إذ تلقونه بألسنتكم
ينبغي كذلك قبل كل شيء إحسان الظن بالمسلمين، والتماس الأعذار لهم، وعدم تتبع عثراتهم وعوراتهم، وعدم الفرح والسرور إن سمعت عن أحد من المسلمين خبراً يسيء إليه...
تمر الأمة الإسلامية هذه الأيام في منعطف خطير، وتعيش أزمة تتمثل في كل مجالات الحياة: السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، مما يحتم على النخب الثقافية والسياسية وكافة المفكرين، والدعاة والمصلحين، أن يكونوا على قدر المسؤولية، وأن يكونوا واعين فاهمين لما يجب عليهم أن يقوموا به تجاه هذا الواقع المأساوي المؤلم.
لا شك أن العديد من دوائر الإعلام الغربي والعالمي تقوم في هذه الأيام بدور خطير، يتمثل في محاولة رسم خارطة جديدة للأمة العربية والإسلامية، وإعادة ترسيم الحدود الجغرافية والفكرية للدولة العربية والإسلامية، بدعوى الطائفية والمذهبية، حيث يرى كثير من المحللين والمفكرين أن ما يجري هو تعديل لمعاهدة سايكس بيكو، التي تمت قبل قرن من الزمان، من هنا نرى الأخطار تحيط بكافة أرجاء الأمة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، والإعلام يساعد في إذكاء نار الفوضى، وتضخيم ما يجري، حتى تبدو الدول العربية والإسلامية وكأنها تعيش في أرض ملتهبة، كيف لا وهو إعلام مسيَّس لا يمكن أن يوصف بأي صفة من صفات المصداقية والشفافية، تقوده اليهودية العالمية وأتابعهم ممن يسيطرون على مفاصل الإعلام العالمي، ومعظم وكالات الأنباء، والعديد من الصحف والمنابر الإعلامية العالمية، ولا يفلت من مثل هذه الهيمنة إلا القليل القليل من الفضائيات والقنوات الإعلامية.
من هنا تبرز خطورة الكلمة وحجم الإشاعة، والدور الخطير للأخبار الملفقة الكاذبة التي تصب في هذا الهدف الخطير. ومن هنا تأتي أهمية هذا المقال، فالإشاعة أصبحت واقعاً حياً نراه ونسمعه صباح مساء، والأخبار الكاذبة المضللة أصبحت هي الطابع العام لمعظم الأخبار العالمية، وأصبح الكثير منا يعيش وكأنه في ساحة مفتوحة تهطل عليه الأمطار الغزيرة الشديدة دون أن يجد له مكاناً يختبئ فيه منها، أو قدرة على صدها، نعم هكذا هي الأخبار في هذه الأيام، أصبحت كالمطر، لا يمكن دفعه أو الاختباء منه، حتى أصبح الكثير منا لا يسعه إلا أن يكون مجرد سامع أو ناقل لمثل هذه الإشاعات، لا حول له أمامها ولا قوة، وأصبح الإعلام العربي يردد هذه الأخبار وكأنها حقائق، يقوم بنقلها وإعادة نشرها دون تريث، ودون تمحيص، وقد وصف القرآن الكريم مثل هذه الحالة، ووصف أولئك الذين يسارعون في نقل الأخبار دون التأكد من صحتها بقوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] هكذا هم: أصبحوا كمن يتلقى الأخبار بلسانه لا بأذنه، فهو مجرد أن يسمع الخبر يقوم بنقله، دون التأكد، ودون محاولة الوقوف على صحته أو خطأه. وكأنه أصبح يسمع بلسانه لا بأذنه، فلسانه يتحرك بنقل الخبر، بمجرد سماعه، فينشره، ويصبح بهذا أداة وبوقاً من أبواق هذه الإشاعة، بدل أن يقف سداً منيعاً أمامها، بالتثبت والتريث والتأكد من موافقته للحالة التي قيلت فيها.
فما هو دورنا تجاه كل هذا، وماذا يجب علينا أن نفعل للوقوف أمام هذا المد الهادر من نشرات الأخبار الضالة المضللة، إن كان على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو غيرها من المجالات.
ولا يسعنا هنا لطول هذا الموضوع إلا أن نقف على بعض جوانبه، والتي من أهمها خطورة الإشاعة، وواجبنا نحوها، أفراداً وجماعات وكيف ينبغي لنا أن نتعامل معها، وما هو الواجب الشرعي تجاهها، وأهم الخطوات التي قد تحد من انتشار مثل هذه الظاهرة، وبعض التجارب والنماذج التي حدثت عبر التاريخ من جراء انتشار مثل هذه الإشاعات.
وكما نعلم جميعاً فإن الاشاعة هي الأخبار أو الأحاديث التي يختلقها البعض لإغراض خبيثة، وعادة ما تكون هذه الاشاعات تخاطب الأنفس المضطربة غير المستقرة، فتسري بين الجماهير سريان النار في الهشيم كما يقولون. وعادة ما تأخذ الإشاعات صوراً عدة، منها أخبار لا أساس لها من الصحة، جزء من خبر صحيح، تلفق حوله وتنسج أخبار أخرى، أو يكون خبر ينطوي على بعض العناصر الصحيحة، يبالغ فيها حتى تصبح أخباراً خطيرة ومؤثرة.
ولا شك في خطورة هذه الإشاعات فهي تفرق الصف، وتتهم البريء، وتقلب الموازين، وتعمل على خلخلة الصف وتقطيع أوصال الأمة، ومن الأمثلة الحية التي توضح خطورة الإشاعات حادثة الإفك، وهي الحادثة المفترى بها على الصديقة بنت الصديق، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] في هذه الآية الكريمة تبرئة لأم المؤمنين عائشة، وخطورة مثل هذه الإشاعات، ثم تأتي الآية التي بعدها في بيان ما يجب على المسلم إذا بلغته الشائعات فقال سبحانه: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:12-13].
أنزل الله تعالى الوعيد الشديد على من أحب إشاعة الفاحشة بين المؤمنين فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} } [النور:19]. فإن كان هذا هو عقاب من أحب مجرد الحب أن تشيع الفاحشة، فكيف بمن يساهم في إشعال نيران هذه الإشاعة وبذل فيها جهداً لانتشارها حتى تؤدي أهدافها.
ولبيان خطورة الإشاعات، وبيان كيفية مقاومتها، وبيان أهم الطرق والوسائل في الوقوف في وجهها، أقول: ينبغي أن نهتم بمبدأ التثبت، في الأقوال والأفعال، وأن نتيقن من صحة الأخبار التي نريد أن نقولها، وأن لا نستعجل في نقل الأخبار قبل أن نعرف مدى صحتها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} } [الحجرات:6]. وحول هذا المعنى يقول سيد قطب: "يخصص الفاسق؛ لأنه مظنة الكذب، وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما ينقله أفرادها من أنباء، فيقع ما يشبه الشلل في معلوماتها، فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها، وأن تكون أنباؤهم مصدقة مأخوذاً بها.
فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى يثبت خبره. وبذلك يستقيم أمر الجماعة وسطاً بين الأخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء، ولا تعجل الجماعة في تصرف بناء على خبر فاسق، فتصيب قوماً بظلم عن جهالة وتسرع، فتندم على ارتكابها ما يغضب اللّه، ويجانب الحق والعدل في اندفاع".
وينبغي علينا كأفراد أن نحرص على حفظ اللسان عن كل ما يؤدي بنا إلى أن نصبح من أبواق الإشاعة، فحفظ اللسان هو الأصل في مثل هذه الحالات، قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» (متفق عليه).
وقال صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» (رواه البخاري). وينبغي كذلك معرفة خطورة الغيبة والبهتان، والنميمة، وقذف المحصنات، أو الحديث في الأعراض، وبيان خطورة مثل هذا الأمر في الدنيا والآخرة، والحقيقة أن هناك فرقاً بين الغيبة وبين البهتان، كما يبينه الحديث الشريف الذي يرويه الصحابي الجليل أبو هريرة، ويقول فيه: قال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما الغيبة» ؟قالوا: الله ورسوله أعلم. قال. «ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان فى أخى ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته».
وينبغي كذلك قبل كل شيء إحسان الظن بالمسلمين، والتماس الأعذار لهم، وعدم تتبع عثراتهم وعوراتهم، وعدم الفرح والسرور إن سمعت عن أحد من المسلمين خبراً يسيء إليه، ومحاولة حمل مثل هذا الخبر على أحسن المحامل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» (رواه البخاري).
وقد بين لنا الإسلام خطورة الخوض في الكلام دون التأكد منه، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم» (متفق عليه). وقال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» (رواه البخاري). وينبغي كذلك التحري في تتبع الصدق، والابتعاد عن الكذب، «فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، بينما الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» (متفق عليه).
إن المسؤولية كبيرة على العلماء والدعاة، أن ينشروا مبدأ التثبت أولاً، وأن يكونوا أنفسهم أمثلة حية في الصدق والمصداقية، لا ينقلون من الأخبار إلا الصادق المثبت، وأن يقفوا صداً منيعاً أمام مثل هذه الهجمات الإعلامية المشككة، وأن يضعوا النقاط على الحروف في كل قضية من قضايا الأمة، فكل عالم وكل داعية هو على ثغرة من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قبله.
وينبغي كذلك على القنوات الفضائيات العربية والإسلامية أن تتقي الله في هذه المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وأن لا يكونوا مجرد أبواق للإذاعات العالمية، التي ليس لها همٌّ إلا الوصول إلى مبتغاهم، تحت شعار الغاية تبرر الوسيلة، وهو شعار خبيث مضلل، يتعامل معه الإعلام الغربي وأذنابهم على مستويات عالية، فتراهم من أجل هذا المبدأ لا يرعون في مؤمن إلًّا ولا ذمة، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
وينبغي على الدول العربية، والمؤسسات الحكومية في الدول العربية والإسلامية أن تصد، بل أن تساهم في صد مثل هذه الإشاعات، بتقوية الثقة والعلاقات بين السلطات والشعوب، حتى تعود هذه الشعوب إلى الثقة الكاملة بأهداف قيادات مؤسساتها، وتعلم علم اليقين أن هذه المؤسسات لن ولن تكون يوماً في غير صالح شعوبها وأهدافهم، وأن أهدافهم هي ذات الأهداف التي يريدها الإنسان في كل المجتمعات العربية والإسلامية، عندها وعندها فقط، نكون قد وضعنا الصخرة التي تتحطم عليها كل تلك الإشاعات، وكل هذه الفتن التي تعرض على الإنسان صباح مساء، ذلك أن المواطن العربي أو المسلم عندما يعلم أن المؤسسات الحكومية تسهر بكل طاقاتها من أجل راحة الناس وسعادتهم، ويعلم أن هذه المؤسسات هي بمثابة صمام الأمان لهذه الأمة، وأن العيون الساهرة لن تسمح لأي إشاعة أو خبر أن يفت من عضد هذه الأمة، فتكون البيوت آمنة، والشوارع مضيئة ليس بأضواء الكهرباء فحسب، إنما بالأمن والأمان والسلامة والإسلام، والثقة المتبادلة بين الشعوب وقادتها، حتى يكون الجميع في سعادة وطمأنينة، يعيشون حياتهم وينامون ليلهم الطويل، وهم يشعرون أن هناك من يقوم لهم بالمسؤولية الكاملة، وهناك من يرصد كل جديد، ثم يوزع مهمة الرد على مؤسسات الدولة، حسب اختصاصاتها، من أجل أن يعيش المواطنون في أمن وأمان، وفي سلامة من كل شر وفتنة، هذا والله تعالى أعلم.
____________________________________________________________
الكاتب: ( د. عبد الله عطا عمر )
- التصنيف: