إسلامية عمر لا ديمقراطيته
إذا أردت أن تعرف الأمم البدائية في تفكيرها وعيشها وسياستها فانظر في حال حكامها معها، فإذا كانت الأمور كلها تقف عند عتبة السلطان فلا ينفذ منها شيء إلا بأمره، ولا تتم حاجة إلا وفق رغبته، ولا تنطلق راية إلا على ما يحب، ووجدت الشعراء ينظمون فيه الشعر، والأدباء يهدون إليه المؤلفات ويحبرونها لأجل عينيه، والعلماء يفتون بما يوافق سياسته، والسياسيون ينسجون على منوال رغباته، والأمة كلها تحترق لتطبخ له أكله؛ فاعلم أن هذه الأمة منحطة لا تستحق شرف الإنسانية ولا تعب على أعدائها في استغلالها واستغلال القائمين عليها لتحقيق مآربهم..
لقد مر التاريخ الإسلامي بأحوال مريرة عاشت فيها الأمة عيشة الكلاب، وماتت ميتة الخنازير؛ لأجل رجل واحد مستبد لا يخاف الله ولا يرجو الدار الآخرة ولا يطمح لغير أهوائه ولا يبذل إلا لملذاته، وهي صفة كادت أن تكون عامة تشمل البلاد الإسلامية وغيرها، ولذلك كثرت الحروب غير المبررة وعمت الفتن وطمت الابتلاءات، وانقسمت الأمة إلى أحزاب سياسية باحثة عن الملك والسلطان وإن حاولت أن تلبس لبوس الدين والاعتقاد.. ومن رحمة الله بأمة الإسلام أن يبعث لها مجددًا يجدد لها أمور دينها ويعيد صياغتها ويمحو البدع والخرافات ويطهر القلب من أوضار الاعتقادات الفاسدة، ويزيل عن وجه الأمة المحنة السياسية المرتبطة بالمال والسلطة والقوة، وكان من أولئك النفر عمر بن عبد العزيز الذي يصدق عليه أنه أعاد الأمة ورمم بنيانها ولم يكتف ببناء دولة تضم المسلمين وتحمي ذمارهم، إن كل من أتى قبله حاشا الخلفاء الأربعة وكذلك من أتى بعده إلا بعض الخلفاء والملوك وهم قلة يدعو إلى الدولة والمملكة متخذًا الإسلام مطية لأغراضه ووسيلة للحصول على مراده، حتى إذا حقق مبتغاه قلب الأرض جحيمًا على المسلمين وأذاقهم الويل والثبور، أما عمر بن عبد العزيز فرجل آخر أثبت أن الحل لمشكلات العالم يكمن في الإسلام حينما يجد الرجال الصادقين لتحمل رسالته والتضحية بكل أفكارهم لأجل أفكاره، وبمالهم لإثرائه، وبوقتهم لرفعته، وبصحتهم لعافيته، وبقبيلتهم لعقيدته..
سنتان وخمسة أشهر عمر قصير جداً في حساب الوقت والناس، ولكنه كبير جدا في حساب الصدق والبذل والتضحية! تمر الوزارات تلو الوزارات والملوك تلو الملوك والفساد بحاله والمشاكل تزداد والمصائب تتوالى، فإذا سألت أحدهم عن خططه وبرامجه ومشاريعه وأهدافه وما حقق منها وهو قد أمضى في وزارته أربع سنوات أو ثمان يقول لك: "لم يكن الوقت كافيا لعمل شيء"! والحقيقة أن الوقت لم يكفه ليبني لنفسه مستقبلاً ولأبنائه حسبًا ولورثته رصيدًا، ولو كان صادقا لوجد الوقت والمال والعقول والقوة أو على الأقل لاستبان له الطريق وعرف عوائقه وحجمها وكف يده حتى لا يحسب في حساب الوهن والفساد!
عمر في سنتين وخمسة أشهر أعاد الأمة إلى سابق عهدها أيام النقاء والطهارة والصدق وتقديم الإسلام على النفس والأهل والمال، ولم يكن لشخص الخليفة مكانة تسحق الرؤوس وتعتصر القلوب وتفرض وجودها على كل شيء، بل منع الشعراء من مدحه ولم يعطهم من مال المسلمين شيئًا، ورفض المتكلمين والوشاة وأصحاب الأغراض ولم يسمح لهم بمجالسته أو حضور مشاهده حتى يئسوا منه ومن أنفسهم، ولم يسمح للظالمين ممن كان متوليا الولايات أن يستمر فيها بل أسقطهم فلم تقم لهم قائمة وولى من يخاف الله ولا يريد إلا نصرة الإسلام..
ولما أحس الناس بصدقه، وعرفوا إيمانه، وقدروا أفعاله كف الناس ألسنتهم وأيديهم والتفتوا لأشغالهم وأعمالهم، بل وصل الأمر بأهل الأهواء ومن رفع السيف على المسلمين أن يغمده احتراما لهذا الخلفية الكبير في دينه وخلقه وعدله، وهذه إحدى غرائب التاريخ ومرد ذلك إلى الصدق والعدل، فالذي ساوى بين المسلمين ورد المظالم التي كانت في أيدي بني أمية لأهلها وجردهم من سلطانهم وأبهتهم القائمة على ضعف الناس، حقيق أن يقف الجميع في صفه ويكونوا معه في أموره كلها، ولذلك اتسع له الزمان والمكان لعمل ما يخدم الإسلام والمسلمين، فأصلح الأمة من داخلها ونظمها من نقطة البدء من النفس، وفتح المجال لكل عامل أن يتقدم في عمله لا يشغله شاغل ولا يقف في وجهه أحد، فقويت الأمة دينيًا، ونشطت اجتماعيًا، وأثرت اقتصاديًا، وامتلأت سياسيًا، واعتزت عسكريًا، فكانت أمة وسطًا بلغت المجد في حالتها وإن لم توغل في أرض العدو جيوشها، وأصبحت خلافة عمر بن عبد العزيز مثالاً حقيقيًا على نقاء الإسلام وعدله وصلاحيته لقيادة العالم، وغدت المدينة الإسلامية بحق مدينة فاضلة عانقت السماء بوجهها، وأصلحت الأرض بعملها وارتفعت عن درك الأمم البدائية الخاضعة للأطماع والرغبات والأهواء.
- التصنيف: