد والدعوة والعزة، يلاحقون أهل الجهاد والدعوة، يَلْمِزون ويَهْمِزون، يسخرون بهم، فيسخر الله منهم، ويستهزئون بهم، والله يستهزئ بهم.
ومن ذلك أنهم سخِروا بالقُرَّاء، أهل الفقه والقرآن في هذه الغزوة؛ فعن زيد بن أسلم: ((أن رجلًا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك: ما لقُرَّائنا هؤلاء؛ أرغبنا بطونًا، وأكذبنا ألسنةً، وأجبننا عند اللقاء؟ فقال له عوف: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه؛ ونزل قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]، قال عبدالله بن عمر: فنظرت إليه - هذا المنافق - متعلقًا بحَقَبِ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكُبه الحجارة، يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66].
ذلك الاستهزاء، وتلك السخرية، وذلك الهمز واللمز مع خذلانهم المسلمين، وتخاذلهم عن الخروج مع جيش العسرة، وتعذرهم بأعذار كاذبة، لكن القرآن كان لهم بالمرصاد، فكانت الآيات تتنزل عقب كل كذب وبهتان لهم، وذلك في آيات سورة التوبة التي سُمِّيت بالفاضحة؛ لأنها فضحت النفاق والمنافقين.
قال سعيد بن جبير: (قلت لابن عباس: سورة التوبة، قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: (ومنهم) (ومنهم)، حتى ظنوا أنها لن تُبقي أحدًا منهم إلا ذُكِرَ فيها).
وهكذا هم أهل النفاق والخذلان والتصهين اليوم مع أهل الجهاد فلسطين، لا يزالون ينهَشون في أعراضهم ونياتهم، ويطعنون في مصداقيتهم وغاياتهم طوال أيام عدوان اليهود على غزة، دون حياء ولا خوف من سوء عاقبة أفعالهم: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
معاشر المؤمنين:
وكان من المكائد الخبيثة لأهل النفاق والخذلان أنهم بَنَوا مسجدًا للرصد واستقبال أعداء الإسلام؛ لترتيب المكائد ضد الإسلام والمسلمين، سمَّاه الله تعالى "مسجد الضرار"، فلما فرغوا من بنائه أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه».
وهكذا هم المرجفون والمنافقون يبررون أفعالهم الدنيئة، ويسترون مؤامراتهم اللئيمة تجاه طوفان الأقصى، بالتعاطف الكاذب على ضحايا غزة، وبالتشكيك بجدوى مواجهة الصهاينة، وبالتشكيك بنوايا المجاهدين ومصداقيتهم.
وقد فضحهم الله جل وعلا، وأنزل فيهم قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 107، 108].
فما كان منه صلى الله عليه وسلم بعد وَحْيِ الله تعالى له بحقيقة ذلك المسجد، إلا أن أمَرَ بحرقِهِ وهدمه، وأزال بذلك وكرًا من أوكار النفاق والإرجاف.
وهكذا هم أهل النفاق والخذلان في كل عصر، التآمر والتخذيل والإرجاف، ونرى اليوم مع تصاعد اعتداء اليهود على المسلمين في غزَّة عدة مساجد للضرار، نرى قنوات فضائية للضرار، ووسائط للتواصل الاجتماعي للضرار، ونرى مشايخ زور للضرار، ونرى محللين وسياسيين وإعلاميين للضرار: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
معاشر المؤمنين:
وينتهي المسير برسول الله صلى الله عليه وسلم وجيشه المبارك إلى تبوك، ويقيم بها بضع عشرة ليلة، لم يواجه بها عدوًّا؛ ذلك أن الله تعالى ألقى الرعب في قلوب الروم، وتحصَّنوا بديارهم فتمَّ حصارهم، وأبرم صلى الله عليه وسلم صلحًا مع بعض قبائل العرب، وفرض عليهم الجزية، فردَّ الله تعالى كيدهم إلى نحورهم، وأعزَّ الله تعالى جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
معاشر المؤمنين:
عاد صلى الله عليه وسلم للمدينة مظفَّرًا منتصرًا، في أول مواجهة عسكرية مع الروم على حدود الجزيرة العربية، ومهَّد بذلك لحركة الفتوح في عهد خلفائه رضي الله عنهم، والذين أتمُّوا تلك المبادرة، فلم تمضِ خمسة أعوام حتى سقطت الدول العظمى آنذاك؛ فارسُ والروم، وأصبحت ديارهم دارًا للمسلمين، ولو سمع أهل النفاق والخذلان تلك الأمانيَّ آنذاك، لقالوا تهكمًا وسخرية: "تلك أحلام وأوهام"، كما تهكموا أول أيام الطوفان على آمال المجاهدين الأبطال بأن تفتح معركة طوفان الأقصى البابَ لتحرير المسجد الأقصى وفلسطين من براثن الصهاينة.
معاشر المؤمنين:
من دروس غزوة تبوك أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة، وصبر ومصابرة، فإذا ما تركت الجهاد ضُرِبت عليها الذلة والمسكنة.
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعِينةِ، وأخذتم أذناب البقر، ورَضِيتم بالزرع، وتركتُم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلًّا لا ينزِعه شيء حتى ترجعوا إلى دينكم»؛ (أبو داود، والطبراني).
وثاني هذه الدروس: أن الله كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما نصرت دين الله تعالى، وأخلصت وصدقت، فها هي دولة الإسلام الناشئة تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية، فتهزمه وتنتصر عليه؛ وصدق الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]؛ قال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه: "والله ما نقاتل الناس بعدد ولا عُدَّة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به".
ومن هذه الدروس أن العدو ما تسلَّل إلينا إلا من خلال صفوف المنافقين والمرجفين، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة إلا من قِبل أصحاب المسالك الملتوية والقلوب السوداء؛ الذين قال الله تعالى فيهم: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
_________________________________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي
- التصنيف: