التحرير للتحرير
محمد بن شاكر الشريف
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
ففي أحيان كثيرة قد لا يشهد الانسان أمراً ما، لكن يمكنه من خلال الدلائل أن يعرف بنسبة كبيرة ما الذي جرى، بحيث لا يغيب عنه إلا التفاصيل الدقيقة التي لا تمس جوهر الأمر، وأحسب أن هذا ينطبق بدرجة كبيرة على أحداث ثورة مصر في 25 يناير 2011م.
إن خروج دولة بحجم مصر ومكانتها من التبعية الأمريكية يمثل كارثة كبيرة بالنسبة لهم، لم تكن أمريكا تتصور في يوم ما أن ينتفض الشعب المصري ويثور ضد حاكمه الطاغية.
لذا لم تكن لديها خطط جاهزة تواجه بها الثورة المصرية، لقد كان ما حدث في 25 من يناير وما تلاه يمثل قمة المفاجأة لأمريكا! حتى أن وزيرة الخارجية أعلنت في أوائل الأحداث أن النظام المصري مستقر وأنه لا خوف عليه، ولكن مع اشتداد الرفض العريض لنظام الطاغية بدأت تتكون قناعة لدى الأمريكان أن الشعب خرج إلى الشارع ولن يتركه إلا بعد زوال نظام حكم الطاغية، من هذه اللحظة بدأت أمريكا تعد العدة لفترة ما بعد نظام الطاغية، وتعيد مصر إلى الحظيرة، فأخذت بعضاً من الوقت لإعادة حساباتها وترتيب البيت من الداخل وذلك عبر المسكنات التي كان الطاغية يعلنها للشعب كإقالة الوزارة ثم تعيين نائب له ثم إعلانه عدم ترشحه للفترة القادمة، في الوقت الذي كانت فيه الإدارة الأمريكية تغازل الشعب عن طريق الإعلان عن شجب العنف من قبل الأجهزة الأمنية، ولما ظنت الإدارة أنها رتبت البيت من الداخل وأنه لن يكون إلا ما تريد أعطت التعليمات له كي يتنحى عن الرئاسة، لقد كانت الخطة تقضي بخلع الرأس ارضاء للشعب مع بقاء جسم النظام ريثما يؤتى له برأس آخر ووجه جديد حسب المواصفات الأمريكية كي يقوم بالدور نفسه الذي كان المخلوع يؤديه، وفي غمرة فرحة الشعب بتخلي الطاغية عن الحكم لم ينتبه الناس من الذي حل محل الطاغية، وهل من حل محله جاء موافقاً للدستور الذي يحدد بوضوح من يحل محل الرئيس إذا شغر مكانه بموت أو عجز، ورضوا بما حدث وخاصة في ظل الإعلان عن أن الفترة الانتقالية لن تتجاوز ستة أشهر ثم تنقل السلطة بعدها لمن يختارهم الشعب، وبدأت الخطوة الأولي بتعديل مواد الدستور المتعلقة بالترشح للرئاسة التي كانت مفصلة على مقاس ابن المخلوع، اطمأن الشعب لذلك ورجع الناس إلى بيوتهم وانتظموا في أعمالهم، لكن الذي لم يتحسب له أحد أن الأمر على أرض الواقع كان يخالف ما يوعد به، وابتدأت حركات التسويف والتأخير بغير مسوغ مقبول، حتى ليخيل للمتابع للمشهد أن التأخير في نقل السلطة لأهلها يقع عن عمد ربما لأن البديل الذي يرضى أمريكا واليهود غير مؤهل لنقل السلطة إليه الآن أو لم يعثر عليه بعد، ثم بدأت التصرفات التي باتت واضحة للعيان أن الغرض منها إقصاء الإسلاميين وحرمانهم من حقهم في الوصول إلى السلطة مع أن إقصاء الإسلاميين لا يصب في مصلحة مصر بل يصب في مصلحة أمريكا واليهود، فظهرت مقولة: "الدستور أولاً"، ثم: "المبادئ فوق الدستورية"، ثم: "المبادئ الحاكمة للدستور"، ثم: "المبادئ الحاكمة لاختيار اللجنة التأسيسية التي تضع الدستور"، وأخيراً ما عرف بوثيقة: "علي السلمي"!! وإزاء هذا التسويف والتباطؤ لم يكن أمام الناس إلا اللجوء إلى الوسيلة المجربة التي أسقطت الطاغية المخلوع وهي اللجوء السلمي إلى ميدان التحرير فيما سمي بجمعة المطلب الوحيد الذي هو إعلان موعد محدد لتسليم السلطة إلى أصحابها وهو مطلب منطقي جداً وعقلاني جداً، وبعد أن قضى الناس جمعتهم على خير لم يحتمل النظام اعتصام فئة قليلة جداً اعتصاماً سلمياً فمارسوا معهم ما كان يمارسه المخلوع وعمدوا إلى فض الاعتصام بالقوة وسال الدم الحرام وفقئت الأعين وكأن الناس لا تتعظ ولا تعتبر بما لم يمض عليه إلا عدة أشهر، لقد كان المخلوع أشد قوة وأشرس فتكاً وأكثر جمعاً لكن لم يحل ذلك من أن يلقى مصيره المعلوم، وهاهم الآن يكررون الأمر نفسه، وما لم يكن هنالك تدارك سريع لهذا الأمر المتفاقم فإن النهاية ستكون مثل نهاية من سبق فتشابه البدايات مؤذن بتطابق النهايات.
فمع كل يوم يمضى بل مع كل ساعة تمر يزداد حجم الغضب، والتحرير الآن عندما تراه وترى فعالياته تظن أنك تعيش زخم يناير وفبراير، والشعب إذا عرف طريقه وصمم على سلوكه فلن يقف أمامه أحد أياً كان، على النظام أن يدرك أن جدار الخوف قد سقط وأن الشعب خرج من القمقم، فالمصلحة كل المصلحة في تسليم حقه له بدون تباطؤ ولا فائدة في معاندته، وعلى النظام أن يعمل لمصلحة الأمة وليس لمصلحة جهات أخرى.
فلمصلحة من يحال بين الشعب وحقوقه ويؤخر عن ممارسة مهامه والقيام بدوره، ولمصلحة من يقتل الشعب بأيدي العسكر، ولمصلحة من يسود الاضطراب ربوع البلاد ويتعرض اقتصاد البلد للخلل الشديد؟! أنا لا أشك أن ما يحدث ليس فيه فائدة لمصري واحد أمين على بلده، وأن عواقب ذلك وخيمة، وكان على النظام أن يأخذ العبرة والعظة مما حدث للنظام السابق ولا يكون في مكانه متبعاً له حذو القذة بالقذة.
بهذا المنطق السائد في التصرفات التي نراها فإن البلاد مقدمة على مجهول قد تعرف نهاياته لكن تجهل تفصيلاته التي قد تكون مروعة، لكأني أنظر إلى النهايات وقد حقق الشعب مطالبه وقضى قضاء مبرماً على نظام المخلوع: الرأس والجسد، لكن الكلفة سوف تكون عالية جداً، إلا أن يتغمد الله الناس برحمته.
فعلى كل أحد أن يبذل ما يمكنه من جهد لوضع الأمور في نصابها الصحيح، وأقول لمن بيدهم أزمة الأمور أنتم مطالبون بحل سريع ناجز لإخراج البلد مما أدخلتموها فيه وإنكم تتحملون كامل المسئولية عن النفق الذي أدخلتم البلاد فيه وعن الدماء التي أريقت والأرواح التي أزهقت، وأقول خاصة للمشايخ والدعاة الذين ينظر إليهم على أنهم قادة الناس إن القيادة ليست بخطبة أو بكلمة وعظية أو بظهور في فضائية أو بارتداء مشلح وما شابه ذلك، إن قيادة الجماهير تتطلب أن يكون القائد بينهم يعبر عن أمانيهم وآمالهم ويقف في صفوفهم يقودهم ويدافع عنهم، فيا أيها الدعاة لقد تخلف الكثير منكم عن موطن الشرف في 25 من يناير فلا تكرروا الخطأ مرة أخرى وإنكم إن لم تكونوا مع شعوبكم لفظتكم الجماهير وربما تكونوا قد جنيتم بذلك على دعوتكم، لا تظنوا أن الوقوف مع حق الشعب يخالف المصلحة بل المصلحة الحقيقية تكون في الوقوف مع الحق وإن ترتب عليه بعض المغارم فكونوا معهم وحثوا إخوانكم وتلامذتكم على الوقوف بجانبهم، وإني أثمن هنا موقف الشيخ الدكتور: "حازم أبو إسماعيل"، حيث أبت شهامته أن يترك المعتصمين في ميدان التحرير عندما علم بما يلاقون بل خف إليهم سريعاً ودعا أنصاره إلى الذهاب وتكثير سواد المعتصمين وكذلك أثمن ذهاب الشيخ: "حسن أبو الأشبال"، والدكتور: "صلاح الدين سلطان"، والأستاذ: "ممدوح إسماعيل" المحامي، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى وحفظ بلاد المسلمين من كل سوء.