دعوة محمد بن عبدالوهاب بين التأييد والمعارضة
هذا مقال قيِّم بعنوان: دعوة محمد بن عبدالوهاب بين التأييد والمعارضة، وهو مُسْتَل من كتاب: مقالات في الأدب واللغة لـ أ. د. محمد محمد حسين رحمه الله تعالى:
هذا مقال قيِّم بعنوان: دعوة محمد بن عبدالوهاب بين التأييد والمعارضة، وهو مُسْتَل من كتاب: مقالات في الأدب واللغة لـ أ. د. محمد محمد حسين رحمه الله تعالى:
دعوة محمد بن عبدالوهاب بين التأييد والمعارضة (أسبوع محمد بن عبد الوهاب)
لازم دعوة محمد بن عبدالوهاب ما يلازم الدعوات الكبرى من نشاط فكري وحركي على الجانبين الإيجابي والسلبي، ومن المؤشرات التي توزن بها ضخامة الدعوات الجديدة، عنف حركة التأييد والمعارضة على السواء، ذلك لأن الدعوات الكبرى تفاجِىء الناس عادة بغير ما عهدوا من مألوف المعتقدات والعادات، فيتهيبها الناس في أول الأمر، ويستعظمون ما جاءت به، فإذا تدبرها بعض العقلاء واكتشفوا ما تنطوي عليه من الحق والخير، تعصبوا لها تعصباً شديدًا، ثم تجيء ردود الأفعال عند الذين يأكل قلوبهم الحسد على المكانة التي يحظى بها صاحب الدعوة بين أنصاره ومؤيديه، والزعماء الذين يتمسكون بالأمر الواقع الذي سودهم ولا يرحبون بالجديد الذين لا يأمنون عواقبه، لأن أي خلخلة للاستقرار القائم ستجلب معها زعامات جديدة تلائم الواقع الجديد، وبين هاتين الطائفتين من المتعصبين للتأييد والمعارضة ينشأ التطرف الذي يسيء إلى الدعوة في تطبيقها وتفسيرها من ناحية، وفي سوء فهمها والادعاء عليها بما ليس فيها من ناحية أخرى.
وسمة أخرى من سمات الدعوات الكبرى لازمت دعوة محمد بن عبدالوهاب، وهي تتمثل في تعرضها على يد أعدائها ومعارضيها للمحن، وثباتِ صاحبها على المكاره ذلك؛ لأن اتساع نفوذ الدعوة على مر الأيـام يـدفـع أعداءها إلى الشعور بالخطر على أنفسهم وعلى مصالحهم، فيبذلون كل ما يسعهم من جهد للقضاء على الدعوة وعلى صاحبها، وقد يذهبون في ذلك إلى حد تدبير المكايد للتخلص من صاحب الدعوة نفسه بقتله، ثم إن هذا الأذى والاضطهاد هو الاختبار الأكبر الذي يمتحن به صدق الدعوة وإخلاص صاحبها، فإذا ثبت على دعوته وصبر على ما يلقى من الاضطهاد زاده صبره صلابة وثباتا على مرّ الأيام، لأنه يُزَكِّي نفسه، ويمكن لإيمانه، ويقوي توكله على الله.
ولكي توزن دعوة محمد بن عبدالوهاب بميزان عادل، يجب أن يوضع في الاعتبار حالة المجتمع الذي نشأت فيه الدعوة قبل ظهورها، لتقارن بحالته بعد انتشارها، كما ينبغي أن يوضع في الاعتبار ردود الأفعال التي لا بد أن تتسرب إليها وتشوبها في مقاومتها للوضع السائد الذي تعارضه ونندد به، لأنها في دعوتها إلى نبذ الأوضاع القائمة، والانحرافات السائدة، تشنِّع بها وتقدمها في أبغض الصور لكي تصرف الناس عنها، وتبين لهم بشاعة ما هم عليه من فساد الحال، ثم إن ذلك لا يزيد خصومها إلا لددًا في خصومتهم، فيبالغون في التشنيع بها ونشر قالة السوء عنها، وتصيد الأخطاء التي ربما وقعت من أتباعها، وحمل أفعالهم وتأويلها على أسوأ محمل، وربما بلغوا في ذلك أن يدعوا عليهم ما ليس فيهم، وذلك كله مما يملأ قلوب أصحاب الدعوة وأتباعها حنقاً، فيكيلون لهم بمثل كيلهم، وهكذا فإن تفاعل هذه الخصومات لا بد أن يجر إلى شيء من المبالغة التي يجب أن تكون موضع الاعتبار والتقدير عند الباحث.
