الطوفان لا يُوقفه الخذلان
مثَّلت عملية طوفان الأقصى نقطة تحوُّل؛ فقد تمَّ وَأْد كثير من المشاريع وإعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة، كما عادت قضية فلسطين إلى الواجهة؛ فحلّ الدولتين الذي لم يأخذه اليهود على محمل الجد تحوَّل إلى أمل بعد عودة شعار فلسطين من النهر إلى البحر.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
د لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
مع دخول حرب طوفان الأقصى -التي وصفها بيني غانتس عضو مجلس الحرب الإسرائيلي ورئيس الوزراء السابق بحرب البقاء الثانية- شهرها الثالث، تسارعت الأحداث بشكل لافت للنظر؛ فنحن أمام خريطة تفاعلية معقدة، كثيرة التفاصيل، ومتغيرة على الدوام، وسنحاول تبسيط المشهد قدر الإمكان.
من الجانب العسكري نلاحظ أن العدو يتصرّف بدافع الانتقام من الهزيمة المُذلّة، ويحاول التغطية على الفضيحة التي حلَّت بالمنظومتين الأمنية والعسكرية، ولذا كان الهدف المُعلَن هو القضاء على حماس قضاءً مبرمًا، واستنقاذ الأسرى، أو مَن يسميهم المخطوفين، عن طريق عمل عسكري سريع في غزة.
وقد كان تبنّي الإدارة الأمريكية الكامل للعملية العسكرية معلَنًا على لسان الجميع؛ من الرئيس بايدن، ووزراء الخارجية والدفاع وأتباعهم، في مظاهرة تكرّر نفس التصريحات؛ من إدانة العمل الإرهابي لحماس، وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ووجوب إطلاق جميع المخطوفين، وصاحَب ذلك فتح مخازن السلاح الأمريكية على مصراعيها.
ومن الطبيعي هنا أن حضور قادة الجيش الأمريكي، خاصةً الذين أداروا العمليات في أفغانستان والعراق، ومشاركة كلّ من الرئيس ووزيري الخارجية والدفاع بصورة متكررة في مجلس الحرب الصهيوني؛ سيؤدي إلى سيادة الأسلوب الأمريكي، ولذا كان الحديث يدور هل سيطبق سيناريو الموصل أم الفلوجة.
ومع بداية العمليات كان من الواضح أن العدوان يقوم على أساس طحن الحاضنة الشعبية؛ لدَفْعهم للتخلي عن المقاومة أو الخروج من غزة، ولذا فإن تمسك الشعب البطل بأرضه، وتبنّيه خيار المقاومة؛ دفَع العدو للدخول في حرب برية يفتقد فيها المعلومة عن خَصْمه، ولا يملك الإرادة، وبالتالي فقد كان الإسراف في استخدام الذخيرة دليلاً على ضعف الروح المعنوية، وكانت الطامة الكبرى أنَّ طلب الإدارة الأمريكية من الكونجرس الموافقة على حزمة مساعدات لإسرائيل، تم رفضه في مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون، وقامت الخارجية بتمرير صفقة ذخيرة للدبابات، وأتبعتها بثانية هي مدافع ثقيلة عيار 155 ملم ذاتية الحركة قديمة الطراز؛ تحت بند الطوارئ، ودون المرور على المجالس التشريعية.
وهنا فقدت الإدارة الأمريكية القدرة على الاستمرار في الدعم العسكري، مع تنامي الرفض الشعبي المدعوم من جزء من الحكومة العميقة، وهنا دخلت الإدارة الديمقراطية في مرحلة جديدة تُلخّصها تصريحات بايدن الذي استغل عيد الحانوكا اليهودي، ودعا لحفلٍ حضره أقارب بعض الأسرى الأمريكيين، وقال: «أنا أعرف نتنياهو منذ خمسين عامًا عندما كنت سيناتورا ولدي صورة معه معلقة في مكتبي، وقد كتبت عليها بيبي كم أحبك! ولكن كم أكره كلماتك اللعينة».
وهذا يمكن اعتباره بداية فرض الأمريكان أنفسهم على نظام الحكم في إسرائيل؛ فقد انتقد حكومة نتنياهو، وطالَب بتعديلها، وتغيير بعض الوزراء المتطرفين، وبدأ الإعلام الأمريكي يفتح المجال لمسؤولين عسكريين أن يقولوا من قبيل أن المشكلة عنجهية الإسرائيليين، وأن قصف المدنيين مقصود، بل وصفه بايدن بالعشوائي، وهو ما يُفسِّر تمرير صفقة المدافع 107 إم ذاتية الحركة تحت ستار بنادق 107 إم وملحقاتها.
والغريب أن كل وسائل الإعلام مررت هذا التعبير، وبعضها أضاف عيار 155 ملم؛ فهذه المدافع القديمة مثالية للقصف العشوائي هائل التدمير، المُعبِّر في أوضح صوره عن الإجرام المُغلَّف بكثير من الكلام المُنمَّق والفارغ من كل مضمون عن تقليل معاناة المدنيين.
والحقيقة أن صمود المقاومة البطولي، المقترن بصبر وثبات أهلنا في غزة؛ يُمثِّل إشكالية تهدد فرص الحزب الديمقراطي بالفوز في الانتخابات القادمة؛ إلا إذا قدم وجوهًا جديدة، ففرص بايدن ومجموعته بالفوز باتت ضئيلة، وهو ما يُفسِّر لعب نتنياهو بورقة فضيحة جزيرة ابستاين في ابتزاز سافر للشخصيات التي لم يُصرّح باسمها؛ فقد طفت على السطح من جديد قضية ابستاين الذي تولّى توريط شخصيات مهمة على مستوى العالم في ممارسات جنسية مع قُصّر لحساب الموساد، وممن ذُكرت أسماؤهم: كلينتون وترامب والأمير أندرو ابن ملكة بريطانيا، وكثير من المشاهير، ولكنّ المهم مَن لم يصرّح باسمه فهو تحت تهديد أكبر عقلية تآمرية تحكم دولة الكيان؛ فنتنياهو يخوض حربًا متعددة الجبهات؛ إحداها مُواجهة طوفان الأقصى وتوابعه، ولكنّه أيضًا يعرف أنه مُستهدَف من بايدن وإدارته، ومن المعارضة السياسية اليسارية المتحالفة مع الجيش، ويعاني أيضًا من ابتزاز حلفائه المتطرفين، ويخاف من العزل المبكر، ولذا فاستمرار الحرب وتوسُّعها هو حبل النجاة الوحيد بالنسبة إليه، ولن يتم هذا إلا بتوريط أمريكا في صراعات متعددة في المنطقة؛ حتى تبقى حاضرة بقوة، ومشتبكة مع كلّ مَن يهدد تحكمها التام بالمنطقة، وكل هذا قائم على فرض أن أمريكا ستتخذ من فلسطين المحتلة قاعدة الارتكاز الرئيسية في المنطقة، وهو ما لا يمكن ضَمانه؛ فسير الأحداث لا يخدم هذه الفرضية.
سير الأحداث:
يمكن تحليل الحدث المعقد بتفكيك مكوناته الأساسية، وبيان حال الأطراف المشاركة أو المتأثرة وهي كالآتي:
أولاً: دولة الكيان الصهيوني
هذا الاسم نابع من كون الدولة مشروع الحركة الصهيونية العالمية لقيام وطن قومي لليهود في فلسطين، ويُلاحظ أن رموز الحركة الصهيونية من اليهود كانوا علمانيين من البداية، حتى بعيد حرب 1973م؛ حيث برز تيار صهيوني متدين يُمثّله تجمع الليكود ومجموعة من الأحزاب الدينية المتطلعة للمشاركة في الحكم، ونحن حاليًّا أمام تحالف بين الليكود برئاسة نتنياهو وأحزاب متطرفة يغلب عليها الغوغائية؛ فشعاراتها ومواقفها الشعبوية تساهم بقوة في عرقلة المشروع الصهيوني، وتصدق عليهم الآية الكريمة {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الحشر: 2].
فمثلاً وزير الأمن القومي الإسرائيلي، العراقي الأصل؛ إيتمار بن غفير، دعا إلى تهجير سكان غزة، وزعم أنه حل إنسانيّ! بدعوى أنهم يعانون، وأن هناك الكثير حول العالم يؤيدوننا، وعندما انتقدت أمريكا تصريحاته رد بقوله: «أحترم الولايات المتحدة؛ فهي أفضل حليف لنا، ولكن إسرائيل ليست نجمة على العَلم الأمريكي». وهي كلمة كرّرها؛ مما يدل على مستوى وعيه السياسي.
وأما وزير التراث عميحاي الياهو، وهو عراقي الأصل ينتمي لحزب ابن غفير فقال: «إن إلقاء قنبلة نووية على غزة خيار مطروح»، وكان التصريح مُحرجًا؛ لكونه اعترافًا بحيازة أسلحة نووية، مما دفع نتنياهو لتعليق مشاركته في اجتماعات الحكومة.
ونحن هنا عندما نشير إلى البلد الأصلي؛ نشير إلى أن السياسيين من الصهيونيين المتدينين ينتمون غالبًا للسفاردم (اليهود الشرقيين)، وهو تيار تلمودي، ويشذ عنهم مثيلهم وزير المالية؛ فهو أوكراني الأصل، ويُردّ توترهم إلى أن الحرب وأهدافها الغامضة والتقصير الأمني والعسكري قد يُخرجهم من الحكم؛ فهناك استياء شديد من أداء الحكومة، والأهم أن هناك مَن يتهمهم بأن أعمالهم الاستفزازية في الضفة والمسجد الأقصى كانت سببًا في اشتعال الحرب. ومن هنا نجد أنهم حريصون على منع أيّ محاولة للتحقيق في ما جرى قبل نهاية الحرب؛ أملًا في نصر وإنجاز يُقلِّل من أثر التحقيق.
وهذا يقودنا إلى حالة الانقسام العميقة والصراع العلني؛ فرؤساء الوزراء السابقون أولمرت وباراك يركزون على خطورة بقاء نتنياهو على مستقبل الدولة، ويوافقهم زعماء المعارضة.
وأما وزير الدفاع فعداوته مع نتنياهو علنية حتى وصلت إلى رفضه مشاركته في المؤتمرات الصحفية، وحتى نعرف مبلغ التوتر؛ ففي موقف لافت منَع نتنياهو وزير الدفاع من الاجتماع برئيسي الموساد والشين بيت، وكذلك تعرَّض رئيس الأركان لهجوم شرس ومباشر من وزراء الحكومة؛ لمجرد أنه حاول تشكيل لجنة تحقيق لتقويم أدء الجيش في العمليات، وكانت الملاسنات من الشدة بحيث اضطر نتنياهو لرفع الجلسة.
ويشير البعض إلى أن نتنياهو هو الذي حرَّض الوزراء على إيقاف أيّ تحقيق أيًّا كان، ولا ننسى أن ثقة نتنياهو معدومة بمحيطه؛ فمن تفتيش رئيس الأركان قبل دخوله مجلس الحرب، إلى طلب عرض الوزراء على جهاز كشف الكذب قبل دخولهم المجلس؛ لمنع التسريبات، وفي المحصلة فالوزراء المتدينون المعفون من الخدمة يهاجمون الجيش، والجيش يحاول التنسيق مع المعارضة لإسقاط نتنياهو بالتنسيق مع أطراف في أمريكا، ولذا فالجميع يعملون تحت ضغط شديد، ولا يُتصور أن يكون مخرج هذا الخليط غير المتجانس إيجابيًّا، ويبدو أن الصراع الداخلي سيقود إلى صراع أكبر؛ فداعمو الكيان أمام مفترق طرق يحدد شكل الدولة ومقدار الدعم والرعاية، فإذا كانت الصهيونية العلمانية التقليدية تدعم اليسار والجيش، فمن الذي يدعم نتنياهو وحلفاءه من الصهيونية المتدينة؟ فقوتهم في الداخل تشير إلى داعم خارجي خفي، ومن نعم الله ظهور آثار عملية الطوفان المباركة بإذكاء العداوة الكامنة بينهم، وصدق الله في كتابه العزيز: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14].
ثانيًا: الغرب
يُلاحظ أنه في بداية الحرب كان هناك استنفار سريع سياسي وعسكري وإعلامي تقوده أمريكا؛ التي يبدو أنها ترغب في أن تقوم حليفتها المدللة بإنهاء الوجود الفلسطيني في غزة، وتهجير السكان، ولكن استعجال اليهود دخول غزة بريًّا قبل استكمال تطبيق التكتيك الأمريكي في استمرار القصف حتى خروج مَن يتبقى من السكان؛ قد أحرج الإدارة، وأجبرها على دعم سيناريو غير مقتنعة به؛ فغادر جنرالات الحرب الأمريكان، وتُرك الأمر لحكومة الاحتلال التي دخلت في دوّامة من التخبُّط السياسي والفشل العسكري والإعلامي، ونجحت أمريكا في إخافة الجميع وإجبار الكثيرين على إظهار التعاطف مع دولة الاحتلال، وعرقلة وصول الدعم الإنساني الكافي لغزة.
ولما كانت أمريكا تتصرف بعنجهية وتجبر وبصورة استعراضية، فعامِل الوقت ليس في صالحها؛ فبوتين يقول: «إنه لم يفهم الهدف من وجود أمريكا العسكري في شرق المتوسط»؛ وهذا يعتبر تهديدًا في العُرْف السياسي، ولذا فقد تم سحب حاملة الطائرات وسُفنها المرافقة وسط دهشة واستغراب اليهود الذين أحسّوا يتباطؤ الدعم العسكري الأمريكي؛ فالمستنقع مخيف، فأوكرانيا تحتضر، ومشروع تصفية القواعد الأمريكية في العراق قد بدأ، وسيتبعها تقلص الوجود في سوريا، ومشروع البحر الأحمر يحتاج تركيزًا أكبر؛ فالسودان لم يُحْسَم أمره، وإثيوبيا تشترط شريطًا ساحليًّا على البحر؛ وحرب المضايق قد تندلع في أيّ لحظة، ويتحول البحر الأحمر إلى مصيدة للسفن الكبيرة، ولذا فأمريكا حريصة على حَشْد ما تستطيع لتحالف الازدهار، فحتى سيشل تمثل إضافة!!
إن توسع رقعة الاحتقان في المنطقة وحول العالم، وروح التمرد واللامبالاة لدى طفلها المدلل؛ يحتّم على أمريكا إيقاف الحرب، وحيث إن حماس لن تقبل أمريكا ضامنًا لأيّ اتفاق وعجز مصر وقطر؛ فقد اتجهت أمريكا لتركيا طلبًا للمساعدة في تهدئة الوضع، وقبول تركيا للمهمة مغامرة خطيرة؛ فشلها سيُفْقد تركيا رصيدًا بَنَته لسنوات، ولذا فإن من الحكمة التقوّي بأطراف دولية أخرى، مثل روسيا والصين؛ فهذا التكتل فقط يُمكنه لَجْم دولة الاحتلال، وهو الخيار الأفضل لتركيا، ويمكن أن تقبله أمريكا في حالة الاضطرار القصوى. أمريكا في مأزق ولا ينبغي خدمتها في هذه الظروف.
ثالثًا: غزة هاشم
مثَّلت عملية طوفان الأقصى نقطة تحوُّل؛ فقد تمَّ وَأْد كثير من المشاريع وإعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة، كما عادت قضية فلسطين إلى الواجهة؛ فحلّ الدولتين الذي لم يأخذه اليهود على محمل الجد تحوَّل إلى أمل بعد عودة شعار فلسطين من النهر إلى البحر.
وحتى نتصور ما يجري على الأرض؛ يمكن مقارنة الإعلام الحربي للجانبين، يُضاف إليه حرص العدو على مَنْع نقل أوضاع المدنيين في غزة؛ فقد قتل حوالي 200 صحفي، كان منهم معظم عائلة الصحفي المتميز وائل الدحدوح، وآخرهم ابنه حمزة -رحمه الله، وثبّت أباه، وأعظم أجره-.
ومن مظاهر الفشل العسكري للعدو: بَحْثه عن انتصار حتى في تصفية قيادة سياسية لحماس يفترض أن تكون قناة للتفاوض، ولا يمثل غيابها عاملًا مؤثرًا على سير المعارك على الأرض، فالعدو يستجدي أمريكا الذخيرة وحتى المدافع القديمة، ويقابله تساؤلات إعلامية يفوح منها تمنّي نفاد سلاح المقاومة التي تُدير المعركة بمهنية وتصميم لم يُوهنه خذلان مَن عجز حتى عن توصيل كميات كافية من حاجات المدنيين الأساسية؛ كأنهم ينتظرون مرحلة الانكسار المدني والعسكري لهذه الفئة الوحيدة التي ترفع راية الجهاد في هذه اللحظات؛ مما يذكرنا بحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- المتواتر حول الطائفة المنصورة -سائلين المولى سبحانه أن يغفر لنا تقصيرنا، وأن يتقبل دعاءنا وأملنا أن تشملهم بشرى نبينا بأن الأمة لا تخلو من قائم بأمر الله؛ فجهادهم ظاهر، وطلبهم للشهادة وهم سجود نشَره وبثّه عدوّهم-؛ ففي رواية في صحيح مسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ»، وهو ما يعزينا ويقوينا أن الخذلان لا يمكن أن يُوقف الطوفان.