لتَتَّبِعُـنَّ سَنَنَ مَن كان قَبلَكُم
شدد النبي ﷺ في مخالفتهم وعدم مشابهتهم لأن في هذا التشبه ذهابَ الهويةِ الإسلامية وذوبانَ الأمة في أخلاق وعادات وأفعال غيرها...
- التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها - نصائح ومواعظ -
عن أبي سعيد رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَمَن»؟! (رواه الشيخان).
وفي رواية عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- مرفوعاً: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القُذَّةِ بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه». قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن»؟.
وروى البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع»، فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: «ومن الناس إلا أولئك».
هذا الحديث الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم علامة من علامات نبوته، ودلالة من دلالات صدق رسالته؛ فقد أخبر بغيب أنه سيكون بعده، فكان على ما وفق ما قال، فعُلِم أنه مما أوحى الله إليه به كما قال سبحانه: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم:3، 4].
يخبر صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الأمة ـ أمة الإسلام ـ ستأخذ بمأخذ القرون والأمم قبلها، وتسير على سيرهم، وأنها سوف تقلدهم في عاداتهم وتقاليدهم ومناهجهم وفي كل ما يعملون، سواء كان ذلك في أمر دنياهم وطرائق معايشهم، وسياسات دولهم، أو حتى في ملابسهم وأساليب حياتهم، وسواء كان في أمر دينهم وبدعهم، وحتى في كفرهم.. والسير على ما استحدثوه من قوانين واخترعوه من أفكار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «شبرا بشبر وذراعا بذراع»: يدل على أن هذا التشبه والاتباع يكون في قصير الأمر وطويله، وصغيره كبيره، وجليله وحقيره.
وقوله: «حذو القُذَّةِ بالقُذَّة، والنعل بالنعل»، أي أن المشابهة ستكون كاملة حتى تقترب من المطابقة، كمشابهة ريشة السهم بأختها، ومشابهة فردة النعل بمجاورتها، حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانية لكان من هذه الأمة من يفعل ذلك.
وقوله: «حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته، ونتن ريحه وخباثته، وفيه دليل على تمام الاتباع وكماله، وشدة موافقتهم وتقليدهم، حتى لو كان من وراء هذا التقليد السوءُ والشرُّ، والوقوع في الحرج والضر، والضيق والعنت، والمخالفة والمعاصي، وحتى لو كان من ورائه سوءُ النتائج، ووخيم العواقب، وفسادُ الأسر والمجتمعات، وضياع الدين والمبادي والأخلاق.
وقد وقع ما أخبر به الصادق المصدوق كما أخبر تماما، وقد كانت تباشيره في عهده عندما مر المسلمون على شجرة كان المشركون "ينوطون" أي يعلقون عليها سيوفهم يلتمسون بركتها، فقالوا له: اجعل لنا ذات أنواط.
كما روى أحمد والترمذي عن أبي واقد الليثي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم» (قال الترمذي حسن صحيح).
وما زال هذا التشابه يزداد من بعد القرون الأولى وإلى يومنا هذا، حتى كاد أن يبلغ مداه ومنتهاه، فتابعناهم في كل ما فعلوه من أخلاق ذميمة، وبدع محدثة، وعادات فاسدة، وأفعال سقيمة.
سقطوا في مستنقع الرذيلة فسقطنا، وفعلوا المعاصي والآثام والشر ففعلنا، وأكلو الربا فأكلنا، ونشروا الزنا والقبائح وما تستره غرف النوم فصورنا مثلهم ونشرنا، حتى ما يكون بين الرجل وأهله.. ودعوا إلى كل ما يخالف الفطر السوية والشرائع الربانية فما أنكرنا فعلهم، بل صار منا من يدافع عنهم وعن قذاراتهم.
اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فكان من هذه الأمة من عظم القبور والمشاهد، ودعوا إلى الاختلاط والتبرج والتعري فاختلطت كثير من نساء المسلمين برجالهم وتبرجن وتعرين.
أقاموا المسارح والسينمات والحفلات الماجنة والراقصة فأقمناها، حتى شواطئ العراة في بعض بلاد المسلمين مثلها.
شابهناهم في كل شيء حتى في حلق الرؤوس، ووشوم الأجساد والأيدي والأرجل، ولبس الحلقان والسلاسل والبناطيل المقطعة، والموضات الفاضحة والمضحكة.
حتى الإسلام لما حاربوه تحت مسمى العلمانية قام عندنا من يقول: "لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة"، ومن ينادي بهجر الشريعة وترك أحكامها خصوصا في ميراث المرأة والرجل.
والعجيب أنهم اخترعوا أعيادا تتعلق بمعتقداتهم الباطلة وأديانهم الفاسدة فاحتفلنا بها معهم. حتى أيام أجازاتهم قلدناهم فيها وتوقفنا عن العمل فيها معهم.
تحذير وتخويف:
إن هذا التشبه الذي أخبر عنه النبي أنه كائن قد نهى عنه صلوات الله عليه وحذر منه، كما هو هنا في هذا الحديث وغيره، كقوله لأتباعه: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ»، وفي رواية لمسلم: «خَالِفُوا الْمَجُوسَ»، وقوله: «مَن تَشَبَّهَ بِقَومٍ فهو مِنهُم» (أبو داود)، وثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إياكم وزي الأعاجم) (وصححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/286)).. إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.
وإنما شدد النبي صلى الله عليه وسلم في مخالفتهم وعدم مشابهتهم لأن في هذا التشبه ذهابَ الهويةِ الإسلامية وذوبانَ الأمة في أخلاق وعادات وأفعال غيرها، وخروجًا بها عن شرعتها وطريقتها وسنن حياتها إلى شرعة غيرها وطريقتهم وسنن حياتهم، وهذا موذن بضياع الأمة وهلاكها.
وفي الحديث دعوة للأمة أن تعتز بدينها، وتهتم بثقافتها، وتتمسك بعقيدتها، وتفتخر بإسلامها، وتلتزم نهج وسنة وسيرة نبيها، طاعة لنبيها، واستجابة لأمر ربها وإلهها {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].