والذي يقرأ ما كتبه مؤرخو الدعوة عن عنف معارضيها وتتابع أذاهم وما كتبه الجبرتي في وصف القسوة البالغة التي لازمت غزوات جيوش محمد علي، والفظائع التي ارتكبها ابنه طرسون وابن زوجته إبراهيم وولاة الترك في حوادث سنوات ۱۲۲۸، ۱۲۲۹، ۱۳۳۰، ۱۳۳۴، ١٢٣٦ لا بد أن يتوقع العنف في ردود الأفعال عند أتباع دعوة محمد بن عبد الوهاب، فمن هذه الفظائع رمي جثث القتلى للوحوش والكلاب، وحمل الأسرى من أشراف القوم إلى مصر والأستانة في رقابهم الحديد يُطاف بهم في البلاد على هذه الحال المهينة، ثم يقتلون، ومنها تخريبهم الدرعيَّة مرتين، وقتل من طالته أيديهم من آل سعود وآل الشيخ والتنكيل بالعلماء، وقتلهم بعد تعذيبهم، فمنهم من كان يربط بأفواه المدافع ثم تُطلق فتتناثر لحوم جثثهم في الفضاء، ومنهم من كانت تخلع جميع أسنانه قبل قتله.
ومن هذه الفظائع التي تجاوزت حدود الإسلام ما رواه الجبرتي في حوادث ١٢٢٧ من أعمال النهب والسلب وهتك الأعراض، وذلك كله مع ما عُرفت به جيوش محمد علي من المجاهرة في ارتكاب المعاصي والاستخفاف بالدين وإشاعة الفاحشة جهاراً في نهار رمضان ولياليه مما وصفه الجبرتي في حوادث سنتي ۱۲۲۷، ۱۲۲۹.
وشي آخر ينبغي أن يوضع موضع الاعتبار، وهو أن الشباب والضعفاء هم أسرع الناس إلى قبول الدعوات الجديدة، وذلك مما يدعو الشيوخ والسادة والكبراء إلى رفضها أو التوقف والتردد في قبولها على الأقل، بل يدعوهم إلى الاستخفاف بها، ومقابلتها بمثل ما قابل به قوم نوح دعوة نبيهم حين قالوا: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) [ هود : ۲۷]، وحين قالوا : (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء: ١١١ ]. وقد حكى القرآن الكريم عن المكابرين من الكفار قولهم حين دعوا إلى الإسلام (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) [البقرة : ١٣ ].
ثم إن أتباع الدعوة يختلفون في طبائعهم وفي ثقافاتهم، وينتج عن ذلك اختلافهم في فهم الدعوة وفي تطبيقها، وقد يشوب هذا الفهم والتطبيق عند البدو الذين يغلب على طبائعهم العنف والجفاء بعضُ الانحراف أو الأخطاء، وذلك ما لا يمكن نسبته إلى الدعوة نفسها أو إلى صاحبها، فما من دعوة إلا قد ابتليت بمن يسيء فهمها وتطبيقها، والإسلام نفسه لا يخلو من ذلك، ولكنا لا نحكم على الإسلام بسوء فهم بعض المسلمين أو سوء تصرفهم.
أما لب الدعوة وحقيقتها فهي ثابتة واضحة فيما تركه صاحب الدعوة من كتب ومن رسائل، وهذه الكتب والرسائل هي التي يُحتكم إليها ولا يحتكم إلى سواها في معرفة حقيقة الدعوة مجردة من المبالغات ومن ردود الأفعال، وقد ترك صاحب الدعوة مجموعة من الرسائل التي بعث بها إلى الزعماء والعلماء من أهل عصره يُبصرهم بحقيقة دعوته، ويرد على ما أثير حولها من تُهم وشبهات، وما أشاعه خصومها من اعتراضات، وهذه الرسائل تقدم صورة واضحة لفساد الحال في المجتمع النجدي الذي نزل به الجهل إلى تقديس الحجر والشجر، والقعود عن الأخذ بالأسباب حين استبدلوا به التعلق بأوهام لا تمت إلى الدين بسبب، مع ارتداد الحياة إلى الجاهلية الأولى في البغي والظلم والنهب والسلب والسطو على الأموال والأعراض وقطع الطريق على حجاج بيت الله، ثم إن هذه الرسائل تُقدّم إلى جانب ذلك صورة واضحة لحقيقة الدعوة بما نفته عن نفسها من تهم أعدائها الذين يزعمون أن صاحبها مبتدع يدعي الاجتهاد ويبطل كتب المذاهب الأربعة، وأنه يعم بالكفر من ليس على مذهبه من المسلمين، ويكفر من لم يهاجر إليه ممن يرى رأيه ويستبيح قتاله، وأنه ينكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينهى عن الصلاة عليه، ويعتبر الرحلة لزيارته شركا، وينكر على المسلمين توقير أهل بيته ويقول: إنه لو يَقْدِرُ على هدم القبة التي فوق مسجده لهدمها، وأنه لو يقدر على الكعبة لخلع ميزابها الذهبي وجعل لها ميزابا من خشب، وأنه يسب الصالحين وينكر ولايتهم وكراماتهم، ويُكفّر البوصيري لقوله :
يا أكرمَ الخلق ما لي مَنْ أَلوذُ به *** سواكَ عند حلولِ الحادث العَمَـمِ
ورسائل محمد بن عبدالوهاب ومناظرته لأهل الحجاز في اجتماع رسله بعلمائهم كما وردت في تاريخ ابن غنام معاصر محمد بن عبدالوهاب تكذب ذلك كله، وتقرر أنه متبع غير مبتدع على مذهب أحمد بن حنبل، لا يدعي الاجتهاد، يُقر بشفاعة رسول الله، ويُصلّي عليه كما أمر الله في كتابه، ولا ينهى عن الرحلة إلى مسجده، ولا ينكر كرامات الأولياء، ولا ينهى عن توقيرهم وعن توقير أهل بيت رسول الله، ولكنه ينكر ما يفعله الجهال من سؤالهم جلب النفع ودفع الضر، ومن نذر النذور والذبائح لهم، وينكر ابتداعات المبتدعين، وينصح من يقبل نصيحته من إخوانه أن لا يصبر في قلب أحدهم شيء من الأدعية والأوراد يظن أن قراءته أجلُّ من قراءة القرآن أو تعدلها.
ذلك إلى أن دعوة محمد بن عبدالوهاب قد أسيء فهمها في بعض الأحيان من الخصوم والأولياء على السواء، ومن أبرز ما أسيء فهمها فيه عداوتها للصوفية، التي بدت عند بعض أتباعها والمتأثرين بها كأنها مقصد من أهم مقاصدها، والواقع أن الصوفية لم تكن مستهدفة لذاتها، ولكن الذي استهدفته الدعوة هو انحرافات التصوف لا التصوف نفسه، الذي يقوم في لبه وأصله الأول على الزهد وعلى مغالبة الشهوات، فمهاجمة التصوف مسألة فرعية جاءت ضمن محاربة ابتداعات المبتدعة فيما يعارض التوحيد، ولم تهاجَم إلا في هذه الحدود، ومن المعروف أن محمد علي السنوسي صاحب الطريقة الصوفية المشهورة المعروفة في شمال إفريقية قد تأثر بالدعوة الوهابية، ولم يتعارض ذلك مع دعوته الصوفية التي قامت على جهاد النفس وإعدادها لجهاد أعداء الإسلام من المستعمرين.
وقد بلغ سوء الفهم ببعض أتباع الدعوة أن جعلوا مهاجمة التصوف هو السمة الأولى والهدف المقدم من أهداف الدعوة، حتى خلطوا بهم كل من دعا بهذه الدعوة، واعتبروه منهم غافلين عن أن التصوف يمكن أن يُهاجم من منطلقين مختلفين: من منطلق سلفي يهاجم الابتداع، ومن منطلق علماني لبرالي ينكر الغيبيات ويُخضعها للتفكير الحر، ومن هذا المنطلق خلطوا بين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وبين محمد بن عبد الوهاب، مع أنهم لا يجمعهم به جامع سوى مهاجمة التصوف، ومع أن لهم انحرافات كثيرة في تفسير القرآن وفي الفتاوى الفقهية لا تُقِرُّهم عليها دعوة محمد بن عبدالوهاب بحال من الأحوال، مثل تأويلاتهم العصرية لكثير من آيات القرآن، وإباحتهم التزيِّي بزي غير المسلمين، وأكل لحومهم التي تقتل بغير الذبح، والاستعانة بهم في تربية أبناء المسلمين وتعليمهم، وإباحة الأرباح التي تعطيها صناديق التوفير عن الأموال المودعة فيها، وإباحة التصوير، والتماس العلم بالتاريخ الإسلامي والفرق الإسلامية في كتب المستشرقين، والدخول مع النصارى في دعوة للتأليف بين الإسلام والنصرانية، والدعوة إلى مخالفة أعداء الإسلام المتغلبين على دياره وموادتهم بدلاً من جهادهم، وتولّي الماسونية وقبولهم أن يُقادوا إليها أول ما يدخلونها في حفل التكريس معصوبي الأعين، يقادون بحبل شُد إلى رقابهم كما تقاد الدابة، يطرقون الباب فيسألهم سائل من داخل المحفل: من الطارق ؟ فيجيب طالب الدخول في الماسونية : أعمى يطلب النور.
بل إن في رسائل محمد عبده إلى أستاذه الأفغاني مما هو ثابت الآن بوثائق خطية نشرتها جامعة طهران ونشرها من قبلُ رشيد رضا في كتابه وتاريخ الأستاذ الإمام، ما هو أعظم في نفي التوحيد من التوسل بمن مات من الصالحين، مما يحكم عليه مذهب محمد بن عبدالوهاب بالشرك، مثل وصف محمد عبده للأفغاني في أحد هذه الرسائل بأنه (السيد المطلق، سدرة منتهى العرفان... الإمام الـمُفرَد والعقل المجرَّد، بَدَلُ الأبدال، مهبط الفَيْض، مَصْعَدُ الكلِم الطيب، مَجْلَى سرِّ الجمال الأكمل)، وقوله في رسالة أخرى: (ليتني أعلم ماذا أكتب إليك وأنت تعلم ما في نفسي كما تعلم ما في نفسك، صنعتنا بيديك، وأفضتَ على موادِّنا صورَها الكمالية، وأنشأتنا في أحسن تقويم، فعنكَ صدَرنا، وإليك إليك المآب)، وفيها يقول: (وروح حكمتكَ التي أحييتَ بها مَواتنا، وأنرت عقولنا، ولطَّفت بها نفوسنا، بل التي بَطَنت بها فينا فظهرْتَ في أشخاصنا، فكنا أعْدَادَك وأنت الواحد، وغَيْبَك وأنت الشاهد، ورَسمُك الفوتوغرافي الذي أقمتُه في صلاتي رقيبا على ما أقدم من أعمالي ومسيطراً على أحوالي)، وفيها يقول أيضا : (فإنّي على بينة من أمر مولاي، وإن كان في قوة بيانه ما يشكِّك الملائكة في معبودهم، والأنبياءَ في وَحْيهم).
والواقع أن الصوفية يجب أن يُفرَّق فيها بين منهجين، أحدهما منهج في السلوك يأخذ بيد المنحرفين البعيدين عن الصراط المستقيم ويتدرج بهم حتى يضعهم على المحجة البيضاء، ويتدرج بالمستقيمين على طريق الدين في رياضات روحية تسمو بهم حتى تخلصهم من سلطان الشهوات على اختلافها: شهوة البطن وشهوة الفرج وشهوة الجاه والسلطان وحب المال، وهذا المنهج صحيح مفيد لا بأس به في أكثره، والمنهج الآخر منهج في الفكر والمعرفة، يخوض في عالم الغيب، ويقول فيه بغير دليل ويغامر في اقتحام مجاهيل محجوبة عن علم الناس، يضر الخوض فيها ولا يفيد، وأكثره مفسد للعقيدة، يشوبه خلط كثير يزعزع الإيمان.
وقد فهم الصوفيةُ من جانب آخر أن محمد بن عبدالوهاب ينكر ولاية الصالحين وكراماتهم وهو غير صحيح، وكُتْب محمد بن عبدالوهاب وكُتْب أستاذه الأعلى ابن تيمية تشهد بغير ذلك، كل ما في الأمر أنها لا يعتبران صدور الغرائب من إنسان دليلاً على ولايته، لأن الغرائب تجيء من طريق شيطاني كما تجيء من طريق رحماني، ثم إنهما يعترضان على الاعتقاد بأن هؤلاء الصالحين من أولياء الله قادرون على جلب النفع أو دفع الضر، وقد قادهم سوء الظن مع ما شاهدوه من عنف بعض أتباع الدعوة وسوء فهمهم إلى الادعاء بأن مذهب محمد بن عبدالوهاب يمنع من الصلاة والسلام على رسول الله، ومن زيارته ويحقر أصحابه، وهو غير صحيح نفاه محمد بن عبدالوهاب فيما رد به على شبهات أعدائه في رسائله، وهكذا أفضى سوء ظن الصوفية بالدعوة وأتباعها إلى العنف والإسراف في مهاجمتها.
وبعد : هذه جملة من المسائل، أرجو أن يكون في طرحها ما يدعو إلى مزيد من البحث والإيضاح والحمد لله أولاً وآخراً، وصلَّى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما كثيرا.
نقله سالم محمد
- التصنيف: