إستراتيجية اتفاقية (سايكس- بيكو) الجديدة!

منذ 2011-12-05

إنَّ اختيار هذا الحدَث التاريخي الذي عُنِي بتقزيم وتمزيق (كعكة) العالم الإسْلامي لِمُعظَمِ أجزائه يُوحِي من خِلال القَرائن والشَّواهد والوَثائق بأنَّ هناك علاقةً وطيدةً بما نحن فيه، إذا لم يتمَّ تدارُك الموقف، من خِلال حِرص الدُّوَلِ الصِّهيَوْغربية إلى تفتيت ما يمكن تفتيته، لبَسْطِ سيطرتهم أكثر على العالم الإسلامي، وحتى لا تقوم له قائمة في ردع الكيان الصِّهْيَوْني! فالسِّياق التاريخي للحدث الأوَّل أفرز دولةَ الصَّهاينة بِناءً على الوعد المشؤوم (وعد بلفور) سنة 1917م بينما ما يجري حاليًّا يُسهِمُ في بَقاء هذا الكيان سالِمًا غانِمًا، لا يقدر أيُّ أحدٍ من الدول العربيَّة على مواجهته، بل حتى البوح ببنت شفة مما يجري في أرْضنا الحبيبة فلسطين، نتيجة انشِغالها بقَضايا أخرى، إمَّا ترفيهيَّة، أو لتوسيع النُّفوذ، أو مشاكل داخليَّة ممزقة!

ماذا يُقصَد بـسايكس- بيكو في بُعدها التاريخي؟ إطلالة سريعة على الحدث:
لقد سبَقتْ أحداثٌ مهمَّة قبل توقيع مُعاهَدة أو اتفاقيَّة سايكس- بيكو، ولعلَّ من أهمها:
• بعد أنْ فشلت المخطَّطات العسكريَّة البريطانيَّة في العراق إبَّان الحرب العالميَّة الأولى، ونتيجة عجزها عن السَّيْطَرة على المضايق التركيَّة، ومع زيادة ضَغط القوَّات التركيَّة على منطقة قناة السويس، هذا الأمر جعَل تعاون العرب مع القوَّات البريطانيَّة أمرًا حيويًّا للغاية، لذا عملت بريطانيا على استِمالة الشريف حسين (حاكم الحجاز) إليها، وبدَأتْ بين السير (مكماهون) وحسين مُكاتَبات ومُراسَلات استمرَّت (18) شهرًا، عُرِفَتْ باسم مراسلات (الحسين- مكماهون) كانت بريطانيا تهدف من وَرائها إلى دفْع العرب إلى الثورة على الأتراك، أمَّا الحسين فكان يأمل قيام دولة عربيَّة على المشرق العربي، وهي المنطقة التي تضمُّ الجزيرة العربيَّة والعراق وبلاد الشام، ويتولَّى هو حكمها.

• كما حرَص العرب على الحُصول على اعترافٍ بحقِّهم في تأسيس دولة عربيَّة، من هنا كانت تُجرَى سِرًّا مفاوضاتٌ بين دول الوفاق (بريطانيا وفرنسا وروسيا) حول اقتسام الدولة العثمانيَّة (تركة الرجل المريض).

• فقد توصَّلت الدولتان الحليفتان: فرنسا وبريطانيا إلى هذه المعاهدة في 16 مايو 1916م، نتيجة محادثات سريَّة دارَتْ بين ممثِّل بريطانيا السير (مارك سايكس) وممثِّل فرنسا (المسيو جورج بيكو) اللذين عرَضَا نتائج مُحادثاتهما السريَّة على روسيا القيصريَّة، فوافقت عليها في مُقابِل اتِّفاق تعترفُ فيه بريطانيا وفرنسا بحقِّها في ضمِّ مناطق مُعيَّنة من آسيا الصُّغرى بعد الحرب، وبموجب معاهدة سايكس- بيكو قسَّمت بريطانيا وفرنسا المشرق العربي إلى خمس مناطق هي: (السواحل السورية واللبنانية) وهذه أُعطِيت لفرنسا (والعراق والخليج) أُعطِي لبريطانيا، وبالنسبة (لفلسطين) فقد اتُّفِقَ على إنشاء إدارةٍ دوليَّة فيها، لكن ثبت أنَّ التدويل (اتخاذها صبغة دوليَّة) كان مجرَّد خطوة أولى، تبعَتْها خطوة (وعد بلفور 1917م) ثم الانتداب البريطاني فيما بعدُ، أمَّا المنطقتان الرابعة والخامسة، فقد اتَّفقت بريطانيا وفرنسا على الاعتراف بدولة أو حلف دول عربيَّة مستقلَّة برئاسة رئيس عربي فيها، على أنْ يكون لفرنسا في إحدى المنطقتين (المنطقة الداخلية السورية) حق الأولويَّة في المشاريع والقُروض المحليَّة والانفراد بتقديم المستشارين والموظَّفين، وكذلك الأمر بالنسبة لبريطانيا في المنطقة الداخليَّة العراقيَّة.

اتفاقية (سايكس- بيكو) الجديدة، هل يعيدُ التاريخ نفسه؟!
قد يكونُ من السابق لأوانه الحكمُ على الوضع الحالي حكمًا آنيًّا ومطلقًا، لكنْ تَوالِي مجموعة من المعلومات الاستخباراتيَّة الغربية (وثائق ويكليكس التي كشَفتْ عن بعض الخبايا، كما كشف الروس عن اتفاقية سايكس- بيكو المشبوهة) والأحداث المتوالية، خاصَّة التدخُّل الغربي في الشُّؤون الداخليَّة للمسلمين (1) يُنبِئ بأنَّ القادم إنْ لم تتَكاتَفْ جهود المسلمين للملمة الوضع المتأزِّم، سيعجل بتفتيتها أكثر، تحت شعار: (تقسيم المقسَّم، وتجزئة المجزَّأ).

في بداية القرن العشرين أطلق الصحفي المشهور توماس فريدمان قولته المشهورة: (إنَّ الدول العربيَّة هي مجموعةٌ من القبائل بأعلامٍ مختلفة) وإن دلَّ هذا على شيءٍ فإنما يدلُّ على الترويج لثقافة التفتيت والتجزيء، التي يسعى الغرب والصَّهايِنة إلى تكريسها وتنفيذها.. صحيح أنَّ أغلب الصِّراعات الحاليَّة الحدوديَّة بين دول العالم العربي والإسلامي وريثة الاستِخراب (الاستعمار) ومخلَّفات الحرب الباردة مثل (المغرب) من خلال حِرص سواء الأطراف الغربيَّة أو الدول العربيَّة الإسلاميَّة المجاورة، خاصة الجزائر على انفِصال جنوب المغرب عن شماله، والإمارات مع إيران، والكويت مع العراق...

لكن مع الإجراء الانفصالي الخطير الذي تَمَّ في العصر الحالي، السودان التي انفصل جنوبها عن شمالها بدأت تحومُ أفكارٌ في رأس كلِّ متتبِّع، وكلِّ ذي غيرة على دِينه وأمَّته أنَّ شيئًا ما يُحاك في الخَفاء، كما أنَّ الطريقة الجهنَّميَّة التي يُجرِّبها التحالُف الدولي الإمبريالي الغربي الجديد في ليبيا حاليًّا أشدُّ ذكاءً وفتكًا من طريقة الإدارة الأمريكيَّة في عهد الرئيس جورج بوش الابن حين احتلَّت العراق، وأشد وأعقد من سايكس- بيكو القديمة.

في الوضع الراهن وبفضل زلزال الثورات التي انفرط عقدها، أصبح الطريق مختصرًا جدًّا على الكيان الصِّهيَوْغربي، إذْ يكفي إشعال فتيل شعار (الشعب يريد إسقاط النظام) على أي بلد عربي آخَر، كما هو الشأن بالنسبة لليبيا لتبدأ في إرسال مُعدَّاتها العسكريَّة خِدمةً لمشروع التفتيت، وتكريسًا للهيمنة الغربية على العالم، صحيحٌ أنَّ الشعب العربي المسلم عانَى ردحًا طويلاً من الظُّلم والطُّغيان والفساد، ويسعى من خِلال ثوراته المباركة، إلى محو كلِّ أشكال الظُّلم الداخلي الذي يُمارِسُه الحكَّام وزبانيتهم، والظُّلم الخارجي الذي يُمارِسُه الكيان الصِّهيَوْني بكلِّ أجهزته، لكن كل هذا لا ينبغي أنْ يدفَعنا دفعًا إلى تفتيت بلداننا أكثر ممَّا هي مفتَّتة، بل التفكير في حلِّ مشاكلنا بطرق سلميَّة دُون إعطاء الفُرصة للدول الصِّهيَوْغربية للتدخُّل في شُؤوننا الداخليَّة، من خِلال الاتِّفاقيات السريَّة بين الكيان الصِّهيَوْني وبعض الحكَّام العرَب الذين لا يهمُّهم سوى الحِفاظ على عُروشهم على حِساب وحدة العالم الإسلامي..!

