مجاهد.. أسلم على يديه ألف أسير
تاريخ الإسلام تاريخ مجيد، حافل بالعظماء ملوكا وقادة وعلماء ومفكرين، ولقد نبغ في كل باب طائفة كبيرة لم تظهر في أمة من الأمم أمثالها.
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي - تاريخ الأندلس -
تاريخ الإسلام تاريخ مجيد، حافل بالعظماء ملوكا وقادة وعلماء ومفكرين، ولقد نبغ في كل باب طائفة كبيرة لم تظهر في أمة من الأمم أمثالها.
وعبر تاريخ الإسلام الممتد زمانا ومكانا اشتهر سادات كرام، وولاة عظام، وقادة أعلام، شهد التاريخ لهم في صفحاته بالنبوغ والعظمة، واطلع على ذلك من اطلع من أبناء المسلمين خاصة، ومن المهتمين بالتاريخ في العالم عامة.
عقبة بن الحجاج السلولي:
وفي ثنايا صفحات التاريخ أسماء لا تقل عظمة ولا حفاوة ولا تأثيرا عن هؤلاء المشهورين الذين ازدان بهم تاريخ العالم، غير أن كتاب التاريخ خلا عن بعضهم، وخلد ذكر آخرين في خبايا زواياه، وكم في هذه الخبايا من جواهر ولآلئ تحتاج أن ننفض عنها غبار التاريخ، ونعيد عرضها لأبنائنا؛ ليعرفوا مجد الأولين، ولتكون لهم فيهم قدوة حسنة، عساها تشعل فيهم العزم والهمة التي كانت في آبائهم، أو تنقلهم من السفاسف إلى الجد وطلب المجد.
ومن أعلام تاريخنا المجيد أمير وقائد اسمه عقبة، لا ليس هو عقبة بن نافع رحمه الله، إنما هو عقبة آخر.. إنه عقبة بن الحجاج السلولى رحمه الله أمير الأندلس.
توليه الأندلس:
كان عبيد الله بن الحبحاب عاملا لدولة الخلافة الإسلامية الأموية وواليا لها على إفريقية، وقد بلغه عن عقبة بن الحجاج ما يسر، من حسن الرأي، وعلو الهمة، وقوة العزيمة. فدعاه وكلمه، فتفرس فيه النجابة وعلا في نفسه قدره، وأراد أن يوليه، فخيره بين إمارة إفريقية – التي تضم كل الشمال الإفريقي - وبين إمارة الأندلس، ففَضَّلَ إمارة الأندلس؛ لأنَّها أرض جهاد.
دخل عقب الأندلس أميرا في شوال سنة 116هجرية (أواخر سنة 734 م). وكان عقبة من طراز عبد الرحمن الغافقي جندياً عظيماً، نافذ العزم والهيبة، محمود الخلال والسيرة، كثير العدل والتقوى؛ فأقام النظام والعدل، ورد المظالم، وقمع الرشوة والاختلاس، وعزل الحكام الظلمة، وأقام مكانهم جماعة من ذوى الحزم والنزاهة، وأنشأ كثيرا من المدارس والمساجد؛ فاستقرت الأحوال، وخبت الفتن، وتراضت القبائل.
وبعد أن أخمد الفتن، واستقرت له البلاد، ودان أهلها له بالطاعة، اعتزم عقبة في الوقت نفسه أن يعيد عهد الجهاد والفتوح العظيمة، وأن يوطد سلطان الإسلام في الولايات الشمالية، وفى غاليس (فرنسا)؛ فنظم الجيش وزاد في قواته وأهبته، وأعده أحسن الإعداد ليعيد أمجاد المسلمين في هذه البلاد.
وخلال ولايته، شن عقبة حملات سنوية على المناطق الشمالية، فسيطر على "بنبلونة" وأسكنها المسلمين، وغزا "جليقية" وتوغل فيها، واستولى على كثير من مواقعها، ولكنه لم بستطع أن يسحق بقية النصارى التي اجتمعت حول الزعيم القوطى بلاى (أو بلايو)، وما زالت معتصمة بأقاصى الجبال في حصن عرف لمنعته ”بالصخرة“، غير أنه حاصرهم وجيش المسلمين وضيّقوا عليهم حتى لم يجدوا ما يقتاتون به سوى عسل الجبال، وقلّ عددهم جدا، ولم يعودوا يشكلون خطرا على المسلمين، فانصرف عنهم.
كما غزا بلاد الإفرنج بعد أن ثبَّت أقدام المسلمين في "بروفنس"، وأقام فيها الحاميات وحشدها بالمقاتلة، حتى بلغت سكنى المسلمين "أربونة"، ثم سار بجيوشه فاستولى على "دوفينيه"، ودمر مدينة "سان بول"، واحتل "فالينس" و"فيين"، وأعاد افتتاح "ليون" واتخذها قاعدة لمهاجمة "بورغونية"، وما زالت جيوشه تتقدم ظافرة حتى بلغت إلى "بيدمونت" بشمال إيطاليا. فحشد "شارل مارتل" الجيوش لمقاومته، فحاصر "مارتل" أفينون" وانتزعها من المسلمين، ثم هاجم "أربونة" وحاصرها وخرب أجزاء كثيرة منها دون أن يستطيع انتزاعها من المسلمين.
سبع سنوات جهاد:
لبث عقبة في ولايته على الأندلس قرابة السبع سنوات (116 ـ 123هـ) وقيل: 121هـ، وقد ظل هذه المدة حسن السيرة، مثابرا على الجهاد والغزو، وكان يخرج للغزو كل عام، وما زال كذلك حتى حصن جميع المواقع الإسلامية على ضفاف نهر الرون، واتخذ ثغر "أربونة" قاعدة للجهاد والغزو، فحصنها وبعث إليها بالجند والمؤن والذخائر. وعاد نهر الرون رباطا للمسلمين ومعقلا لفتوحاتهم، بعد أن كان الفرنج قد استردوا ما بيد المسلمين في تلك الأنحاء.
وقد ظل عقبة في ولايته إلى صفر عام 123هـ، حينما خلعه عبدالملك بن قطن مستغلاً ثورة البربر بقيادة ميسرة المطغري على الأمويين في المغرب، وانقطاع صلة عقبة مع دولته.
وقال بعض المؤرخين: إنه قتل شهيدا في معركة بلاط الشهداء. والله أعلم.
ثناء المؤرخين عليه:
وقد أثنى مؤرخو المغرب الإسلامي على الأمير عقبة السلولي ثناء عطرا، وذكروه في كتبهم بالذكر الجميل:
قال عنه المؤرخ ابن عذارى: «أقام عقبة بالأندلس بأحسن سيرة وأجملها، وأعظم طريقة وأعدلها».
وقد وصفه المقري بقوله: «كان محمودَ السيرة، مجاهدًا مظفَّرًا».
وفي كتابه الذي يحمل عنوان (قضاة قرطبة وعلماء إفريقيا) ذكر مؤلفه أبو عبدالله محمد بن حارث بن أسد الخشني القيرواني الأندلسي، وهو مؤرخ أديب محدث فقيه توفي سنة 361 هـ. قال:
(كان عقبة بن الحجاج السلولي، كما تروي ذلك كتب التاريخ، صاحب جهاد ورباط، ونجدة وبأس، ورغبة في نكاية المشركين، وكان إذا أسر الأسير لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام حينا، ويرغبه فيه، ويبصره بفضله، ويبين له عيوب دينه الذي هو عليه.. ويذكر أنه أسلم على يديه بذلك الفعل ألفا رجل، وفي رواية أخرى ألف رجل.
رحم الله عقبة بن الحجاج السلولي وأسكنه فسيح جنته.