فالغرب على حدِّ تعبير الباحث (محمد الهداج) يريدُ نفط ليبيا، وفي سبيل ذلك يريدُ (بلقنتها) أو (صوملتها) أو (عرقنتها) والبعض منَّا يُطبِّل لقراصنة النفط كالبُلهاء، وحين يضَعُ هؤلاء القراصنة أيديهم على نفط ليبيا، سنرى أشلاء الليبيين مرميَّة في الطرقات وفي الأسواق، كما ستصلنا صور جنود أمريكيين أو فرنسيين أو.. تعرض أجساد عُراة لليبيين كما شاهدنا ذلك في العراق وأفغانستان والصومال..

كما لا ينبغي أنْ يغيب عن أذهاننا الإستراتيجية الإيرانيَّة في أفق تحقيق مشروع (الدولة الشيعيَّة الكبرى) وفي المقابل تفتيت (أهل السُّنَّة) شيعًا وفرقًا متناحرة من خِلال الاتِّفاقيات المكثَّفة التي عقدَتْها مع عدوِّها، كما تدَّعِي حول العراق لإنهاء الاحتقان الطائفي، بالهجمات المتكرِّرة آنَذاك على المحتلِّ...! من خِلال الدَّعم غير المسبوق لدول التحالُف الإمبريالي، من أجل ضرب العراق وأفغانستان، وما هذا الإجراء المتعاون مع الاستكبار العالمي -على حدِّ تعبيرها- إلا سعي منها لتحقيق مشروع أكبر دولة شيعيَّة في العالم، وحاليًّا بدأ صوتها يعلو على البحرين للوقوف إلى جانب الرَّوافض، من خِلال تصريحاتها الرسميَّة الناريَّة التي تَفُوح بها! ونفس الشيء صرَّحت به من خِلال دَعْمِها للنِّظام المستبدِّ في سوريا الذي أتى على الأخضر واليابس فيها، بل لم تترُكِ الآلة العسكريَّة والشبيحة طفلاً رضيعًا ولا شيخًا كهلاً إلا سامَتْه أنواع العذاب، من تذبيحٍ، وتنكيلٍ، وتقتيلٍ، رغم أنَّنا نطمح إلى بناء مجتمع إسلامي يَسودُه العدل، هذا طموحنا الأكبر، ولكن في الآن نفسه وجَب على التنسيقات واللجان الثوريَّة عدمُ الانسياق وراء ادِّعاءات الغرب، بل التعامُل بحكمةٍ، وبأقل الخسائر..

وفي الأخير: إنَّ نداءنا من هذا المنبر الجادِّ هو قراءةٌ للأحداث قراءةً واعية، وأخذٌ للحيطة والحذر ممَّا يُحاك ضدَّ المسلمين، ثم ضرورة إعادة توحيد العالم الإسلامي وتوجيه العناية إلى رتْق الفتْق قبل اتِّساعه، وتدارُك العلَّة قبل استِحكامها، فلا يظنُّ بنا التحليق في الخيال، فقد تعلَّمنا من سيرة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم كيف نتفاءل ونُواجِه الأزمات بروحٍ مشرقة، آمِلين في تحقيق نصر الله عزَّ وجلَّ بعد الأخْذ بأسبابه.

نحن أمَّةٌ ما زال الخير فينا ينبض بدماء الحياة، ويتمتَّع بمقومات الوجود، غير أنَّ وجودنا هذا اعتَراه ما يعتَرِي وجود الأمم من ضعفٍ وانحرافٍ فور تحييد الدين الإسلامي العالمي عن جميع دواليب الحياة العامَّة! الإسلام نظامٌ عالمي، قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].

-------------------------------------------------------------
(1) ها هنا في هذه الفقرة لا أُؤيِّد استمرار الطُّغاة على كرسي عرش المسلمين، ولكنَّنا نوافق على حلِّ المشاكل بين الدول الإسلاميَّة فيما بينهم، دون إعطاء فرصةٍ للتدخُّل الأجنبي

المصدر: مولاي المصطفى البرجاوي
  • 5
  • 1
  • 5,008

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً